الباحث القرآني

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذَّمِّ أَهْلُ الْحَرَمِ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66] مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، أَيْ بِالْحَرَمِ، يُرِيدُ يَتَعَاطَوْنَ بِهِ الْكِبْرَ وَيَدَّعُونَ، حَتَّى كَانُوا يَرَوْنَ النَّاسَ يَتَخَطَّفُونَ مِنْ حَوْلِهِمْ، وَهُمْ آمِنُونَ. وَمِنْ الْكِبْرِ كُفْرٌ، وَهُوَ التَّكَبُّرُ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِسْقٌ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْكُفَّارِ إيمَانٌ؛ فَلَيْسَ الْكِبْرُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ بِحُكْمِ مُتَعَلَّقِهِ. [مَسْأَلَة التَّحَلُّقُ بِاللَّيْلِ لِلسَّمَرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {سَامِرًا} [المؤمنون: 67] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حَلْقًا حَلْقًا، وَأَصْلُهُ التَّحَلُّقُ بِاللَّيْلِ لِلسَّمَرِ، وَكَنَّى بِقَوْلِهِ: سَامِرًا عَنْ الْجَمَاعَةِ، كَمَا يُقَالُ: بَاقِرٌ وَجَامِلٌ لِجَمَاعَةِ الْبَقَرِ وَالْجِمَالِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَثَلِ: لَا أُكَلِّمُهُ السَّمَرَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي فِي قَوْلِهِمْ: اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: السَّمَرُ ظِلُّ الْقَمَرِ. وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمَا: ابْنَا سَمِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ جِبِلَّةٌ، وَفِي اللَّيْلِ عَادَةٌ، فَانْتَظَمَا، وَعُبِّرَ عَنْهُمَا بِهِ، وَقَدْ قَرَأَهُ أَبُو رَجَاءٍ سُمَّارًا جَمْعُ سَامِرٍ. وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّمَا وَحَدّ سَامِرًا، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ يَعْنِي وَالْوَقْتُ وَاحِدٌ، وَإِذَا خَرَجَ الْكَلَامُ عَنْ الْفَاعِلِ أَوْ الْفِعْلِ إلَى الْوَقْتِ وُحِّدَ لِيَدُلَّ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ بَابِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]: قُرِئَ بِرَفْعِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَبِنَصَبِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ؛ فَالْأَوَّلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْجَرَ إذَا نَطَقَ بِالْفُحْشِ. وَالثَّانِي مِنْ هَجَرَ إذَا هَذَى، وَمَعْنَاهُ تَتَكَلَّمُونَ بِهَوَسٍ، وَلَا يَضُرُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ إنَّمَا ضَرَرُهُ نَازِلٌ بِكُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ " هَجَرَ " فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِحَرَمِي، تَهْجُرُونَ نَبِيِّ وَزَادَ قَتَادَةُ أَنَّ سَامِرَ الْحَرَمِ آمِنٌ، لَا يَخَافُ بَيَاتًا، فَعَظَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ السَّمَرَ فِي الْأَمْنِ وَإِفْنَاءَهُ فِي سَبِّ الرَّسُولِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، إنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ قَوْمًا بِأَنَّهُمْ يَسْمُرُونَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، إمَّا فِي هَذَيَانٍ، وَإِمَّا فِي إذَايَةٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ وَغَيْرِهِ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ؛ أَمَّا الْكَرَاهِيَةُ لِلنَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَلِئَلَّا يُعَرِّضَهَا لِلْفَوَاتِ. وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فِيهَا: " فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ ". وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ السَّمَرِ بَعْدَهَا؛ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ كَفَّرَتْ خَطَايَاهُ، لِيَنَامَ عَلَى سَلَامَةٍ، وَقَدْ خَتَمَ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ الْكَاتِبُ صَحِيفَتَهُ بِالْعِبَادَةِ، فَيَمْلَؤُهَا بِالْهَوَسِ، وَيَجْعَلُ خَاتَمَهَا الْبَاطِلَ أَوْ اللَّغْوَ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّمَا يُكْرَهُ السَّمَرُ بَعْدَهَا لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ وَالسَّمَرَ بَعْدَ هَدْأَةِ الرِّجْلِ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَبُثُّ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ، أَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَخَمِّرُوا الْآنِيَةَ، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ». وَكَانَ عُمَرُ يَجْدِبُ السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، أَيْ يَعِيبُهُ، وَيَطُوفُ بِالْمَسْجِدِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَيَقُولُ: " الْحَقُوا بِرِحَالِكُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكُمْ صَلَاةً فِي بُيُوتِكُمْ " وَقَدْ كَانَ يَضْرِب عَلَى السَّمَرِ حِينَئِذٍ وَيَقُولُ: " أَسَمَرًا أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَنَوْمًا آخِرَهُ، أَرِيحُوا كِتَابَكُمْ "، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَرَضَ بَيْتَ شِعْرٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يُصْبِحَ " وَأَسْنَدَهُ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَذَكَرَ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ، وَرَاثَ عَلَيْنَا، حَتَّى جَاءَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: انْتَظَرْنَا النَّبِيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى إذَا كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَجَاءَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: «أَلَا إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَرَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلَاةَ». قَالَ الْحَسَنُ: " وَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ فِي خَيْرِ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ ". ثُمَّ قَالَ: " بَابُ السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ ": وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ»، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ، وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ بِعَشْرَةٍ. قَالَ: فَهُوَ وَأَنَا وَأَبِي وَأُمِّي، وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ: وَامْرَأَتِي وَخَادِمٌ بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتْ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ النَّبِيُّ، فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِك؟ قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ، قَالَتْ: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ. قَالَ: فَذَهَبْت أَنَا فَاخْتَبَأْتُ. وَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: " كُلُوا، لَا هَنِيئًا، وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا. وَاَيْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا ". قَالَ: وَشَبِعُوا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ، فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ. فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ، مَا هَذَا قَالَتْ: لَا، وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ مِرَارٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إلَى النَّبِيِّ، فَأَصْبَحْت عِنْدَهُ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الْأَجَلُ، فَفَرَّقْنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ السَّمَرِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ هَجْرِ الْقَوْلِ أَوْ لَغْوِهِ، أَوْ لِأَجْلِ خَوْفِ فَوْتِ قِيَامِ اللَّيْلِ. فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ هَذَا أَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَةٌ أَوْ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَنْزَعِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخَذٌ آخَرُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب