الباحث القرآني

وقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ... الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: الآيةُ خطابٌ للأزواج [[ذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (2/ 8) .]] وقال أبو صَالِحٍ: هي خطابٌ لأوليَاءِ النِّسَاءِ لأنَّ عادَةَ بَعْض العرب كانَتْ أنْ يأكل وليُّ المرأة مَهْرها، فرفَعَ اللَّه ذلكَ بالإسْلام [[أخرجه الطبري (3/ 583) برقم (8512) ، وذكره البغوي (1/ 392) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 8) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 212) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.]] ، وقيل: إن الآية في المتشاغِرِينَ [[الشّغار في اللغة: الرفع، من قولهم: شغر البلد عن السلطان، إذا خلا عنه لخلوه عن الصداق، أو لخلوه عن بعض الشرائط. وقيل: مأخوذ من قولهم: شغر الكلب برجله، إذا رفعها ليبول، كأن كلّا من الوليين يقول للآخر: لا تدفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك. وفي التشبيه بهذه الهيئة القبيحة تقبيح للشغار وتغليظ على فاعله. وأما معناه شرعا، فهو أن يزوج الرجل موليته على أن يزوجه الآخر موليته ليس عنهما صداق. وقد قال عياض عن بعض العلماء: كان الشغار من نكاح الجاهلية يقول: شاغرني وليتي بوليتك، أي عاوضني جماعا بجماع. وقسم علماء المالكية الشغار إلى ثلاثة أقسام: الأول: صريح الشغار، وهو أن يقول الرجل لصاحبه: زوجني ابنتك مثلا على أن أزوجك ابنتي مثلا من غير صداق. الثاني: وجه الشغار، وهو أن يقول له زوجني ابنتك بمائة على أن أزوجك ابنتي بمائة. الثالث: المركب منهما، وهو أن يقول له: زوجني ابنتك بلا شيء على أن أزوجك ابنتي بمائة، فالصريح هو الخالي من الصداق من الجانبين، والوجه هو المسمى فيه الصداق من الجانبين، والمركب هو المسمى فيه لواحدة دون الثانية. ويحرم الإقدام عليه بجميع أنواعه، لقوله ﷺ: «لا شغار في الإسلام» . ولما كان المالكية قد قسموا الشغار إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة نبين الحكم عندهم في هذه الأقسام: أما صريح الشغار فقالوا: يفسخ مطلقا قبل الدخول وبعده، ولو ولدت الأولاد، ولا شيء للمرأة قبل الدخول، ولها بعده صداق المثل، وأما وجه الشغار، فقالوا: يفسخ قبل الدخول، ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل. وأما المركب منهما، فيفسخ قبل الدخول في كل، ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت نكاح المسمى لها بعد الدخول بالأكثر من المسمى وصداق المثل، ويفسخ نكاح من لم يسم لها، ولها صداق المثل. وقد اختلف الفقهاء في نكاح الشغار هل هو صحيح أو فاسد وحصر الخلاف في مسألتين: المسألة الأولى: إذا لم يسميا صداقا لواحدة منهما، بل يجعلان بضع كل صداقا للأخرى، وهو المسمى بصريح الشغار. وقد اختلف الفقهاء في صحة هذا النكاح وفساده. فذهب المالكية والحنابلة والظاهرية والشافعية إلى القول بفساد النكاح في هذه الحالة، إلا أن الشافعية كما يفهم مما جاء في كتبهم يقولون: إن محل فساد النكاح في هذه الحالة إذا جعل بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى. وأما إذا لم يجعل بضع كل منهما صداقا للأخرى، فالأصح عندهم الصحة للنكاحين. وذهب الحنفية إلى القول بصحة النكاح، وأنه يجب لكل واحدة منهما مهر مثلها، وحكي هذا عن عطاء، وعمرو بن دينار، ومكحول، والزهري، والثوري. استدل الحنفية ومن معهم بما يأتي: قالوا: لما جعلا بضع كل منهما صداقا للأخرى، فقد سميا ما لا-- يصلح صداقا، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة، وإذا كان الأمر كذلك صح النكاح، ووجب مهر المثل، كما لو سميا خمرا أو خنزيرا، فيكون حاصل هذا الدليل أن فساده من جهة المهر، وفساد المهر لا يوجب فساد العقد. ويرد هذا الدليل بأن الفساد هنا ليس من جهة المهر بل فساده من جهة أن أوقفه على شرط فاسد يوجب فساد العقد إذ فيه التشريك في البضع لأن كل واحد منهما جعل بضع موليته موردا للنكاح وصداقا للأخرى، فأشبه تزويجها من رجلين، وهو باطل، فكذلك ما هنا، على أن هذا معقول في مقابلة النص، وهو باطل. واستدل المالكية ومن معهم بالسنة والمعقول: أما السنة، فأولا ما روي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: «نهى رسول الله ﷺ عن الشغار» ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن الرسول ﷺ نهى عن الشغار، والنهي يدل على فساد المنهي عنه فوجب أن يكون الشغار فاسدا. وهذا الذي روي عن أبي هريرة روي مثله أيضا صحيحا مسندا عن ابن عمر فقد روي عنه أنه قال: إن رسول الله ﷺ نهى عن الشغار. متفق عليه. وروي أيضا من طريق جابر وأنس. ثانيا: ما روي أن النبيّ ﷺ قال: «لا شغار في الإسلام» ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبيّ ﷺ قال: «لا شغار في الإسلام» وهذا يحتمل أمرين نفي وجود الشغار في الإسلام، ونفي صحته، ولا شك أن وجوده في الإسلام دافع فتعين حمل الكلام على نفي الصحة. وأما المعقول، فقد قالوا فيه: إن كان واحد منهما جعل بضع موليته موردا للنكاح وصداقا للأخرى، وذلك يوجب فساد العقد كما لو زوج موليته من رجلين. وقد قيل للمالكية ومن معهم في الأحاديث ما يأتي: أولا: إن النهي عن نكاح الشغار، ونكاح الشغار هو النكاح الخالي عن العوض، وما هنا نكاح بعوض وهو مهر المثل فلا يكون شغارا. وترد هذه المناقشة بأن القول بأن هذا نكاح بعوض وهو من المثل غير مستقيم فإن مهر المثل إنما أوجبتموه أنتم لتصحيح مذهبكم، وذلك أن الواقع في العقد إنما هو جعل بضع كل منهما في مقابلة بضع الأخرى. وثانيا: أن النهي يحمل على الكراهة. ويرد هذا بأن الأصل في النهي أن يكون للتحريم، ولا يحمل على الكراهة إلا لدليل، ولا دليل هنا، لا سيما أن الشغار كان من أنكحة الجاهلية، فرفعه الإسلام، ولذلك قال الرسول ﷺ: «لا شغار في الإسلام» . وأما تفرقة الشافعية بين ما إذا جعل بضع كل منهما صداقا للأخرى وبين ما إذا لم يجعل بضع كل منهما صداقا للأخرى حيث حكموا بالفساد في الصورة الأولى دون الثانية، فتفرقة غير ظاهرة فإن نفي الصداق معناه جعل بضع كل منهما صداقا للأخرى، ولو لم يصرحا بذلك. المسألة الثانية: إذا سميا لكل واحدة منهما صداقا، وهو المسمى ب «وجه الشغار» ، أو سميا لواحدة منهما دون الأخرى، وهو «المركب منهما» . اختلف الفقهاء في صحة النكاح وفساده في هذه الحالة أيضا: فذهب المالكية والظاهرية إلى القول بالفساد في هذه الحالة أيضا، وهو الصحيح من مذهب الشافعية، قال ابن شهاب الدين الرملي: ولو سميا أو أحدهما مالا مع جعل البضع صداقا كأن قال: وبضع كل وألف صداق الأخرى بطل في الأصح لبقاء معنى التشريك، والثاني: يصح لأنه ليس على صورة تفسير الشغار ولأنه لم يخل عن المهر. -- وذهب الحنابلة إلى التفصيل، فقالوا: إذا سميا صداقا لكل واحدة صح النكاح، ولهم في المهر روايتان، فقيل: تفسد التسمية، ويجب مهر المثل لأن كل واحد منهما لم يرض بالمسمى إلا بشرط أن يزوج وليته صاحبه، فينقص المهر لهذا الشرط، وهو باطل، فإذا احتجنا إلى ضمان النقص صار المسمى مجهولا فبطل. وعند بطلان المسمى يرجع إلى مهر المثل. والرواية الثانية: أنه يجب المسمى لأنه ذكر قدرا معلوما يصح أن يكون مهرا، فصح. وأما إن سميا صداقا لواحدة دون الأخرى، فقيل: يفسد النكاح فيهما، وقيل: يفسد في التي لم يسمّ لها صداق، ويصح في التي سمى لها مهر. استدل الحنابلة ومن وافقهم على القول بصحة النكاح إذا سميا لكل واحدة منهما مهرا- بما روي عن ابن عمر- (رضي الله عنهما) أن رسول الله ﷺ «نهى عن الشغار» والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، ليس بينهما صداق. ووجه الدلالة من هذا: أنهم قالوا: إن الشغار المنهي عنه هو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته ليس بينهما صداق. وأما إذا وجد فيه صداق كما هنا، فليس هو من الشغار المنهي عنه، وإذا لم يكن كذلك فيكون صحيحا. ويرد هذا الدليل بأن تفسير الشغار الواقع في الحديث ليس هو من كلام الرسول ﷺ، وإنما هو من قول مالك وصل بالمتن المرفوع. وقيل: هو من قول نافع، فقد روى الإسماعيلي من حديث محرز بن عون ومعن بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ «نهى عن الشغار» - قال محرز: قال مالك: والشغار هو أن يزوج الرجل ابنته إلى آخره. وقال في صحيح مسلم من غير طريق مالك أن تفسير الشغار من قول نافع. وإذا ثبت أن تفسير الشغار ليس من قول النبيّ ﷺ، فلا يكون فيه حجة. وأما المالكية ومن وافقهم، فقد استدلوا بما روي عن الأعرج أن العباس بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أنكح ابنته عبد الرّحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وأنكحه عبد الرّحمن ابنته، وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره أن يفرق بينهما، وقال معاوية في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ﷺ. ووجه الدلالة من هذا: أن معاوية أمر بفسخ هذا النكاح مع أنه سمي فيه الصداق لكل واحدة منهما، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم يعرف له منهم مخالف فدل ذلك على فساده، وإلا لما أمر معاوية بفسخه، ولما أقر عليه. فإن قال قائل: إن هذا اجتهاد من معاوية، وعدم إنكار من حضر من الصحابة لا يدل على الرضى والموافقة فإن السكوت في المسائل الاجتهادية لا يكون دليلا على الرضى. يجاب عن هذا بأن معاوية قال في كتابه: إن هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله ﷺ. فقد نسبه إلى الرسول لا إلى اجتهاده، وعلى ذلك يحمل سكوت من حضر من الصحابة على موافقتهم له بأن هذا من الشغار الذي نهى عنه الرسول ﷺ. وأما وجه قول الحنابلة فيما إذا سميا لإحداهما مهرا دون الأخرى على رواية أن النكاح يفسد فيهما. فقد قالوا: إنه فسد في إحداهما، فوجب أن يفسد في الأخرى لأن نكاح كل واحدة منهما متوقف على نكاح الأخرى. وأما على رواية فساد نكاح التي لم يسم لها مهر دون الأخرى، فذلك لأن نكاح التي لم يسم لها خلا من المهر، بخلاف نكاح الأخرى فيفسد. وأما الثانية، فيصح نكاحها لأن فيه تسمية وشرطا، فأشبه ما لو-]] الذين يتزوَّجون امرأةً بأخرى، فُأمِرُوا أنْ يضربوا المهور. - سمى لكل واحدة منهما. ويرد هذا بأن الأولى فساد نكاحهما معا لتوقف نكاح كل على نكاح الأخرى، كما هو القول الأول. والنظر في الأدلة ومناقشاتها يقضي بترجيح مذهب من قال بفساد نكاح الشغار مطلقا، سواء أذكر في كل ذلك صداق لكل واحدة منهما أو لإحداهما دون الأخرى أو لم يذكر في شيء من ذلك صداق. وذلك لأن الجميع يصدق عليه شغار، وقد نهى النبيّ ﷺ عن الشغار، خصوصا أن الشغار كان من أنكحة الجاهلية، فجاء الإسلام بهديه. قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 8) .]] : والآية تتناوَلُ هذه التأويلاتِ الثَّلاثَ، ونِحْلَةَ، أي: عطيَّة منْكم لهُنَّ، وقيل: نِحْلَة: معناه: شِرْعَة مأخوذٌ من النِّحَل، وقيل: التقديرُ: نِحْلَةً مِنَ اللَّه لَهُنَّ قال ابنُ العَرَبِيِّ: وذلك أنَّ النحلة في اللُّغة: العطيَّةُ عنْ غَيْرِ عِوَضٍ. انتهى. وقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ... الآية: الخطابُ حَسْبَما تقدَّم مِنَ الاختلاف، والمعنى: إنْ وَهَبْنَ غيْرَ مكرَهَاتٍ، طيِّبةً نفوسُهنَّ، والضميرُ في «مِنهُ» يعود علَى الصَّدَاقِ قاله عكرمةُ وغيره [[أخرجه الطبري (3/ 584) برقم (8514) بلفظ «المهر» . وذكره ابن عطية (2/ 9) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 212) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.]] ، «ومَنْ» : تتضمَّن الجنس هاهنا ولذلك يجوزُ أنْ تهب المَهْر كلَّه. وقوله تعالى: هَنِيئاً مَرِيئاً: قال اللغويُّون: الطعامُ الهَنِيءُ هو السَّائِغُ المستحسَنُ الحميدُ المَغَّبةِ: وكذلك المريءُ. وقوله سبحانه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ، قال أبو موسَى الأشعريُّ وغيره: نَزَلَتْ في كلِّ مَنِ اقتضى الصِّفَة الَّتي شرط اللَّهُ مِنَ السَّفَهِ، كان من كان [[وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 9) .]] ، وقولُه: أَمْوالَكُمُ، يريد: أموالَ المخاطَبِينَ قاله أبو مُوسَى الأشعريُّ، وابنُ عبَّاس، والحَسَنُ، وغيرهم [[أخرجه الطبري (3/ 588- 591) ، برقم (8557) ، (8562) عن ابن عباس، وبرقم (8546) عن أبي موسى الأشعري، وبرقم (8543) عن الحسن. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 9)]] ، وقال ابنُ جُبَيْر: يريدُ أموالَ السُّفَهاء، وأضافها إلى المخاطَبِينَ، إذ هى كأموالهم، وقِياماً جمع قِيمَة [[أخرجه الطبري (3/ 590) برقم (8559) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 9) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 214) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.]] . وقوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها ... الآية: قيل: معناه: فيمن تلزم الرّجل نفقته، وقيل: في المحجورين من أموالهم، ومَعْرُوفاً: قيل: معناه: ادعوا لهم، وقيل: معناه: عِدُوهُمْ وَعْداً حَسَناً، أي: إنْ رَشَدتُّمْ، دَفَعْنا لكُمْ أموالكم، ومعنى اللفظة: كُلُّ كلام تعرفه النفُوسُ، وتأنس إليه، ويقتضيه الشّرع.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب