الباحث القرآني

فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ثُبُوتِهَا: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّافِضَةَ كَادَتْ الْإِسْلَامَ بِآيَاتٍ وَحُرُوفٍ نَسَبَتْهَا إلَى الْقُرْآنِ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّهَا مِنْ الْبُهْتَانِ الَّذِي نَزَغَ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ نَقَلُوهَا وَأَظْهَرُوهَا حِينَ كَتَمْنَاهَا نَحْنُ، وَقَالُوا: إنَّ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي نَقْلِ الْآيَةِ وَالْحُرُوفِ كَمَا فَعَلْتُمْ، فَإِنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ آيَةً بِقَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]؛ وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. قُلْنَا: إنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِنَقْلِ الْآحَادِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّاهِدَةُ بِصِدْقِهِ، الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَأَبْقَاهَا اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَتَوَلَّى حِفْظَهَا بِفَضْلِهِ، حَتَّى لَا يُزَادَ فِيهَا وَلَا يُنْقَصَ مِنْهَا. وَالْمُعْجِزَاتُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعَايَنَةً إنْ كَانَتْ فِعْلًا، وَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ تَوَاتُرًا إنْ كَانَتْ قَوْلًا، لِيَقَعَ الْعِلْمُ بِهَا، أَوْ تُنْقَلَ صُورَةُ الْفِعْلِ فِيهَا أَيْضًا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا حَتَّى يَقَعَ الْعِلْمُ بِهَا، كَأَنَّ السَّامِعَ لَهَا قَدْ شَاهَدَهَا، حَتَّى تَنْبَنِيَ الرِّسَالَةُ عَلَى أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ يُعْمَلُ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا مَعْنًى أَكْثَرُ مِنْ التَّعَبُّدِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْسِلُ كُتُبَهُ مَعَ الْوَاحِدِ، وَيَأْمُرُ الْوَاحِدَ أَيْضًا بِتَبْلِيغِ كَلَامِهِ، وَيَبْعَثُ الْأُمَرَاءَ إلَى الْبِلَادِ وَعَلَى السَّرَايَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ وَقَفَ فِيهَا عَلَى التَّوَاتُرِ لَمَا حَصَلَ عِلْمٌ، وَلَا تَمَّ حُكْمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ. [مَسْأَلَة جَمْعِ الْقُرْآن] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِيمَا رُوِيَ فِيهَا: ثَبَتَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، فَقَالَ: إنَّ الْقِتَالَ قَدْ اسْتَحَرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ، وَرَأَيْت فِيهِ الَّذِي رَأَى. قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّك شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُك، قَدْ كُنْت تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَوَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ. قُلْت: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَتَتَبَّعْت الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْعُسُبِ، وَذَكَرَ كَلِمَةً مُشْكِلَةً تَرَكْنَاهَا. قَالَ زَيْدٌ: فَوَجَدْت آخِرَ بَرَاءَةٍ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] إلَى: الْعَظِيمِ انْتَهَى الْحَدِيثُ. فَبَقِيَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا بَعْدَهُ عُمَرُ، ثُمَّ صَارَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَدِمَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَرَأَى حُذَيْفَةُ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ، كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إلَيْنَا بِالصُّحُفِ فَنَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إلَيْكِ. فَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ إلَى عُثْمَانَ بِالصُّحُفِ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنْ انْسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ. وَقَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، حَتَّى إذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ بَعَثَ عُثْمَانُ إلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَسَخُوا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْت آيَةً مِنْ سُورَةٍ كُنْت أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] فَالْتَمَسْتهَا فَوَجَدْتهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ، فَأَلْحَقْتهَا فِي سُورَتِهَا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ، فَقَالَ الْقُرَشِيُّونَ: التَّابُوتُ. وَقَالَ زَيْدٌ التَّابُوهُ. فَرُفِعَ اخْتِلَافُهُمْ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: اُكْتُبُوهُ التَّابُوتُ. فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ، وَيَتَوَلَّاهَا رَجُلٌ، وَاَللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْت وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، اُكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] فَالْقُوا اللَّهَ بِالْمَصَاحِفِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي بَرَاءَةٍ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ لَمْ تَثْبُتْ بِوَاحِدٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَنْسِيَّةً، فَلَمَّا ذَكَرَهَا مَنْ ذَكَرَهَا أَوْ تَذَكَّرَهَا مَنْ تَذَكَّرَهَا عَرَفَهَا الْخَلْقُ، كَالرَّجُلِ تَنْسَاهُ، فَإِذَا رَأَيْت وَجْهَهُ عَرَفْته، أَوْ تَنْسَى اسْمَهُ وَتَرَاهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ لَك الْعَيْنُ وَالِاسْمُ، فَإِذَا انْتَسَبَ عَرَفْته. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ غَرِيبِ الْمَعَانِي أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ سَيْفَ السُّنَّةِ وَلِسَانَ الْأُمَّةِ تَكَلَّمَ بِجَهَالَاتٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَا تُشْبِهُ مَنْصِبَهُ، فَانْتَصَبْنَا لَهَا لِنُوقِفَكُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهَا: أَوَّلُهَا: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ رِوَايَاتٍ فِيهِ، مِنْهَا صَحِيحَةٌ وَمِنْهَا بَاطِلَةٌ، فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْبَاطِلَةُ فَلَا نَشْتَغِلُ بِهَا، وَأَمَّا الصَّحِيحَةُ فَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: رُوِيَ أَنَّ هَذَا جَرَى فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ جَرَى فِي عَهْدِ عُثْمَانَ، وَبَيْنَ التَّارِيخَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُدَّةِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ هَذَا كَانَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ نَقُولَ: كَانَ هَذَا فِي عَهْدِ عُثْمَانَ؛ وَلَوْ اخْتَلَفَ تَارِيخُ الْحَدِيثِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ لَوَجَبَ رَدُّهُ، فَكَيْفَ أَنْ يَخْتَلِفَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ الطَّوِيلَتَيْنِ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: يُقَالُ لِلسَّيْفِ هَذِهِ كَهْمَةٌ مِنْ طُولِ الضِّرَابِ، هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَخَفْ وَجْهُ الْحَقِّ فِيهِ، إنَّمَا جَمَعَ زَيْدٌ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا لِأَبِي بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّانِيَةُ لِعُثْمَانَ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ هَذَا فِي مَرَّتَيْنِ لِسَبَبَيْنِ وَلِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَانَ لِئَلَّا يَذْهَبَ الْقُرْآنُ بِذَهَابِ الْقُرَّاءِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ: «يَذْهَبُ الْعِلْمُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِذَهَابِ الْعُلَمَاءِ»، فَلَمَّا تَحَصَّلَ مَكْتُوبًا صَارَ عُدَّةً لِمَا يُتَوَقَّعُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا جَمْعُهُ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ فَكَانَ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَجُمِعَ فِي الْمَصَاحِفِ لِيُرْسَلَ إلَى الْآفَاقِ، حَتَّى يُرْفَعَ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. ثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ: مِنْ اضْطِرَابِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ زَيْدًا تَارَةً قَالَ: وَجَدْت هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ السَّاقِطَةَ، وَتَارَةً لَمْ يَذْكُرْهُ، وَتَارَةً ذَكَرَ قِصَّةَ بَرَاءَةٍ، وَتَارَةً قِصَّةَ الْأَحْزَابِ أَيْضًا بِعَيْنِهَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُقَالُ لِلِّسَانِ: هَذِهِ عَثْرَةٌ، وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرَّاوِي حَدِيثٌ مُفَصَّلٌ يَذْكُرُ جَمِيعَهُ مَرَّةً، وَيَذْكُرُ أَكْثَرَهُ أُخْرَى، وَيَذْكُرُ أَقَلَّهُ ثَالِثَةً؟ ثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ مَوْضُوعًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: إنَّ زَيْدًا وَجَدَ الضَّائِعَ مِنْ الْقُرْآنِ عِنْدَ رَجُلَيْنِ. وَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ وَكَلَ حِفْظَ مَا سَقَطَ وَذَهَبَ عَنْ الْأَجِلَّةِ الْأَمَاثِلِ مِنْ الْقُرْآنِ بِرَجُلَيْنِ: خُزَيْمَةَ، وَأَبِي خُزَيْمَةَ. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى الرَّجُلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَذْكُرَهُ لَهُ آخَرُ، فَيَعُودَ عِلْمُهُ إلَيْهِ. وَلَيْسَ فِي نِسْيَانِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْتِحَالَةٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا شَرْعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ حِفْظَهُ، وَمِنْ حِفْظِهِ الْبَدِيعِ أَنْ تَذْهَبَ مِنْهُ آيَةٌ أَوْ سُورَةٌ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، فَيَذْكُرَهَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ، فَيَتَذَكَّرَهَا الْجَمِيعُ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ حِفْظِ اللَّهِ لَهَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَكَيْفَ تَدَّعِي عَلَيْهِ الْوَضْعَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْعَدْلُ عَنْ الْعَدْلِ، وَتَدَّعِي فِيهِ الِاضْطِرَابَ، وَهُوَ فِي سِلْكِ الصَّوَابِ مُنْتَظِمٌ، وَتَقُولُ أُخْرَى: إنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَا الَّذِي تَضَمَّنَ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ أَوْ الْجَهَالَةِ حَتَّى يُعَابَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْته فِي مُعَارَضَتِهِ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَوْ عَنْ رَأْيٍ فَهُوَ الْمُضْطَرِبُ الْمَوْضُوعُ الَّذِي لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ بِالضِّعَافِ وَالثِّقَاتُ بِالْمَوْضُوعَاتِ؟ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ؟ قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِالرِّوَايَةِ، وَقَدْ عَدِمَتْ، لَا هَمَّ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا، أَجْوَدُهَا خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلْحَاجَةِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي مِثْلِهَا بِقَوْلِهِ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً - فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2 - 3]؛ فَهَذَا اقْتِدَاءٌ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ تَحْقِيقَ قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ فَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا، وَأَخْبَرَنَا أَنْ يَحْفَظَهُ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَمِنْ حِفْظِهِ تَيْسِيرُ الصَّحَابَةِ لِجَمْعِهِ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَضَبْطِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتُبُهُ كَتَبَتُهُ بِإِمْلَائِهِ إيَّاهُ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ يَخْفَى عَلَى مُتَصَوِّرٍ مَعْنًى صَحِيحًا فِي قَلْبِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى كَتْبِهِ وَضَبْطِهِ بِالتَّقْيِيدِ فِي الصُّحُفِ، وَلَوْ كَانَ مَا ضَمِنَهُ اللَّهُ مِنْ حِفْظِهِ لَا عَمَلَ لِلْأُمَّةِ فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إخْبَارِ اللَّهِ لَهُ بِضَمَانِ حِفْظِهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّ حِفْظَهُ مِنْ اللَّهِ بِحِفْظِنَا وَتَيْسِيرَهُ ذَلِكَ لَنَا وَتَعْلِيمَهُ لِكِتَابَتِهِ وَضَبْطِهِ فِي الصُّحُفِ بَيْنَنَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ»؛ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ الْأُمَّةِ مَكْتُوبٌ مُسْتَصْحَبٌ فِي الْأَسْفَارِ، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْوُجُوهِ عِنْدَ النُّظَّارِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَأَمَّا كِتَابَةُ عُثْمَانَ لِلْمَصَاحِفِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إلَى الْكُوفَةِ وَالشَّامِ وَالْحِجَازِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَاتِ، فَأَرَادَ ضَبْطَ الْأَمْرِ لِئَلَّا يَنْتَشِرَ إلَى حَدِّ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي كُتُبِهِمْ، وَكَانَ جَمْعُ أَبِي بَكْرٍ لَهُ لِئَلَّا يَذْهَبَ أَصْلُهُ؛ فَكَانَا أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِسَبَبَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ. وَقَدْ كَانَ «وَقْعُ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فَاحْتَمَلَ عُمَرُ هِشَامًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْلًا، حَتَّى قَرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا قَرَأَ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَصَوَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكُلَّ، وَأَنْبَأَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ، إذْ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِأَمْرِهِ نَزَلَ، وَبِفَضْلِهِ تَوَسَّعَ فِي حُرُوفِهِ حَتَّى جَعَلَهَا سَبْعَةً»، فَاخْتَارَ عُثْمَانُ وَالصَّحَابَةُ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ مَا رَأَوْهُ ظَاهِرًا مَشْهُورًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مَذْكُورًا، وَجَمَعُوهُ فِي مَصَاحِفَ، وَجُعِلَتْ أُمَّهَاتٍ فِي الْبُلْدَانِ تَرْجِعُ إلَيْهَا بَنَاتُ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَأَمَّا حَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْكَارُهُ عَلَى زَيْدٍ أَنْ يَتَوَلَّى كَتْبَ الْمَصَاحِفِ، وَهُوَ أَقْدَمُ قِرَاءَةً. قُلْنَا: يَا مَعْشَرَ الطَّالِبِينَ لِلْعِلْمِ، مَا نَقَمَ قَطُّ عَلَى عُثْمَانَ شَيْءٌ إلَّا خَرَجَ مِنْهُ كَالشِّهَابِ، وَأَنْبَأَ أَنَّهُ أَتَاهُ بِعِلْمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ، وَعِنْدَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا قَالَ وَبَلَغَ عُثْمَانُ: قَالَ عُثْمَانُ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، يَدْعُو النَّاسَ إلَى الْخِلَافِ وَالشُّبْهَةِ، وَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لَمْ أُوَلِّهِ نَسْخَ الْقُرْآنِ، وَقَدَّمْت زَيْدًا عَلَيْهِ، فَهَلَّا غَضِبَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حِينَ قَدَّمَا زَيْدًا لِكِتَابَتِهِ وَتَرَكَاهُ، إنَّمَا اتَّبَعْت أَنَا أَمْرَهُمَا، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا حَسَّنَ قَوْلَ عُثْمَانَ وَعَابَ ابْنَ مَسْعُودٍ. وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ أَنْ يُبْقِيَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ أَثَرًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَرَاجَعَ أَصْحَابَهُ فِي الِاتِّبَاعِ لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ وَالْقِرَاءَةِ بِهِ. [مَسْأَلَة سَبَبُ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ بَعْدَ رَبْطِ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَضَبْطِ الْقُرْآنِ بِالتَّقْيِيدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ بَعْدَ رَبْطِ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَضَبْطِ الْقُرْآنِ بِالتَّقْيِيدِ. قُلْنَا: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلتَّوْسِعَةِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهَا، وَرَحِمَ بِهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَقْرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا، وَأَخَذَ كُلُّ صَاحِبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَرْفًا أَوْ جُمْلَةً مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ تَارَةً فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَتَارَةً فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْقِرَاءَةِ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ ضَبَطَتْ الْأَمْرَ إلَى حَدٍّ يُقَيَّدُ مَكْتُوبًا، وَخَرَجَ مَا بَعْدَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حَتَّى أَنَّ مَا تَحْتَمِلُهُ الْحُرُوفُ الْمُقَيَّدَةُ فِي الْقُرْآنِ قَدْ خَرَجَ أَكْثَرُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَقَدْ انْحَصَرَ الْأَمْرُ إلَى مَا نَقَلَهُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ بِالْأَمْصَارِ الْخَمْسَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَرْسَلَ ثَلَاثَةَ مَصَاحِفَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ احْتَبَسَ مُصْحَفًا، وَأَرْسَلَ إلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ ثَلَاثَةَ مَصَاحِفَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ أَرْبَعَةً إلَى الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَتْ سَبْعَةَ مَصَاحِفَ، فَبَعَثَ مُصْحَفًا إلَى مَكَّةَ، وَإِلَى الْكُوفَةِ آخَرَ، وَمُصْحَفًا إلَى الْبَصْرَةِ، وَمُصْحَفًا إلَى الشَّامِ، وَمُصْحَفًا إلَى الْيَمَنِ، وَمُصْحَفًا إلَى الْبَحْرَيْنِ، وَمُصْحَفًا عِنْدَهُ. فَأَمَّا مُصْحَفُ الْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُمَا خَبَرٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْمَصَاحِفُ إنَّمَا كَانَتْ تَذْكِرَةً لِئَلَّا يَضِيعَ الْقُرْآنُ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَإِنَّمَا أُخِذَتْ بِالرِّوَايَةِ لَا مِنْ الْمَصَاحِفِ، أَمَّا إنَّهُمْ كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا رَجَعُوا إلَيْهَا فَمَا كَانَ فِيهَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الْمَصَاحِفُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتَتْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَأَسْقَطَتْهُ فِي الْبَعْضِ، لِيُحْفَظَ الْقُرْآنُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَتَجْتَمِعَ أَشْتَاتُ الرِّوَايَةِ، وَيَتَبَيَّنَ وَجْهُ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ، فَانْتَهَتْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إلَى أَرْبَعِينَ حَرْفًا فِي هَذِهِ الْمَصَاحِفِ، وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهَا أَحْرُفٌ يَسِيرَةٌ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ تُرِكَتْ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْحَاضِرِ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْفَنُّ الَّذِي تَصَدَّيْنَا لَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَة هَلْ يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا ثَبَتَتْ الْقِرَاءَاتُ، وَتَقَيَّدَتْ الْحُرُوفُ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، كَنَافِعٍ مِثْلًا، أَوْ عَاصِمٍ؛ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ فَيَتْلُو حُرُوفَهَا عَلَى ثَلَاثِ قِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ قُرْآنٌ، وَلَا يَلْزَمُ جَمْعُهُ؛ إذْ لَمْ يُنَظِّمْهُ الْبَارِي لِرَسُولِهِ، وَلَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَبُّدِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ الْخَلْقَ بِالدَّلِيلِ أَلَّا يَتَعَدَّوْا الثَّابِتَ إلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَّا تَعْيِينُ الثَّابِتِ فِي التِّلَاوَةِ فَمُسْتَرْسِلٌ عَلَى الثَّابِتِ كُلِّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب