الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْلِهِ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَلَكًا، وَعَيَّرُوهُ بِالْمَشْيِ فِي السُّوقِ، فَأَجَابَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، فَلَا تَرْتَبْ بِذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ بِهِ، فَإِنَّهَا شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا، وَحُجَّةٌ قَاهِرٌ لَك خَارُهَا.
وَهَذَا إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ عِنَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْجِزَةُ، وَوَضَحَتْ فِي صِدْقِهِ الدَّلَالَةُ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى سَأَلُوهُ آيَاتٍ أُخَرَ سِوَاهَا وَأَلْفُ آيَةٍ كَآيَةٍ عِنْدَ الْمُكَذِّبِ بِهَا، وَأَوْقَعَهُمْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جَهْلُهُمْ حِينَ رَأَوْا الْأَكَاسِرَةَ وَالْقَيَاصِرَةَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ الْأَسْوَاقِ أَنْكَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَاعْتَقَدُوهُ مَلِكًا يَتَصَرَّفُ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَمَجَنَّةِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا يَدْخُلُ الْخَلَصَةَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ قَالُوا: هَذَا مَلِكٌ يَطْلُبُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْنَا، فَمَا لَهُ يُخَالِفُ سِيرَةَ الْمُلُوكِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُهَا لِحَاجَتِهِ، أَوْ لِتَذْكِرَةِ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُرْجِعَ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ.
[مَسْأَلَة دُخُول أَرْبَابِ الْفَضْلِ وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ الأسواق]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
لَمَّا كَثُرَ الْبَاطِلُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَظَهَرَتْ فِيهَا الْمَنَاكِرُ، كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا دُخُولَهَا لِأَرْبَابِ الْفَضْلِ، وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ، تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا.
وَفِي الْآثَارِ: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ» إنْبَاءً بِأَنَّهُ وَحْدَهُ عِنْدَ صَخَبِ الْخَلْقِ وَرَغْبِهِمْ فِي الْمَالِ، أَقْبَلَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لَمْ يَقْصِدْ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ سِوَاهُ، لِيَعْمُرَهَا بِالطَّاعَةِ إنْ غُمِرَتْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَلِيُحَلِّيَهَا بِالذِّكْرِ إنْ عُطِّلَتْ بِالْغَفْلَةِ، وَلِيُعَلِّمَ الْجَهَلَةَ، وَيُذَكِّرَ النَّاسِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
أَمَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فَضَرُورَةُ الْخَلْقِ، لَا عَارَ وَلَا دَرَكَ فِيهَا.
وَأَمَّا الْأَسْوَاقُ فَسَمِعْت مَشْيَخَةَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ إلَّا سُوقَ الْكُتُبِ وَالسِّلَاحِ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ سُوقٍ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا يَأْكُلُ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَهَدْمٌ لِلْحِشْمَةِ.
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ». وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، لَكِنْ رَوَيْنَاهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَلَا وَصْفَ.
{"ayah":"وَقَالُوا۟ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ یَأۡكُلُ ٱلطَّعَامَ وَیَمۡشِی فِی ٱلۡأَسۡوَاقِ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مَلَكࣱ فَیَكُونَ مَعَهُۥ نَذِیرًا"}