الباحث القرآني

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمِحْرَابُ: هُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ الْمُمْتَنِعُ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمِحْرَابُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُهُ، أَنْشَدَ فَقِيهُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَطَاءٌ الصُّوفِيُّ: جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُضُوعَ لِرَبِّهِ ... مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ وَالْجِفَانُ أَكْبَرُ الصِّحَافِ قَالَ الشَّاعِرُ: يَا جَفْنَةً بِإِزَاءِ الْحَوْضِ قَدْ كُفِئَتْ ... وَمَنْطِقًا مِثْلَ وَشْيِ الْبُرْدَةِ الْخَضِرِ وَالْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْمَصْنُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ جَفْنَةً: كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] يَعْنِي ثَابِتَاتٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شَاهَدْت مِحْرَابَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَظِيمًا مِنْ حِجَارَةٍ صَلْدَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، طُولُ الْحَجَرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَكُلَّمَا قَامَ بِنَاؤُهُ صَغُرَتْ حِجَارَتُهُ، وَيُرَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّحَابِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعُهُ فِي نَفْسِهِ، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ وَمَدْرَجَةٌ عَرِيضَةٌ، وَفِيهِ الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ، وَفِي أَعْلَاهُ الْمَسْجِدُ، وَفِيهِ كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي قَدْرِ الْبَابِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: إنَّهُ تَطَلَّعَ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْحَمَامَةُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَدْمِهِ حِيلَةٌ، وَفِيهِ نَجَا مَنْ نَجَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَهَا الرُّومُ حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ أَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ يَسْلَمُوا فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ، وَتَخَلَّوْا لَهُمْ عَنْهُ. وَرَأَيْت فِيهِ غَرِيبَةَ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَائِرًا ثَارَ بِهِ عَلَى وَالِيهِ، وَامْتَنَعَ فِيهِ بِالْقُوتِ، فَحَصَرَهُ، وَحَاوَلَ قِتَالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً، وَالْبَلَدُ عَلَى صِغَرِهِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، مَا أُغْلِقَتْ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ سُوقٌ، وَلَا سَارَ إلَيْهَا مِنْ الْعَامَّةِ بَشَرٌ، وَلَا بَرَزَ لِلْحَالِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مُعْتَكِفٌ، وَلَا انْقَطَعَتْ مُنَاظَرَةٌ، وَلَا بَطَلَ التَّدْرِيسُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَسْكَرِيَّةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ، وَلَيْسَ عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ لِذَلِكَ حَرَكَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ هَذَا فِي بِلَادِنَا لَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَلَانْقَطَعَتْ الْمَعَايِشُ. وَغُلِّقَتْ الدَّكَاكِينُ، وَبَطَلَ التَّعَامُلُ لِكَثْرَةِ فُضُولِنَا وَقِلَّةِ فُضُولِهِمْ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَمَاثِيلَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]، وَاحِدَتُهَا تِمْثَالٌ، وَهُوَ بِنَاءٌ غَرِيبٌ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى " تِفْعَالٍ " قَلِيلَةٌ مُنْحَصِرَةٌ؛ جِمَاعُهَا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ، أَخْبَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِيَّةَ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ قَالَ: رَجُلٌ تِكْلَامٌ: كَثِيرُ الْكَلَامِ وَتِلْقَامٌ: كَثِيرُ اللُّقَمِ، وَرَجُلٌ تِمْسَاحٌ: كَذَّابٌ، وَنَاقَةٌ تِضْرَابٌ: قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالضِّرَابِ، وَالتِّمْرَادُ: بَيْتٌ صَغِيرٌ لِلْحَمَامِ. وَتِلْفَاقٌ. ثَوْبَانِ يُخَاطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَالتِّجْفَافُ: مَعْرُوفٌ. وَتِمْثَالٌ: مَعْرُوفٌ. وَتِبْيَانٌ: مِنْ الْبَيَانِ وَتِلْقَاءَ: قُبَالَتَك وَتِهْوَاءَ مِنْ اللَّيْلِ: قِطْعَةٌ. وَتِعْشَارٌ: مَوْضِعٌ. وَرَجُلٌ تِنْبَالٌ: قَصِيرٌ. وَتِلْعَابٌ: كَثِيرُ اللَّعِبِ. وَتِقْصَارٌ: قِلَادَةٌ. فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا. فَلَمَّا قَرَأْت إصْلَاحَ الْمَنْطِقِ بِبَغْدَادَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الْخَطِيبِ رَئِيسِ اللُّغَةِ وَخَازِنِ دَارِ الْعِلْمِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيِّ قَالَ لِي: كُنْت أَقْرَأُ خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ اللُّغَوِيِّ الْفَرَائِضِيِّ فَوَصَلْت إلَى قَوْلِهِ: وَتِذْكَارُهُمْ تُوَاصِلُ مَسِيلَ الْعَبَرَاتِ، وَقَرَأْته بِخَفْضِ التَّاءِ فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ وَتَذْكَارُهُمْ بِفَتْحِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تِفْعَالٌ إلَّا التِّلْقَاءَ وَإِلَّا التِّبْيَانَ، وَتِعْشَارٌ وَتِنْزَالٌ مَوْضِعَانِ، وَتِقْصَارٌ: قِلَادَةٌ. قَالَ لِي التَّبْرِيزِيُّ: ثُمَّ قَرَأْت خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى بَعْضِ أَشْيَاخِي، فَلَمَّا وَصَلْت إلَى اللَّفْظِ وَذَكَرْت لَهُ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ لِي: اُكْتُبْ مَا أَمَلِي عَلَيْك. فَأَمْلَى عَلَيَّ: الْأَشْيَاءُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى تِفْعَالٍ ضَرْبَانِ: مَصَادِرُ وَأَسْمَاءٌ؛ فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَالتِّلْقَاءُ وَالتِّبْيَانُ؛ وَهُمَا فِي الْقُرْآنِ. وَالْأَسْمَاءُ: رَجُلٌ تِنْبَالٌ: أَيْ قَصِيرٌ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّاءَ فِي تِنْبَالٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فِعْلَالًا. وَذَكَرَ مَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَزَادَ التِّنْضَالُ مِنْ الْمُنَاضَلَةِ والتِّيغَارُ حَبٌّ مَقْطُوعٌ يَزِيدُ فِي الْخَابِيَةِ، وَتِرْيَاعٌ: مَوْضِعٌ، وَالتِّرْبَانُ وَتِرْغَامٌ اسْمُ شَاعِرٍ، وَيُقَالُ جَاءَ لِتِنْفَاقِ الْهِلَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالتِّمْتَانُ وَاحِدُ التِّمْتَانَيْنِ، وَهِيَ خُيُوطٌ تُضْرَبُ بِهَا الْفُسْطَاطُ. وَرَجُلٌ تِمْزَاحٌ كَثِيرُ الْمُزَاحِ، وَالتِّمْسَاحُ الدَّابَّةُ الْمَعْرُوفَةُ. [مَسْأَلَة التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ حَيَوَانٌ وَمَوَاتٌ، وَالْمَوَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: جَمَادٌ وَنَامٍ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنُّ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ جَمِيعَهُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْلِهِ: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]. وَالثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، أَصْلُهَا الإسرائليات؛ لِأَنَّ التَّمَاثِيلَ مِنْ الطَّيْرِ كَانَتْ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا عُمُومَ لِقَوْلِهِ: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] فَإِنَّهُ إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ لَا عُمُومَ لَهُ؛ إنَّمَا الْعُمُومُ فِي النَّفْيِ فِي النَّكِرَةِ حَسْبَمَا قَرَرْتُمُوهُ فِي الْأُصُولِ. قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ، بَيْدَ أَنَّهُ قَدْ اُقْتُرِنَ بِهَذَا الْإِثْبَاتِ فِي النَّكِرَةِ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا يَشَاءُ} [سبأ: 13] فَاقْتِرَانُ الْمَشِيئَةِ بِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ شَاءَ عَمَلَ الصُّوَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؟ قُلْنَا: لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي شَرْعِهِ، بَلْ وَرَدَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَأْذُونًا فِيهِ، وَاَلَّذِي أُوجِبَ النَّهْيَ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، فَكَانُوا يُصَوِّرُونَ وَيَعْبُدُونَ، فَقَطَعَ اللَّهُ الذَّرِيعَةَ وَحَمَى الْبَابَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حِينَ ذَمَّ الصُّوَرَ وَعَمَلَهَا مِنْ الصَّحِيحِ قَوْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ اللَّهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ». وَفِي رِوَايَةٍ: «الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ»؛ فَعَلَّلَ بِغَيْرِ مَا زَعَمْتُمْ. قُلْنَا: نُهِيَ عَنْ الصُّورَةِ، وَذَكَرَ عِلَّةَ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَفِيهَا زِيَادَةُ عِلَّةِ عِبَادَتِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَمَلِهَا مَعْصِيَةٌ، فَمَا ظَنُّك بِعِبَادَتِهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ شَأْنُ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أُنَاسًا، ثُمَّ صُوِّرُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَعُبِدُوا. وَقَدْ شَاهَدْت بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة إذَا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ صَوَّرُوهُ مِنْ خَشَبٍ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَجْلَسُوهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ بَيْتِهِ وَكَسَوْهُ بِزَّتَهُ إنْ كَانَ رَجُلًا وَحِلْيَتَهَا إنْ كَانَتْ امْرَأَةً، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الْبَابَ. فَإِذَا أَصَابَ أَحَدًا مِنْهُمْ كَرْبٌ أَوْ تَجَدَّدَ لَهُ مَكْرُوهٌ فَتَحَ الْبَابَ [عَلَيْهِ] وَجَلَسَ عِنْدَهُ يَبْكِي وَيُنَاجِيهِ بِكَانَ وَكَانَ حَتَّى يَكْسِرَ سَوْرَةَ حُزْنِهِ بِإِهْرَاقِ دُمُوعِهِ، ثُمَّ يُغْلِقُ الْبَابَ عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَمَادَى بِهِمْ الزَّمَانُ يَعْبُدُوهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إنْ قُلْنَا: إنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا فَلَيْسَ يُنْقَلُ عَنْ ذَلِكَ حُكْمٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَيَكُونُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصُّوَرِ نَسْخًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قَبْلَ هَذَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الَّذِي كَانَ يُصْنَعُ لَهُ الصُّوَرُ الْمُبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَصُورَتِهِ فَشَرْعُنَا وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِ مَا كَانَ شَخْصًا لَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، لُبَابُهُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْأَحَادِيثِ خَمْسُ أُمَّهَاتٍ: الْأُمُّ الْأُولَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ، أَوْ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا. وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ صُورَةٍ. الْأُمُّ الثَّانِيَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» زَادَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ: «إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ نَحْوُهُ، فَقُلْت لِعَائِشَةَ: هَلْ سَمِعْت هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَا؛ وَسَأُحَدِّثُكُمْ؛ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ فَأَخَذْت نَمَطًا فَنَشَرْته عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ وَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْت الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ. قَالَتْ: فَقَطَعْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتهمَا لِيفًا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ». الْأُمُّ الثَّالِثَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالٌ طَائِرٌ، وَكَانَ الدَّاخِلُ إذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَوِّلِي هَذَا فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا». الْأُمُّ الرَّابِعَةُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مُتَسَتِّرَةٌ بِقِرَامٍ فِيهِ صُورَةٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ خَلْقَ اللَّهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَّعْته، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ». الْأُمُّ الْخَامِسَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ لَنَا ثَوْبٌ مَمْدُودٌ عَلَى سَهْوَةٍ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَخِّرِيهِ عَنِّي، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْتَفِقُ بِهِمَا». وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ النُّمْرُقَةِ قَالَتْ: «اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا؛ فَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ». قَالَ الْقَاضِي: فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الصُّوَرَ مَمْنُوعَةٌ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ جَاءَ: إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ، فَخُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الصُّوَرِ، ثُمَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ فِي الثَّوْبِ الْمُصَوَّرِ: أَخِّرِيهِ عَنِّي؛ فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا فَثَبَتَتْ الْكَرَاهَةُ فِيهِ. ثُمَّ بِهَتْكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّوْبَ الْمُصَوَّرَ عَلَى عَائِشَةَ مَنَعَ مِنْهُ، ثُمَّ بِقَطْعِهَا لَهَا وِسَادَتَيْنِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ الصُّورَةُ وَخَرَجَتْ عَنْ هَيْئَتِهَا بِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ الصُّورَةُ فِيهِ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهَا فِي النُّمْرُقَةِ الْمُصَوَّرَةِ: اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا، فَمَنَعَ مِنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَتَبَيَّنَ بِحَدِيثِ الصَّلَاةِ إلَى الصُّورَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا [فِي الرَّقْمِ] فِي الثَّوْبِ، ثُمَّ نَسَخَهُ الْمَنْعُ، فَهَكَذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ الْأَمْرُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13]: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنْ الْأَرْضِ. {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] يَعْنِي لَا تُحْمَلُ وَلَا تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قُدُورُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ يُصْعَدُ إلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسُلَّمٍ، وَرَأَيْت بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ قُدُورَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَطْبُخُونَ جَمِيعًا، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْثَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْ أَحَدٍ، وَعَنْهَا عَبَّرَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: كَالْجَوَابِي لَا تَنِي مُتْرَعَةً ... لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لَلْمُحْتَضَرِ وَقَالَ أَيْضًا: يُجْبَرُ الْمَحْرُوبُ فِيهَا مَالَهُ بِجِفَانٍ وَقِبَابٍ وَخَدَمٍ. [مَسْأَلَة حَقِيقَةُ الشُّكْرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. ثُمَّ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُد. قَالَ: فَقُلْنَا: مَا هُنَّ؟ قَالَ: الْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ». الثَّانِي: قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثُ: الصَّلَاةُ شُكْرٌ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ يُفْعَلُ لِلَّهِ شُكْرٌ. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَقِيقَةُ الشُّكْرِ اسْتِعْمَالُ النِّعْمَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَالْكُفْرَانُ: اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ أَقَلُّ مِنْ الشَّرِّ، وَالطَّاعَةَ أَقَلُّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ بِحَسْبِ سَابِقِ التَّقْدِيرِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب