الباحث القرآني

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّكْبِيرُ. وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فَاعْلَمُوا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ إلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ بِالْعَقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَيَّامُ الرَّمْيِ مَعْدُودَاتٌ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ مَعْلُومَاتٌ؛ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مَعْدُودٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ وَاَلَّذِي أَصَارَهُمْ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] أَنَّهَا أَيَّامُ مِنًى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرَّمْيِ فِيهَا. وَاعْلَمُوا أَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ. أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ»، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَفِيضُوا يَعْنِي: إلَى مِنًى عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوَّلُهُ لِلْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَآخِرُهُ لِمِنًى، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِمِنًى لَمْ يُعَدَّ فِيهَا، وَصَارَتْ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةً سِوَى يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدً الْإِطْلَاقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ قَالَ حِينَئِذٍ عُلَمَاؤُنَا: الْيَوْمُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْدُودٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِمِنًى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَلَا مِنْ الَّتِي عَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ»، وَكَانَ مَعْلُومًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ، وَكَانَ النَّحْرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّابِعِ نَحْرٌ؛ فَكَانَ الرَّابِعُ غَيْرَ مُرَادٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْحَرُ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ؛ فَصَارَ مَعْدُودًا فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الرَّمْيِ، غَيْرَ مَعْلُومٍ لِعَدَمِ النَّحْرِ فِيهِ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مَعْدُودٌ بِالرَّمْيِ مَعْلُومٌ بِالذَّبْحِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا لَيْسَ مُرَادًا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَكُونُ كَمَا قُلْتُمْ يَوْمُ النَّحْرِ مُرَادًا فِي الْمَعْدُودَاتِ وَتَكُونُ الْمَعْدُودَاتُ أَرْبَعَةً وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةً؟ وَكَمَا يُعْطِي ذِكْرُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةً كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَرْبَعَةً. فَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى بِمَعْدُودٍ وَلَا بِمَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْدُودٍ مَعْلُومٌ، وَكُلَّ مَعْلُومٍ مَعْدُودٌ، لَكِنْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِذِكْرِ الْمَعْدُودَاتِ هَاهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا قَدْ اسْتَحَقَّ أَوَّلُهُ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَمِنْهُ تَكُونُ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى؛ فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْإِفَاضَةِ، وَبَعْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ». وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مَعْدُودًا مِنْهَا لَاقْتَضَى مُطْلَقُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَنْ نَفَرَ فِي يَوْمِ ثَانِي النَّحْرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْدُودٍ فِيهَا لَا قُرْآنًا وَلَا سُنَّةً، وَهَذَا مُنْتَهَى بَدِيعٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدْفَعُهُ؛ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الذِّكْرِ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُوَ الْحَاجُّ، خُوطِبَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْحَاجِّ فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ أَيْضًا خِطَابٌ لِلْحَاجِّ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ؟ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَالْمَشَاهِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْبِيرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ؛ فَيُكَبِّرُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ، كَانَ الْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرًا ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُهُ [وَالْمُزَنِيُّ]. وَالثَّانِي: مِثْلُهُ فِي الْأَوَّلِ، وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ: يُكَبِّرُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. الرَّابِعُ: يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُكَبِّرُ عَرَفَةَ وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ قَالَ هَؤُلَاءِ: يُكَبِّرُ فِي يَوْمَيْنِ؛ فَتَرَكُوا الظَّاهِرَ لِغَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: إنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 198] فَذِكْرُ عَرَفَاتٍ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الْأَيَّامِ، وَهَذَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ قَالَ يُكَبِّرُ مِنْ الْمَغْرِبِ يَوْمَ عَرَفَةَ، لِأَنَّ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ حِينَئِذٍ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ الظُّهْرِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مُتَعَلِّقِ قَوْله تَعَالَى: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْحُلُولِ بِمِنًى. وَمِنْ قَصَرَهُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ظَاهِرٌ، وَأَنَّ تَعَيُّنَهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا بِالرَّمْيِ، وَأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْآفَاقِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ فِيهَا، وَلَوْلَا الِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ لَضَعُفَ مُتَابَعَةُ الْحَاجِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ الْآفَاقِ إلَّا فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب