الباحث القرآني

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ قَوَاعِدِ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَسَاسِ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَأَحَادِيثُ الْغَرَرِ، وَاعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالْمَصَالِحِ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقُ كُلِّ مُؤَالِفٍ وَمُخَالِفٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى تُبَيِّنَهُ بِالدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومُ؛ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعْيِينُ الْبَاطِلِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} [البقرة: 188]: الْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]: الْمَعْنَى: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَوَجْهُ هَذَا الِامْتِزَاجِ أَنَّ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ فِي الْحُرْمَةِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ رِقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ تَقْتَضِيهِ وَشَفَقَةَ الْآدَمِيَّةِ تَسْتَدْعِيهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا} [البقرة: 188]: مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْخُذُوا وَلَا تَتَعَاطَوْا. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ التَّمَتُّعَ بِهِ فِي شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا} [البقرة: 188] فَخَصَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ؛ لِأَنَّهَا الْأُولَى الْمُثِيرَةُ لِشَهْوَةِ الْفَرْجِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى بِالْبَاطِلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]: يَعْنِي: بِمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يُفِيدُ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ، وَمَنَعَ مِنْهُ، وَحَرَّمَ تَعَاطِيَهُ، كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]: أَيْ: تُورِدُونَ كَلَامَكُمْ فِيهَا: ضَرَبَ لِلْكَلَامِ الْمَوْرُودِ عَلَى السَّامِعِ مَثَلًا بِالدَّلْوِ الْمَوْرُودَةِ عَلَى الْمَاءِ، لِيَأْخُذَ الْمَاءَ وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ: وَتُدْلُوا كَلَامَكُمْ. أَوْ يَكُونُ الْكَلَامِ مُمَثَّلًا بِالْحَبْلِ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ مُمَثَّلًا بِالدَّلْوِ؛ لِتَقْطَعُوا قِطْعَةً مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِكُمْ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُخَاصِمُ. {بِالإِثْمِ} [البقرة: 188]: أَيْ مَقْرُونَةً بِالْإِثْمِ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]: تَحْرِيمَ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ مَدَار حُكْمِ الْحَاكِمِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ قَطْعًا غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَدَارَ حُكْمِ الْحَاكِمِ [هُوَ فِي الظَّاهِرِ] عَلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ عِلْمُهُ، فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُصْطَفَى لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْبَاطِنِ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْ تَعَدِّي حُكْمِهِ إلَيْهِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ؟. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا} [البقرة: 188] بِحُكْمِهِمْ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] بُطْلَانَ ذَلِكَ، وَالْحَاكِمُ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، وَالظَّالِمُ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب