الباحث القرآني

{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29]. فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، وَخَيَّرَهُنَّ أَلَّا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا اخْتَرْنَهُ أَمْسَكَهُنَّ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ بِمَفَاتِحِهَا، وَقَالَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَقُلْت: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا، أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ». فَلَمَّا اخْتَارَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ عَلَى مِثَالِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ طَالَبْنَهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ، فَكَانَتْ أُولَاهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ؛ سَأَلَتْهُ سَتْرًا مُعْلَمًا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَسَأَلَتْهُ مَيْمُونَةُ حُلَّةً يَمَانِيَّةً. وَسَأَلَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ثَوْبًا مُخَطَّطًا. وَسَأَلَتْهُ أُمُّ حَبِيبَةَ ثَوْبًا سُحُولِيًّا. وَسَأَلَتْهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ قَطِيفَةً خَيْبَرِيَّةً. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا عَائِشَةَ؛ فَأَمَرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ. وَالصَّحِيحُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا عِنْدَ بَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ: فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنْتُ خَارِجَةَ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْت إلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا، ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28]». فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْهُ أَيْضًا. فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ النَّقَّاشِ. الرَّابِعُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءُ مِنْ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُنَّ: لَوْ كُنَّا عِنْدَ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ لَنَا حُلِيٌّ وَثِيَابٌ وَشَأْنٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْيِيرَهُنَّ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، وَنَصُّهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّتَيْنِ فِيهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَمَكَثْت سَنَةً مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ، وَحَجَجْت مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ عَدَلَ عُمَرُ إلَى الْأَرَاك، فَقَالَ: أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْته بِهَا وَعَدَلْت مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ عُمَرُ، ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْت عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَك. فَقَالَ عُمَرُ: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْت أَنَّ عِنْدِي فِيهِ عِلْمًا، فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُك. قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ وَاَللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكْتُمْهُ. قَالَ: هُمَا وَاَللَّهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ. قَالَ: «كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ. قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي فَتَغَيَّظْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ قَالَتْ لِي: لَوْ صَنَعْت كَذَا. فَقُلْت لَهَا: مَالَك أَنْتِ وَلِهَذَا وَتَكَلُّفُك فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا إلَى اللَّيْلِ. فَأَخَذْت رِدَائِي، وَشَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي، فَانْطَلَقْت، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْت لَهَا: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، قَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: مَالِي وَلَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، عَلَيْك بِعَيْبَتِك. فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْت: قَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْت: أَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ. قُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَك، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهَا؛ هِيَ أَوْسَمُ مِنْك، وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْك يُرِيدُ عَائِشَةَ. لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُحِبُّك، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَك؛ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ. وَدَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا، فَقَالَتْ لِي: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَدْ دَخَلْت فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْغِي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِ؛ وَإِنَّهُ كَسَرَنِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مَا كُنْت أَجِدُ. وَكَانَ لِي جَارٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ فِي النُّزُولِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، وَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ تَغْزُونَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ أَتَانِي عَشِيًّا، فَضَرَبَ بَابِي، وَنَادَانِي، فَخَرَجْت إلَيْهِ، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقُلْت: مَاذَا؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْت: مَا تَقُولُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ؟ فَقُلْت: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ، وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْت أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ؛ حَتَّى إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ شَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْت، فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ، وَهِيَ تَبْكِي. فَقُلْت: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ. فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ مُدْلِيًا رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جَذَعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْحَدِرُ. فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ. فَانْطَلَقْت، حَتَّى أَتَيْت الْمِنْبَرَ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْت قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَخَرَجْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَنَّ أَنِّي جِئْت مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا. قَالَ: وَرَفَعْت صَوْتِي، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَوَلَّيْت مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ: اُدْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَك. فَدَخَلْت، فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْت نِسَاءَك؟ مَا يَشُقُّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَك وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ، وَأَنَا وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلَامٍ إلَّا رَجَوْت أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5]. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ إلَيَّ فَقَالَ: لَا. فَقُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي. قَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك. فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ. فَقُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْك فَتَبَسَّمَ أُخْرَى؛ وَإِنِّي لَمَّا قَصَصْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ، وَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى انْحَسَرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَكَشَّرَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا. فَقُلْت: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك، قَالَ: نَعَمْ. فَجَلَسْت فَرَفَعْت بَصَرِي فِي الْبَيْتِ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ، إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً، وَإِلَّا قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٌ مَصْبُورٌ فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ؛ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ فَقُلْت: وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِك، وَهَذِهِ خَزَائِنُك لَا أَرَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ؟ وَقُلْت: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ لِأُمَّتِك، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. فَاسْتَوَى جَالِسًا، وَقَالَ: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَقُلْت: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَإِنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يُنَادِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَكُنْت أَنَا الَّذِي اسْتَنْبَطْت ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخْيِيرِ». وَكَانَ أَقْسَمَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، يَعْنِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ يَعْنِي قِصَّةَ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ. هَذَا نَصُّ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى سِوَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كِتَابُ الصَّحِيحِ يَجْمَعُ لَك جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ عَلَى أَزْوَاجِهِ مِنْ أَجْلِ سُؤَالِهِنَّ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَلِقَوْلِ عُمَرَ لِحَفْصَةَ، لَا تَسْأَلِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَك. وَسَبَبُ غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ: مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ؟ وَقَوْلُهُ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]. وَذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ؛ فَهَذَانِ قَوْلَانِ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَصًّا. وَفِيهِ الْإِشَارَةُ لِمَا فِيهَا بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ عَدَمِ قُدْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّفَقَةِ، حَتَّى تَجَمَّعْنَ حَوْلَهُ بِمَا ظَهَرَ لِعُمَرَ مِنْ ضِيقِ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا سِيَّمَا لَمَا اطَّلَعَ فِي مَشْرُبَتِهِ مِنْ عَدَمِ الْمِهَادِ، وَقِلَّةِ الْوِسَادِ. وَفِيهِ إبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَسْأَلْهُ شَيْئًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُنَّ حَوْلِي، كَمَا تَرَى، وَقِيَامِ أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ يَجَأُ فِي عُنُقِهَا، وَلَوْلَا سُؤَالُهَا مَا أَدَّبَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: (قُلْ) قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَرَدْنَاهُ آنِفًا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ أَمَّا أَنَّ قَوْلَهُ: (قُلْ) يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالْإِبَاحَةَ، فَإِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِنُزُولِ الْآيَةِ تَخْيِيرَ اللَّهِ لَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، فَأَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ مَعَهُ فِي مَنْزِلَتِهِ، وَلِيَتَخَلَّقْنَ بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ، وَلِيَصُنَّ خَلَوَاتِهِ الْكَرِيمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ. وَإِنْ كَانَ لِسُؤَالِهِنَّ الْإِنْفَاقَ فَهُوَ لَفْظُ إبَاحَةٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنْ ضَاقَ صَدْرُك بِسُؤَالِهِنَّ لَك مَا لَا تُطِيقُ فَإِنْ شِئْت فَخَيِّرْهُنَّ، وَإِنْ شِئْت فَاصْبِرْ مَعَهُنَّ، وَهَذَا بَيِّنٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ. [مَسْأَلَة الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأَزْوَاجِك] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَزْوَاجِ الْمَذْكُورَاتِ؛ فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَانَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ سِوَى الْخَيْبَرِيَّةِ؛ خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ. وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيّةُ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَذَهَبَتْ، وَكَانَتْ بَدَوِيَّةً. قَالَ رَبِيعَةُ: فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ، وَاسْمُهَا عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيَّةُ؛ اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ، فَذَهَبَتْ، فَابْتَلَاهَا اللَّهُ بِالْجُنُونِ. وَيُقَالُ: إنَّ أَبَاهَا تَرَكَهَا تَرْعَى غَنَمًا لَهُ، فَصَارَتْ فِي طَلَبِ إحْدَاهُنَّ، فَلَمْ يُعْلَمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا إلَى الْيَوْمِ. وَقِيلَ: إنَّهَا كِنْدِيَّةٌ. وَقِيلَ: لَمْ يُخَيِّرْهَا، وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَرَدَّهَا، وَقَالَ: لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمَعَاذٍ. هَذَا مُنْتَهَى قَوْلِهِمْ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ بَيَانًا شَافِيًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَنَقُولُ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَالْحَاضِرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ زَوْجَةً، عَقَدَ عَلَى خَمْسٍ، وَبَنَى بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْمُخَيَّرُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ: الْأُولَى: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لُؤَيٍّ. الثَّانِيَةُ: عَائِشَةُ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، تَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَبِ الثَّامِنِ. الثَّالِثُ: حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَبِ التَّاسِعِ. الرَّابِعَةُ: أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَبِ السَّابِعِ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ [مِنْ الْمُفَسِّرِينَ] أَنَّ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعٌ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ مِمَّنْ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّفَقَةَ، وَنَزَلَ لِأَجْلِهِنَّ آيَةُ التَّخْيِيرِ. وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ؛ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَكَذَلِكَ إنَّمَا زَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّجَاشِيُّ بِالْيَمَنِ، وَهُوَ أَصْدَقَ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ مِنْ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ. وَأَمَّا الْكِلَابِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَمْ يَبْنِ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُقَالُ: إنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: إنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ قَطُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لِهَذِهِ قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا، وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: إنَّهَا كَانَتْ بَدَوِيَّةً، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَصِحَّ. وَقَوْلُ رَبِيعَةَ: إنَّهَا كَانَتْ أَلْبَتَّةَ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا بَنَاهُ مَنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ رَبِيعَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَتَاتٌ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأحزاب: 28] وَهُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]، فَعَلَّقَ التَّخْيِيرَ عَلَى شَرْطٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَيْنِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحَانِ، يَنْفُذَانِ وَيَمْضِيَانِ، خِلَافًا لِلْجُهَّالِ الْمُبْتَدِعَةِ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْمُنْجَزُ لَا غَيْرَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] مَعْنَاهُ إنْ كُنْتُنَّ تَقْصِدْنَ الْحَالَةَ الْقَرِيبَةَ مِنْكُنَّ؛ فَإِنَّ لِلْإِنْسَانِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ هُوَ فِيهَا تُسَمَّى الدُّنْيَا، وَحَالَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ إلَيْهَا وَهِيَ الْأُخْرَى، وَتَقْصِدْنَ التَّمَتُّعَ بِمَا فِيهَا، وَالتَّزَيُّنَ بِمَحَاسِنِهَا، سَرَحْتُكُنَّ لِطَلَبِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]. وَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ، وَيَجْمَعَ لَهَا، وَيَنْظُرَ فِيهَا [وَمِنْهَا]. وَإِمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى حَالَتِهِ الْأُخْرَى، فَإِيَّاهَا يَقْصِدُ، وَلَهَا يَسْعَى وَيَطْلُبُ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَالَةَ الْأُخْرَى، فَقَالَ لَهُ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] يَعْنِي رِزْقَهُ فِي الْآخِرَةِ؛ إذْ الْمَرْءُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ فِي الدُّنْيَا طَلَبَهُ أَوْ تَرَكَهُ فَإِنَّهُ طَالِبٌ لَهُ طَلَبَ الْأَجَلِ. وَأَمَّا رِزْقُهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَأْتِيهِ إلَّا وَيَطْلُبُهُ، فَخَيَّرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ فِي هَذَا لِيَكُونَ لَهُنَّ الْمَنْزِلَةُ الْعُلْيَا، كَمَا كَانَتْ لِزَوْجِهِنَّ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يُخَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ إلَّا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. [مَسْأَلَة لَوْ اخْتَارَتْ إحدي نِسَاء النَّبِيّ الدنيا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ لَوْ اخْتَارَتْ مِنْهُنَّ الدُّنْيَا مَثَلًا، هَلْ كَانَتْ تَبِينُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَبِينُ، لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِيَارَ الدُّنْيَا سَبَبُ الِافْتِرَاقِ؛ فَإِنَّ الْفِرَاقَ إذَا وَقَعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ إمْضَاؤُهُ؛ أَصْلُهُ يَمِينُ اللِّعَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ بِنَفْسِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْفِرَاقِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: اخْتَارِي نَفْسَك وَنَوَى الْفِرَاقَ وَاخْتَارَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَالدُّنْيَا كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28]: هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ فِعْلُ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، مِنْ قَوْلِك " تَعَالَى " وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْإِقْبَالِ إلَيْهِ، تَقُولُ: تَعَالَى بِمَعْنَى " أَقْبِلْ " وُضِعَ لِمَنْ لَهُ جَلَالَةٌ وَرِفْعَةٌ، ثُمَّ صَارَ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَوْضُوعًا لِكُلِّ دَاعٍ إلَى الْإِقْبَالِ. وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَرْفَعِ رُتْبَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]: مَعْنَاهُ أُطَلِّقُكُنَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي السَّرَاحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [مَسْأَلَة كَيْفِيَّةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ لِأَزْوَاجِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ مَقْصُودُ الْبَابِ وَتَحْقِيقُهُ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَزْوَاجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ أَزْوَاجَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ الطَّلَاقِ. فَاخْتَرْنَ الْبَقَاءَ مَعَهُ، قَالَتْهُ عَائِشَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَرَبِيعَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ، وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ فِي الطَّلَاقِ، ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْآيَةَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ إذًا قَبْلَ ثَلَاثٍ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ، وَقَدْ قَالَ: {سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] وَالثَّلَاثُ لَيْسَ مِمَّا يَجْمُلُ؛ وَإِنَّمَا السَّرَاحُ الْجَمِيلُ وَاحِدَةٌ لَيْسَ الثَّلَاثُ الَّتِي يُوجِبُهُنَّ قَبُولُ التَّخْيِيرِ. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا عَائِشَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهَا قَطُّ، إنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهَا أَنَّ مَسْرُوقًا سَأَلَهَا عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ فَتَخْتَارُهُ، أَيَكُونُ طَلَاقًا؟ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ، أَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا؟ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَرُوِيَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا، فَلَا وَجَدُوا لَفْظَ (خَيَّرَ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَوْلُهَا: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَدَأَ بِي، فَقَالَ: إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} [الأحزاب: 28]. وَلَيْسَ فِي هَذَا تَخْيِيرٌ بِطَلَاقٍ كَمَا زَعَمُوا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَوَّلُ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا، فَيُوقَعُ الطَّلَاقُ؛ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْإِمْسَاكُ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُمْ إلَى آيَةِ التَّخْيِيرِ، وَقَوْلُهَا، خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ، أَوْ أُمِرَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ، فَإِنَّمَا يَعُودُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ التَّخْيِيرِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سَمَّى كَمَا تَقَدَّمَ آيَةَ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]. وَلَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ فِيهَا ذِكْرٌ لَفْظِيٌّ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ نَسَبَهَا إلَى الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَدْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ؛ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ صَحِيحٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ نَصُّ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ بَيْنَ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ؛ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْفِرَاقُ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ، وَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ مِنْ أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ؛ فَإِنَّ كَوْنَ قَبُولِ الْخِيَارِ ثَلَاثًا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى حُكْمٍ بِمَذْهَبٍ بِقَوْلٍ يُخَالِفُ فِيهِ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ: إنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي تَفْصِيلٍ، وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ قَالَ: سَرَاحًا جَمِيلًا. وَالثَّلَاثُ مِمَّا لَا يَجْمُلُ خَطَأً؛ بَلْ هِيَ مِمَّا يَجْمُلُ وَيَحْسُنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَسَمَّى الثَّلَاثَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ إذَا فُرِّقَتْ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً فَلَا. قُلْنَا: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الثَّلَاثَ فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ، كَمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ عِنْدَك فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى السَّرَاحُ الْجَمِيلُ، وَالسَّرَاحُ الْحَسَنُ فُرْقَةٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ظَنَّهُ هَذَا الْعَالِمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: ابْعَثِي إلَى أَبَوَيْك. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ. فَقَالَتْ: إنِّي أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً؛ لَا تُخَيِّرْ مِنْ نِسَائِك مَنْ تُحِبُّ أَنْ تُفَارِقَنِي، فَخَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعًا، فَكُلُّهُنَّ اخْتَرْنَهُ». «قَالَتْ عَائِشَةُ: خَيَّرَنَا فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا». وَفِي الصَّحِيحِ «عَنْ عَائِشَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 29] الْآيَةَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَدَأَ بِي، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ؛ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَلَّا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك. قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ وَاَللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، فَقَرَأَ عَلَيَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29]. فَقُلْت: أَوَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ». هَذِهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ أَيُّوبُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَك أَنِّي اخْتَرْتُك؛ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا، إنَّمَا بَعَثَنِي مُبَلِّغًا». وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ عَلَى أَزْوَاجِهِ الْآيَةَ وَيَقُولُ: قَدْ اخْتَارَتْنِي عَائِشَةُ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا خَيَّرَهُنَّ اخْتَرْنَهُ، فَقَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ، وَنَزَلَتْ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52]. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةُ خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ طَوِيلَةٌ عَرِيضَةٌ، لَا يَسْتَوْفِيهَا إلَّا الْإِطْنَابُ بِالتَّطْوِيلِ مَعَ اسْتِيفَاءِ التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ، وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَنُشِيرُ مِنْهُ الْآنَ إلَى طَرَفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ. الثَّانِي: إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا. أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ زَيْدٍ، وَعَلِيٍّ، إلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَالْحَسَنُ، وَرَبِيعَةُ، وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ: " اخْتَارِي " كِنَايَةٌ عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ؛ فَإِذَا أَضَافَهُ إلَيْهَا وَقَعَتْ طَلْقَةٌ، كَقَوْلِهِ، أَنْتِ بَائِنٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ عَائِشَةَ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَرْنَاهُ. أَفَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ: إنَّ تَخْيِيرَ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْفِرَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فَيُمْسِكُ، وَبَيْنَ الْفِرَاقِ فَيَسْتَأْنِفُ إيقَاعَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا عِنْدَكُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَيْنَا مِنْكُمْ. قُلْنَا: كَذَلِكَ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَقَوْلُكُمْ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ حُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهَا كِنَايَةٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَقُولُوا: إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا أَيْضًا. فَإِذَا قُلْتُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: إنَّهُ لَا يَقَعُ، كَانَتْ الْأُخْرَى مِثْلَهَا؛ لِأَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ، فَلَوْ لَزِمَ الطَّلَاقُ بِإِحْدَاهُمَا لَزِمَ بِالْأُخْرَى؛ لِأَنَّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِسِعَةِ عِلْمِهَا، وَعَظِيمِ فِقْهِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا إيقَاعٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ، وَهُمَا ضِدَّانِ، لَيْسَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا لِلثَّانِي بِحَالٍ. وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي: وَهُوَ إذَا اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا ثَلَاثٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا بَيْنُونَةٍ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ مَا نَوَى. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا مَبْتُوتَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا نَوَيَاهُ جَمِيعًا، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ إلَّا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَقَعَ الْأَقَلُّ، وَبَطَلَ الْأَكْثَرُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِقَوْلِهِ: " اخْتَارِي " أَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَا يَمْلِكَ مِنْهَا شَيْئًا؛ إذْ قَدْ جَعَلَ إلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهَا عَنْهُ أَوْ تُقِيمَ مَعَهُ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْبَعْضَ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ غَيْرَهُمَا. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِخَبَرٍ مِنْ جِهَتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّتِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ. الْجَوَابُ: إنَّا نَقُولُ: أَمَّا اعْتِبَارُ نِيَّتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مُوقِعَةٌ لِلطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَنِيَابَةٌ، وَأَمَّا خِيَارُ الْمُعْتِقَةِ فَلَا نُسَلِّمُهُ، بَلْ هُوَ ثَلَاثٌ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الثَّلَاثِ وَلَا نِيَّتُهَا. الْجَوَابُ: إمَّا نَقُولُ: قَدْ اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} [الأحزاب: 29] اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ عِلْمَهُ وَأَفَاضَ عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ، وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ، وَالْمَخْلُوقُ وَالْمُحْدَثُ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ. وَالْحَيَوَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُكَلَّفٌ، وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ. وَالْمُكَلَّفُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ هُوَ فِيهَا، وَحَالَةٌ هُوَ مَنْقُولٌ إلَيْهَا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْحَالَةُ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهَا هِيَ الْحَبِيبَةُ إلَى اللَّهِ الْمَمْدُوحَةُ مِنْهُ، وَالْحَالَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا هِيَ الْمُبْغَضَةُ إلَى اللَّهِ الْمَذْمُومَةُ عِنْدَهُ؛ فَإِنْ رَكَنَ إلَيْهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَأَهْمَلَ الْحَالَةَ الَّتِي يَنْتَقِلُ إلَيْهَا، وَهِيَ الْمَحْمُودَةُ، هَلَكَ. وَإِنْ كَانَ مَقْصِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ تِلْكَ الْآخِرَةَ، وَكَانَ لَهَا يَعْمَلُ، وَإِيَّاهَا يَطْلُبُ، وَاعْتَقَدَ نَفْسَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ إلَى مَقْصِدٍ، فَهُوَ فِي طَرِيقِهِ يَعْبُرُ، وَعَلَى مَسَافَتِهِ يَرْتَحِلُ؛ وَقَلْبُ الْأَوَّلِ مَعْمُورٌ بِذِكْرِ الدُّنْيَا، مَغْمُورٌ بِحُبِّهَا، وَقَلْبُ الثَّانِي مَغْمُورٌ بِذِكْرِ اللَّهِ، مَعْمُورٌ بِحُبِّهِ، وَجَوَارِحُهُ مُسْتَعْمَلَةٌ بِطَاعَتِهِ، فَقِيلَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتَقْصِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَثَوَابَهُ فِيهَا، فَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ ثَوَابَكُنَّ وَثَوَابَ أَمْثَالِكُنَّ فِي أَصْلِ الْقَصْدِ لَا فِي مِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ مَحَبَّةً فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَاتَيْهِمَا، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّوَابِ. قَالَ قَوْمٌ: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحَبَّ اللَّهُ لِذَاتِهِ وَلَا رَسُولُهُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا الْمَحْبُوبُ الثَّوَابُ مِنْهُمَا، الْعَائِدُ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْعَبْدَ يُحِبُّ نَفْسَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَسْطُورِ فِيهَا. . [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 29] الْإِحْسَانُ فِي الْفِعْلِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. وَالثَّانِي: التَّمَادِي عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُنَّ كَمَا أُمِرَ بِهِ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ إلَى حَالَةِ الِاحْتِرَامِ بِالْمُنْيَةِ، فَعِنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ الْجَلَالَةِ وَالْإِكْرَامِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] إلَى آخِرِ الْمَعْنَى. فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى أَجْرًا عَظِيمًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ ثَوَابًا مُتَكَاثِرَ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وَزِيَادَةُ رِزْقٍ كَرِيمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ. أَمَّا ثَوَابُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا، وَلَا مَزِيَّةَ فَوْقَهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ عَلَى غَيْرِهِنَّ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعِيمَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ، وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهِنَّ، وَتَشْرِيفًا لِمَنْزِلَتِهِنَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ، وَمَنَعَهُ مِنْ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ، فَقَالَ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52]. وَالْحِكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ أَمَرَ بِمُكَافَأَتِهِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِنِكَاحِهِنَّ. فَأَمَّا مَنْعُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَخَيْرَاتِهِ، وَلَا يَنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْقَصُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ حُدَّ حَدَّيْنِ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ، مِنْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْصَنَةٍ، وَلَا يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي الْحَدِّ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ بِزِيَادَةٍ، وَلَا نَقْصُهَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِّ بِنَقْصٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب