الباحث القرآني

فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ، إنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَأَحْكَامِهِ الْمَاضِيَةِ الْعَالِيَةِ، خَصَّ بَعْضَ النَّاسِ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الْبَعْضِ، نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ شُكْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إخْرَاجَ سَهْمٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى مَنْ لَا مَالَ لَهُ، نِيَابَةً عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا ضَمِنَهُ بِفَضْلِهِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]؛ وَقَدَّرَ الصَّدَقَاتِ عَلَى حَسَبِ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَ فِي النَّقْدَيْنِ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَجَعَلَ فِي النَّبَاتِ الْعُشْرَ، وَمَعَ تَكَاثُرِ الْمُؤْنَةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي حَقِيقَةِ الصَّدَقَةِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ مُقَدَّرٌ مُعَيَّنٌ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ مُقَدَّرٌ فَجَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ؛ إذْ زَعَمَ أَنَّ التَّكْلِيفَ وَالِابْتِلَاءَ إنَّمَا هُوَ فِي نَقْصِ الْأَمْوَالِ، وَذَهَلَ عَنْ التَّوْفِيَةِ لِحَقِّ التَّكْلِيفِ فِي تَعْيِينِ النَّاقِصِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوَازِي التَّكْلِيفَ فِي قَدْرِ النَّاقِصِ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ يُرِيدُ أَنْ يَبْقَى مِلْكُهُ بِحَالِهِ، وَيَخْرُجَ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ، فَإِذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ، وَعَلِقَتْ بِهِ، كَانَ التَّكْلِيفُ قَطْعَ تِلْكَ الْعَلَاقَةِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْمَالِ، فَوَجَبَ إخْرَاجُ ذَلِكَ الْجُزْءِ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِالصَّدَقَةِ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. قُلْنَا: قَدْ أَجَابَ عَنْهُ عُلَمَاؤُنَا بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ يُخَالِفُ الْأُصُولَ، وَعِنْدَهُمْ إذَا خَالَفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْأُصُولَ بَطَلَ فِي نَفْسِهِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّقْوِيمِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُعْطَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا عُرِفَتْ قِيمَتُهَا، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ الْقِيمَةِ إلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ بِتَعَيُّنِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِبَادَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا إنَّمَا جَوَّزَ فِي الْجِيرَانِ ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ السِّنِينَ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إجْزَائِهِ فِي الْأَصْلِ، فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ كِتَابَ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ وَعَمِلَ بِهِ فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ أَوْلَى مِنْ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ. وَلَعَلَّهُ كَانَ لِقَضِيَّةٍ فِي عَيْنٍ مَخْصُوصَةٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً: وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الصِّدْقِ فِي مُسَاوَاةِ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ، وَالِاعْتِقَادِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَبِنَاءُ " صَدَقَ " يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَعَضُدُهُ بِهِ، وَمِنْهُ صَدَاقُ الْمَرْأَةِ؛ أَيْ تَحْقِيقُ الْحِلِّ وَتَصْدِيقُهُ بِإِيجَابِ الْمَالِ وَالنِّكَاحِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ. وَيُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِتَصْرِيفِ الْفِعْلِ، يُقَالُ: صَدَّقَ فِي الْقَوْلِ صَدَاقًا وَتَصْدِيقًا، وَتَصَدَّقَتْ بِالْمَالِ تَصَدُّقًا، وَأَصْدَقَتْ الْمَرْأَةُ إصْدَاقًا. وَأَرَادُوا بِاخْتِلَافِ الْفِعْلِ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ بِهِ فِي الْكُلِّ. وَمُشَابَهَةُ الصِّدْقِ هَاهُنَا لِلصَّدَقَةِ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ مِنْ دِينِهِ أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ هِيَ الْمَصِيرُ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الدَّانِيَةَ قَنْطَرَةٌ إلَى الْأُخْرَى، وَبَابٌ إلَى السُّوأَى أَوْ الْحُسْنَى عَمِلَ لَهَا، وَقَدَّمَ مَا يَجِدُهُ فِيهَا؛ فَإِنْ شَكَّ فِيهَا أَوْ تَكَاسَلَ عَنْهَا وَآثَرَ عَلَيْهَا بَخِلَ بِمَالِهِ، وَاسْتَعَدَّ لِآمَالِهِ، وَغَفَلَ عَنْ مَآلِهِ. وَفِي كُتُبِ الذِّكْرِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْ هَذِهِ اللَّامُ قَوْله لِلْفُقَرَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْ هَذِهِ اللَّامُ [فَقِيلَ] لَامُ الْأَجَلِ؛ كَقَوْلِك: هَذَا السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ، وَالْبَابُ لِلدَّارِ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ لَامُ التَّمْلِيكِ؛ كَقَوْلِك: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْطَى جَمِيعُهَا لِلْعَامِلَيْنِ عَلَيْهَا. وَاعْتَمَدَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَضَافَ الصَّدَقَةَ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ إلَى مُسْتَحِقٍّ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيكِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُسْتَحِقِّينَ. وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ، أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271]. وَالصَّدَقَةُ مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ». وَهَذَا نَصٌّ فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً. وَحَقَّقَ عُلَمَاؤُنَا الْمَعْنَى، فَقَالُوا: إنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ أُحَالَ بِحَقِّهِ لِمَنْ ضَمِنَ لَهُمْ رِزْقَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]؛ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو: إنَّ لِي حَقًّا عَلَى خَالِدٍ يُمَاثِلُ حَقَّك يَا عَمْرُو أَوْ يُخَالِفُهُ، فَخُذْهُ مِنْهُ مَكَانَ حَقِّك فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي جِهَةِ الْمَصْرِفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ كَالْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُبْطِلُ بِالْكَافِرِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ الرِّزْقُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ الْحَقِّ، ثُمَّ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لِلزَّكَاةِ. قُلْنَا: كَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ: إنَّهُ تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلَى الذِّمِّيِّ، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِقَوْلِهِ: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ»؛ فَخَصَّصْنَاهُ بِمَا خَصَّصَهُ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ، الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ؛ وَمَا فَهِمَ الْمَقْصُودَ أَحَدٌ فَهْمَ الطَّبَرِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الصَّدَقَةُ لِسَدِّ خُلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِسَدِّ خُلَّةِ الْإِسْلَامِ؛ وَذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ مَأْخَذِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْأَصْنَافِ وَتَعْدِيدِهِمْ. وَاَلَّذِي جَعَلْنَاهُ فَصْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الْأَمَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ كُلُّ صِنْفٍ حَظَّهُ لَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ، فَكَذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ مِثْلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصَّدَائِيُّ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْته، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك». وَقَدْ قَالَ النَّخَعِيُّ: إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا قَسَّمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ، وَإِلَّا وَضَعَهُ فِي صِنْفٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِي قِسْمٍ، وَإِنْ قَسَّمَهُ الْإِمَامُ اسْتَوْعَبَ الْأَصْنَافَ؛ وَذَلِكَ فِيمَا قَالُوا: إنَّهُ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيَعُمَّهُمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَانَ قَسْمُهُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ إنْ قَسَّمَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، فَأَمَّا الْإِمَامُ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، فَيَبْحَثُ عَنْ النَّاسِ وَيُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُمْ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِهِمْ. وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحُجَّةِ هُوَ الْأَقْوَى. وَتَحْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُتَحَصِّلَ مِنْ أَصْنَافِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَائِرُ الْأَصْنَافِ دَاخِلَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا. فَأَمَّا الْعَامِلُونَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَيَأْتِي بَيَانُ حَالِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة الْفَقِيرُ فَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ] إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ بَيَانَ الْأَصْنَافِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ، فَنَقُولُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا الْفَقِيرُ: فَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ، وَالْمِسْكِينَ: الْفَقِيرُ السَّائِلُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ شَعْبَانَ. الثَّانِي: الْفَقِيرُ هُوَ الْمُحْتَاج الزَّمِنُ. وَالْمِسْكِينُ هُوَ الْمُحْتَاجُ الصَّحِيحُ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجُ، وَالْمِسْكِينَ سَائِرُ النَّاسِ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَغَيْرُهُ. الرَّابِعُ، الْفَقِيرُ الْمُسْلِمُ، وَالْمِسْكِينُ أَهْلُ الْكِتَابِ. الْخَامِسُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. السَّادِسُ: عَكْسُهُ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ وَاحِدٌ، ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ. الثَّامِنُ: الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْمَسَاكِينُ الْأَعْرَابُ. [مَسْأَلَة مَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَالْقَائِمُ بِهِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60]: وَهُمْ الَّذِينَ يَقْدَمُونَ لِتَحْصِيلِهَا، وَيُوَكَّلُونَ عَلَى جَمْعِهَا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَةٍ بَدِيعَةٍ، وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَالْقَائِمُ بِهِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَةُ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فَإِنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِهِمْ بِهِمْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَلَا جَرَمَ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا. وَهَذَا أَصْلُ الْبَابِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ». قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعَامِلُ فِي الصَّدَقَةُ يَسْتَحِقُّ مِنْهَا كِفَايَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ بِسَبَبِ الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَدَلًا عَنْ الْعَمَلِ، حَتَّى لَمْ يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ، وَالْأُجْرَةُ تَحِلُّ لَهُ. قُلْنَا: بَلْ هِيَ أُجْرَةٌ صَحِيحَةٌ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا الْهَاشِمِيُّ تَحَرِّيًا لِلْكَرَامَةِ وَتَبَاعُدًا عَنْ الذَّرِيعَة، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أُجْرَةٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَلَكَهَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَلَيْسَ لَهُ وَصْفٌ يَأْخُذُ بِهِ مِنْهَا سِوَى الْخِدْمَةِ فِي جَمْعِهَا. [مَسْأَلَة الْمِقْدَارِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَامِلُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَامِلُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ: هُوَ الثُّمُنُ بِقِسْمَةِ اللَّهِ لَهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَهَذَا تَعْلِيقٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ، أَوْ بِالْمَحَلِّيَّةِ، وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ. الثَّانِي: يُعْطَوْنَ قَدْرَ عَمَلِهِمْ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ هَذَا، وَالْكَلَامُ عَلَى تَحْقِيقِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَدَاوُد بْنِ سَعِيدٍ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ دَلِيلًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِسَهْمِهِمْ فِيهَا نَصًّا، فَكَيْفَ يُخَلِّفُونَ عَنْهُ اسْتِقْرَاءً وَسَبْرًا. وَالصَّحِيحُ الِاجْتِهَادُ فِي قَدْرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي تَعْدِيدِ الْأَصْنَافِ إنَّمَا كَانَ لِلْمَحَلِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ. [مَسْأَلَة أَصْنَافَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ مُسْلِمُونَ يُعْطَوْنَ لِضَعْفِ يَقِينِهِمْ [حَتَّى يُقَوَّوْا]، مَثَّلَهُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ كُفَّارُ مَثَّلَهُمْ بِعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ. وَمِنْ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَلَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ مَيْلٌ مَثَّلَهُمْ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ. الثَّانِي: قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ. وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى. وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ. وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَمِنْ بَنِي فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ. وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. وَمِنْ بَنِي نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ. وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ. وَمِنْ ثَقِيفٍ الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ. الثَّالِثُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سُفْيَانَ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَكَانَ صَفْوَانُ يَوْمَ الْعَطِيَّةِ مُشْرِكًا. وَقَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ. الرَّابِعُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَمُعَاوِيَةُ ابْنُهُ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ كِلْدَةَ؛ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَالْمُعَلَّى بْنُ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعْدُ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَطُلَيْقُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَخَالِدُ بْنُ أُسَيْدَ بْنِ أَبِي الْعَيْصِ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَخَالِدُ بْنُ هِشَامٍ، وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ، وَمُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ، وَأُحَيْحَةُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُرْوَةَ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنُ مَالِكٍ، وَخَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ هَوْذَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ بْنُ عِقَالٍ، وَقَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَلَا فِي ابْنِهِ. وَأَمَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَعَظِيمُ الْقَدْرِ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ مَالِكٌ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ. قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي أَنْ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْرَجَ مَا كَانَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُؤَلَّفَةِ، فَتَصَدَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ. وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ فَهُوَ ابْن طَبِيبِ الْعَرَبِ وَكَانَ مِنْهُمْ. وَلَا خَفَاءَ بِعُيَيْنَةَ وَلَا بِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ سَيِّدِ هَوَازِنَ. وَأَمَّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَرَجُلٌ عَظِيمٌ، إنْ كَانَ مُؤَلَّفًا بِالْعَطِيَّةِ فَلَمْ يَمُتْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا، وَهُوَ مُؤَلَّفٌ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْيَقِينِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إلَى مَكَّةَ مَاجَ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو خَطِيبًا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنْ هَذَا الْأَمْرَ سَيَمْتَدُّ امْتِدَادَ الشَّمْسِ فِي طُلُوعِهَا إلَى غُرُوبِهَا، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حُبِسَ عَلَى بَابِ عُمَرَ، فَأَذِنَ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَصُهَيْبٌ وَنَوْعُهُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ، وَمَشْيَخَةُ قُرَيْشٍ: يَأْذَنُ لِلْعَبِيدِ وَيَذْرُنَا، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: دُعِيتُمْ فَأَجَابُوا، وَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأْتُمْ، أَمَا وَاَللَّهِ لَمَا سَبَقُوكُمْ بِهِ مِنْ الْفَضْلِ أَشَدُّ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الَّذِي تُنَافِسُونَ فِيهِ؛ إلَى أَمْثَالِ هَذَا الْخَبَرِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ وَالْبَصَرِ. وَأَمَّا حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى فَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي أَمَرَهُ، إنَّمَا هُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَصَحَّ دَيْنُهُ وَيَقِينُهُ. وَأَمَّا مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زَهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ فَأُمُّهُ رَقِيقَةُ بِنْتُ أَبِي صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَالِدِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، حَسُنَ إسْلَامُهُ، وَهُوَ الَّذِي نَصَبَ أَعْلَامَ الْحَرَمِ لِعُمَرَ مَعَ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، «وَهُوَ الَّذِي خَبَّأَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِثَّاءَ، فَقَالَ: خَبَّأْت هَذَا لَك، خَبَّأْت هَذَا لَك». وَأَمَّا عُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ أَبُو أُمَيَّةَ الْجُمَحِيُّ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، مُسْلِمٌ حَنِيفِيٌّ، أَمَا إنَّهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ لِقَتْلِهِ بِمَا شَرَطَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَفْوَانَ، فَأَسْلَمَ، وَحَدِيثُهُ طَوِيلٌ. وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو فَلَا أَعْرِفُ. وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَكَانَ فِي أَوَّلٍ أَمْرِهِ كَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ؛ وَهِيَ شَنْشَنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ، وَمَنْ يُشْبِهُ أَخَاهُ فَلَمْ يَظْلِمْ. حَسُنَ إسْلَامُهُ، وَكَانَ بِالْمِسْكِ خِتَامُهُ. وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ فَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِالصِّرْمِ، مَخْزُومِيٌّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّنَا أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنَا أَقْدَمُ مِنْك، وَأَنْتَ أَكْبَرُ وَخَيْرٌ مِنِّي»، وَلَمْ أَعْلَمْ تَأْلِيفَهُ. وَأَمَّا عَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ فَلَمْ أَعْرِفْهُ. وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فَكَبِيرُ قَوْمِهِ، حَسُنَ إسْلَامُهُ، وَخَبَرُهُ مَشْهُورٌ. وَأَمَّا طُلَيْقُ بْنُ سُفْيَانَ، وَابْنُهُ حَكِيمٌ؛ فَهُوَ وَابْنُهُ مَذْكُورَانِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ أُسَيْدَ بْنِ أَبِي الْعَيْصِ بْنِ أُمَيَّةَ فَلَا أَعْرِفُ قِصَّتَهُ. «وَأَمَّا شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ فَكَانَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ عَرَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَهُ أَفْكَلُ، فَمَسَحَ صَدْرَهُ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ». وَأَمَّا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ الْعَبْدَرِيُّ فَهُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَاسْمُهُ حَبَّةُ؛ لَا أَعْرِفُهُ. وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرٍ فَلَا أَعْرِفُهُ، أَمَا إنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَلَسْت أُحَصِّلُ. وَأَمَّا زُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَخَالِدُ بْنُ هِشَامٍ فَلَا أَعْرِفُهُمَا. وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ فَهُوَ أَخُو خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَأَمَّا سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ فَلَا أَعْرِفُهُ. وَأَمَّا أَبُو السَّائِبِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ فَلَسْت أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، وَاسْمُهُ عَامِرٌ، فَلَا أَعْرِفُهُ مِنْهُمْ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ فِي الصَّحِيحِ: «وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَقَالَ فِيهِ: «وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ بِشَرٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ» وَرَبُّك أَعْلَمُ. وَأَمَّا أُحَيْحَةُ فَهُوَ أَخُو صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لَا أَعْرِفُ. وَأَمَّا نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ فَلَا أَعْرِفُهُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيُّ الْكِلَابِيُّ فَهُوَ مِنْهُمْ وَأُسَيْدُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَحَسُنَ الْإِسْلَامُ عِنْدَهُمَا. وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ فَهُوَ وَالِدُ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ مُبَايِعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ، مِنْ بَنِي أَنْفِ النَّاقَةِ، غَيْرُ مَمْدُوحٍ. وَالْحُطَيْئَةُ لَا أَعْرِفُ، وَكَذَلِكَ أَخُوهُ حَرْمَلَةُ. وَأَمَّا الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَمَشْهُورٌ فِيهِمْ. وَأَمَّا قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنُ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ الْمُطَّلِبِيُّ فَلَا أَعْلَمُهُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو فَلَا أَعْرِفُهُ. وَقَدْ عُدَّ فِيهِمْ زَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِيُّ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. اسْتِدْرَاكٌ: وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ؛ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدْ ائْتَمَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ وَخَلْطِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا حَالُهُ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَشْهُرُ مِنْ هَذَا وَأَظْهَرُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْنَافَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَمِنْهُمْ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ قَوِيُّ بِالْأَدِلَّةِ وَالْعَطَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُمْ كَافِرًا؛ فَحَصِّلُوا هَذَا فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي الْقِصَّةِ. [مَسْأَلَة بَقَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اُخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمْ زَائِلُونَ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمْ بَاقُونَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا احْتَاجَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَطَعَهُمْ عُمَرُ لِمَا رَأَى مِنْ إعْزَازِ الدِّينِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي: أَنَّهُ إنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ زَالُوا، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ أُعْطُوا سَهْمَهُمْ، كَمَا كَانَ يُعْطِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ الصَّحِيحَ قَدْ رُوِيَ فِيهِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ». الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا قُلْنَا بِزَوَالِهِمْ فَإِنَّ سَهْمَهُمْ سَيَعُودُ إلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، أَوْ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَصْلِ الْخِلَافِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُعْطَى نِصْفُ سَهْمِهِمْ لِعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ مَحَلٌّ لَا مُسْتَحَقُّونَ؛ إذْ لَوْ كَانُوا مُسْتَحَقِّينَ لَسَقَطَ سَهْمُهُمْ بِسُقُوطِهِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَرْجِعْ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ. [مَسْأَلَة شِرَاءُ الرِّقَابِ وَعِتْقُهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ الْمُكَاتَبُونَ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعِتْقُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْتَاعَ الْإِمَامُ رَقِيقًا فَيُعْتِقَهُمْ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَعَنْ مَالِكٍ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مُكَاتِبًا، وَلَا فِي آخِرِ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِهِ، وَلَوْ خَرَجَ بِهِ حُرًّا. وَقَدْ قَالَ مَرَّةً: فَلِمَنْ يَكُونُ الْوَلَاءُ؟ وَقَالَ آخِرًا: مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَمَا بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ فَعَلُوا ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ: رَوَى عَنْهُ مُطَرِّفٌ أَنَّهُ يُعْطَى الْمُكَاتَبُونَ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: يَشْتَرِي مِنْ زَكَاتِهِ رَقَبَةً فَيُعْتِقُهَا، يَكُونُ وَلَاؤُهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. الرَّابِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ: لَا آمُرُ أَحَدًا أَنْ يَشْتَرِيَ رَقَبَةً مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَيُعْتِقُهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شِرَاءُ الرِّقَابِ وَعِتْقُهَا، كَذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَيْثُ ذَكَرَ الرَّقَبَةَ فِي كِتَابِهِ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُكَاتَبِينَ لَذَكَرَهُمْ بِاسْمِهِمْ الْأَخَصِّ، فَلَمَّا عَدْلَ إلَى الرَّقَبَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْعِتْقَ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةٍ الْغَارِمِينَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الرِّقَابِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ فِي الْمُكَاتَبِ بِالْعُمُومِ، وَلَكِنْ فِي آخِرِ نَجْمٍ يُعْتَقُ بِهِ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَا حَرَجَ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَخْلِيصَهُ مِنْ الرِّقِّ، وَفَكِّهِ مِنْ حَبْسِ الْمِلْكِ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا يَتَأَتَّى عَنْ الْوَلَاءِ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ تَخْلِيصُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الرِّقِّ، وَفَكُّهُ مِنْ حَبْسِ الْمِلْكِ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ. [مَسْأَلَة اشْتَرَى الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ أَبَاهُ وَأَخَذَ الْمَالَ لِيُعْتِقَهُ عَنْ نَفْسِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ اشْتَرَى الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ أَبَاهُ وَأَخَذَ الْمَالَ لِيُعْتِقَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ [فِيهِ] قَوْلُ مَالِكٍ؛ فَمَنَعَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَأَجَازَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ»، وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلثَّمَنِ مُقَابِلٌ يُوَازِيهِ. [مَسْأَلَة فَكِّ الْأُسَارَى مِنْ الزَّكَاة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَكِّ الْأُسَارَى مِنْهَا؛ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ فَكُّ الْمُسْلِمِ عَنْ رَقِّ الْمُسْلِمِ عِبَادَةً وَجَائِزًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي فَكِّ الْمُسْلِمِ عَنْ رَقِّ الْكَافِرِ وَذُلِّهِ. [مَسْأَلَة هَلْ نُعْتِقُ مِنْ الزَّكَاة رَقَبَة] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُعَانُ مِنْهَا الْمُكَاتَبُ، فَهَلْ نُعْتِقُ مِنْهَا بَعْضَ رَقَبَةٍ يَنْبَنِي عَلَيْهَا؟ فَإِذَا كَانَ نِصْفَ عَبْدٍ أَوْ عَشَرَةً يَكُونُ فِيهِ فَكُّهُ عَنْ الرِّقِّ بِمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ عِتْقِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ ذَكَرَهُ مُطَرِّفٌ، وَكَذَلِكَ أَقُولُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ كَالشَّرِيكَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْرِيعًا كَثِيرًا. [مَسْأَلَة الْغَارِمِينَ هُمْ الَّذِينَ رَكِبَهُمْ الدَّيْنُ وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُمْ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60]: وَهُمْ الَّذِينَ رَكِبَهُمْ الدَّيْنُ، وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُمْ [بِهِ]، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ ادَّانَ فِي سَفَاهَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْهَا، نَعَمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَإِنَّهُ إنْ أَخَذَهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ عَادَ إلَى سَفَاهَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَكْبَرَ مِنْهَا، وَالدُّيُونُ وَأَصْنَافُهَا كَثِيرَةٌ. وَتَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا قُضِيَ مِنْهَا دَيْنُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْغَارِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يُقْضَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ؛ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ». [مَسْأَلَة الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]: قَالَ مَالِكٌ: سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ هَاهُنَا الْغَزْوُ مِنْ جُمْلَةِ سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إنَّهُ الْحَجُّ. وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَجَّ مِنْ جُمْلَةِ السُّبُلِ مَعَ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ بِرٍّ، فَأُعْطِيَ مِنْهُ بِاسْمِ السَّبِيلِ، وَهَذَا يُحِلُّ عَقْدَ الْبَابِ، وَيَخْرُمُ قَانُونَ الشَّرِيعَةِ، وَيَنْثُرُ سِلْكَ النَّظَرِ، وَمَا جَاءَ قَطُّ بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ أَثَرٌ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُعْطَى مِنْهَا الْفَقِيرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَيُعْطَى الْغَنِيُّ عِنْدَ مَالِكٍ بِوَصْفِ سَبِيلٍ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي يُؤْثَرُ عَنْهُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى الْغَازِي [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] إلَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَلَا نَسْخَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي الْخَمْسِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]؛ فَشَرَطَ فِي قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَقْرَ؛ وَحِينَئِذٍ يُعْطَوْنَ مِنْ الْخُمُسِ. وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنْ الْحَوْزَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ. «وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّدَقَةِ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي نَازِلَةِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ إطْفَاءً لِلثَّائِرَةِ». [مَسْأَلَة ابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ فِي سَفَرِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]: يُرِيدُ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ فِي سَفَرِهِ، وَغَابَ عَنْ بَلَدِهِ وَمُسْتَقَرِّ مَالِهِ وَحَالِهِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا. قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ: إذَا وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ فَلَا يُعْطَى. وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُدْخِلَ تَحْتَ مِنَّةُ أَحَدٍ، وَقَدْ وَجَدَ مِنَّةَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ. [مَسْأَلَة ادَّعَى الرَّجُلُ اسْتِحْقَاق الزَّكَاة لكونه مِنْ أَهْلهَا هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا جَاءَ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَنَا فَقِيرٌ، أَوْ مِسْكِينٌ، أَوْ غَارِمٌ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ ابْنُ السَّبِيلِ، هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، أَمْ يُقَالُ لَهُ: أَثْبِتْ مَا تَقُولُ؟ فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ. وَأَمَّا سَائِرُ الصِّفَاتُ فَظَاهِرُ الْحَالِ يَشْهَدُ لَهَا وَيُكْتَفَى بِهِ فِيهَا. ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إلَيْهِ قَوْمٌ ذَوُو حَاجَةٍ مُجْتَابِي النِّمَارِ، فَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ». وَفِي حَدِيثٍ: أَبْرَصُ وَأَقْرَعُ وَأَعْمَى قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: «إنَّا عَلَى مَا تَرَى». فَاكْتَفَى بِظَاهِرِ الْحَالِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ يُكْتَفَى بِغُرْبَتِهِ، وَظَاهِرِ حَالَتِهِ، وَكَوْنُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعْلُومٌ بِفِعْلِهِ لِذَلِكَ وَرُكُونِهِ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا مُكَاتَبٌ أَثْبَتَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ حَتَّى يُثْبِتَ الْحُرِّيَّةَ أَوْ سَبَبَهَا. وَإِنْ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى الْفَقْرِ عِيَالًا، فَقَالَ الْقَرَوِيُّونَ: يَكْشِفُ عَنْ ذَلِكَ إنْ قَدَرَ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَأَنَا ابْنُ سَبِيلٍ أَسْأَلُك بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ إثْبَاتَ السَّفَرِ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ؛ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي دَعْوَى كُلِّ شَيْءٍ غَائِبٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ. [مَسْأَلَة بِأَيِّ صِنْفٍ يَبْدَأُ بِالزَّكَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ مُسْتَحِقُّونَ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ حَقَّهُ وَهُوَ الثُّمُنُ، وَلَا مَسْأَلَةَ مَعَنَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْإِمَامَ يَجْتَهِدُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِأَيِّ صِنْفٍ يَبْدَأُ. فَأَمَّا الْعَامِلُونَ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ أُجْرَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ أُجْرَتَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ فَبِهِمْ نَبْدَأُ، فَنُعْطِيهِمْ الثُّمُنَ عَلَى قَوْلٍ، وَقَدْرَ أُجْرَتِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ بِأَنْ يُعْطَى كُلُّ أَجِيرٍ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ مَأْثُورُ اللَّفْظِ صَحِيحُ الْمَعْنَى. فَإِنْ أَخَذَ الْعَامِلُ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى صِنْفٌ يُتَرَجَّحُ فِيهِ إلَّا صِنْفَيْنِ؛ هُمَا سَبِيلُ اللَّهِ وَالْفُقَرَاءُ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ إنْ قُلْنَا: إنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَانِ، فَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْفَقْرِ فَإِنَّ الْفَقْرَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى مَالِ الصَّدَقَةِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ نَازِلَةٍ. وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ صِنْفَانِ، وَلَا نُبَالِي بِمَا قَالَ النَّاسُ فِيهِمَا، وَهَا أَنَا ذَا أُرِيحُكُمْ مِنْهُ بِعَوْنِ اللَّهِ؛ فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْفَقِيرَ مَنْ لَهُ شَيْءٌ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ بِعَكْسِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى مَنْ لَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا الْمَعْنَى سَاقِطٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَأَمَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ فَاَلَّذِي لَا يَسْأَلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السَّائِلَ أَقْرَبُ إلَى التَّفَطُّنِ وَالْغِنَى، وَالْعِلْمُ بِهِ مِمَّنْ لَا يَسْأَلُ، وَلَا يَفْطِنُ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّمِنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَنَّ الْمُحْتَاجَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْكِتَابِيِّ. وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْهِجْرَةِ وَالتَّقَرُّبِ بِذَهَابِ زَمَانِهِمَا، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ بِالْمَعْرِفَةِ وَكَفَانَا الْمَئُونَةُ. [مَسْأَلَة أَعْطَى الْإِمَامُ صَدَقَةَ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَزَوْجِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ الْأَوْصَافُ الَّتِي ذَكَرْنَا شَأْنَهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّتِي قَدَّمْنَا بَيَانَهَا إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا فِيمَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَصَدِّقِ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْقَرَابَةُ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ. فَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْنَبِ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ بِهِ». يَعْنِي بِحُلِيِّهَا الَّذِي أَرَادَتْ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهِ. وَفِي حَدِيثِ بِئْرِ حَاءٍ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي طَلْحَةَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ»، فَجَعَلَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ، وَبَنِي عَمِّهِ. وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي كُلِّ أُمٍّ وَبِنْتٍ مِنْ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَإِنْ أَعْطَى الْإِمَامُ صَدَقَةَ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَزَوْجِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ. وَأَمَّا إنْ تَنَاوَلَ هُوَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا بِحَالٍ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ [فِي ذَلِكَ] بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَرْضًا. وَأَمَّا إنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ. قَالَ مَالِكٌ: خَوْفَ الْمَحْمَدَةِ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ: رَأَيْت مَالِكًا يَدْفَعُ زَكَاتَهُ لِأَقَارِبِهِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ إمَامٌ عَظِيمٌ: قَالَ مَالِكٌ: أَفْضَلُ مَنْ وَضَعْت فِيهِ زَكَاتَك قَرَابَتُك الَّذِينَ لَا تَعُولُ. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَوْجَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لَك أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ». [مَسْأَلَة إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلزَّوْجَيْنِ] وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلزَّوْجَيْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِ مَالِكٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ. وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ إنْ كَانَ يَسْتَعِينُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا بِمَا يُعْطِيهِ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَيَصْرِفُ مَا يَأْخُذُ مِنْهَا مِنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. قُلْنَا: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ هَاهُنَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ عَوْدِهِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَوْ كَانَتْ مُرَاعَاةً لَاسْتَوَى فِيهِ التَّطَوُّعُ وَالْفَرْضُ. [مَسْأَلَة إذَا كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا هَلْ يُعْطِي مِنْ الزَّكَاة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا، فَقَالَ مَالِكٌ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ: يُعْطَى، يَعْنِي لِتَحْقِيقِ صِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: لَا يُجْزِيهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ». خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ غَيْرِهِ، وَزَادَ فِيهِ: «إلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ». وَقَالَ: هَذَا غَرِيبٌ، وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ دُونَ زِيَادَةٍ لَا يُرْكَنُ إلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِيهَا لِلْفُقَرَاءِ الْأَصِحَّاءِ، وَوُقُوفُهَا عَلَى الزَّمْنَى بَاطِلٌ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الِارْتِبَاطِ وَالِانْتِزَاعِ. [مَسْأَلَة مَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ الزَّكَاةِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ الزَّكَاةِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا تَارَةً: مَنْ مَلَكَ نِصَابًا فَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ تُؤْخَذُ مِنْهُ فَلَا تُدْفَعُ إلَيْهِ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: يَأْخُذُ مِنْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا». وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ كِفَايَةٌ تُغْنِيهِ فَهُوَ الْغَنِيُّ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَمَنْ زَادَ عَلَى النِّصَابِ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ كِفَايَةٌ لِمُؤْنَتِهِ وَلَا سَدَادٌ لِخُلَّتِهِ فَلَيْسَ بِغَنِيِّ فَيَأْخُذُ مِنْهَا. [مَسْأَلَة هَلْ يُعْطَى الْفَقِير مِنْ الزَّكَاةِ نِصَابًا أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ نِصَابًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ: نَقْدٌ، وَحَرْثٌ، أَخَذَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى الْأُخْرَى. وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَى نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ وَأَكْثَرُ، فَإِنَّ الْغَرَضَ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ، حَتَّى يَصِيرَ غَنِيًّا، فَإِذَا أَخَذَ تِلْكَ فَإِنْ حَضَرَتْ زَكَاةٌ أُخْرَى وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ أَخَذَهَا غَيْرُهُ، وَإِلَّا عَادَ عَلَيْهِ الْعَطَاءُ. [مَسْأَلَة الصَّدَقَةُ إلَى آلِ مُحَمَّدٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَا تُصْرَفُ الصَّدَقَةُ إلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ». وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا، وَقَدْ أَفَضْنَا فِيهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نُفِيضَ فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ وَاحِدٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إسْلَامٍ». قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُمْ الْخُمُسَ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ وَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: آلُ مُحَمَّدٍ عَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ: بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَآلُ هَاشِمٍ، وَآلُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَآلُ قُصَيٍّ، وَآلُ غَالِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «يَا آلَ قُصَيٍّ، يَا آلَ غَالِبٍ، يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، اعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ؛ فَإِنِّي لَسْت أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا». فَبَيَّنَ بِمُنَادَاتِهِ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا: نَحْنُ هُمْ. يَعْنِي آلَ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا. فَأَمَّا مَوَالِيهِمْ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ لَا فِي التَّطَوُّعِ، وَإِنَّمَا هُمْ بَنُو هَاشِمٍ أَنْفُسُهُمْ. قِيلَ لَهُ يَعْنِي مَالِكًا: فَمَوَالِيهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْمَوَالِي؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَجْت عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ»، فَقَالَ: وَقَدْ قَالَ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ». قَالَ أَصْبَغُ: وَذَلِكَ فِي الْبِرِّ وَالْحُرْمَةِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك». قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَوَالِيهِمْ مِنْهُمْ لَا تَحِلُّ لَهُمْ [الصَّدَقَةُ]. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: لَا يُعْطَى آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ التَّطَوُّعِ. وَأَجَازَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَسَخَ إنَّمَا قُرِنَ بِالْفَرْضِ خَاصَّةً. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي رَافِعٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي، فَإِنَّك تُصِيبُ مِنْهَا؛ فَقَالَ: حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَسْأَلَهُ. فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ». وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَوْ صَحَّ لَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّنْزِيهِ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْدُمُ وَيُطْعِمُ، فَكَرِهَ لَهُ تَرْكَ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يُذَمَّ، وَأَخْذَهُ لِمَالٍ هُوَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، فَكَسْبُ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي أَبِي إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبِلٍ أَعْطَاهَا إيَّاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ. قُلْنَا: لَمْ يَصِحَّ. وَجَوَابُهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ، فَرَدَّ إلَيْهِ مَا اسْتَسْلَفَ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَأَكَلَهَا بِالْعِوَضِ. وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ مُفَسَّرًا مُسْتَوْفًى فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ صَرْفُ صَدَقَةِ بَنِي هَاشِمٍ إلَى فُقَرَائِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَيَأْكُلُونَ مِنْ أَوْسَاخِهِمْ؟ هَذَا جَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الْعِلَّةِ وَجِهَةِ الْكَرَامَةِ. [مَسْأَلَة إذَا اُخْتُصَّ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِزَكَاةِ بَلَدِهِ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْلُهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]: مُقَابَلَةُ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ، وَهِيَ جُمْلَةُ الصَّدَقَةِ بِجُمْلَةِ الْمَصْرِفِ لَهَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ حِينَ أَرْسَلَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ: «قُلْ لَهُمْ: إنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فَاخْتُصَّ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِزَكَاةِ بَلَدِهِ؛ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْلُهَا أَمْ لَا؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تُنْقَلُ، وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ إنْ نَقَلَ بَعْضَهَا لِضَرُورَةٍ رَأَيْتُهُ صَوَابًا. الثَّانِي: يَجُوزُ نَقْلُهَا، وَقَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا. الثَّالِثُ: يُقَسَّمُ فِي الْمَوْضِعِ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ، وَيُنْقَلُ سَائِرُ السِّهَامِ، بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إذَا نَزَلَتْ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ فَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمُ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب