الباحث القرآني

وقوله سبحانه: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ... الآية: قيل في مَدْيَنَ إِنه اسم بلد وقُطْرٍ، وقيل: اسم قبيلةٍ، وقيل: هم مِنْ ولد مَدْيَنَ بْنِ إِبراهيمَ الخليلِ، وهذا بعيدٌ، ورُوِي أَنَّ لوطاً هو جَدُّ شعيبٍ لأُمِّه. وقال مكِّيّ: كان زوج بنت لوط، وأَخاهُمْ: منصوبٌ ب «أرسلنا» في أول القصص، و «البيِّنة» : إشارة إِلى معجزته، وَلا تَبْخَسُوا معناه ولا تظلموا ومنْه قولهم: تَحْسَبُهَا حَمْقَاءَ، وَهِيَ بَاخِسٌ، أي: ظالمة خادعة، وقال في «سورة هود» : البَخْس: النَّقْصَ. ت: ويحتمل واللَّه أعلم أنَّ البَخْسَ هو ما اعتاده النَّاسُ من ذَمِّ السِّلَع ليتوصَّلوا بذلك إلى رُخَصها، فتأمَّله، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه. قال أبو حَيانَ: ولا تَبْخَسُوا: متعدٍّ إلى مفعولين، تقول: بَخَسْتُ زَيْداً حَقَّهُ، أي: نقصته إياه. انتهى. وأَشْياءَهُمْ: يريد أمتعتهم وأموالهم، وَلا تُفْسِدُوا: لفظٌ عامٌّ في دقيق الفساد وجليله وكذلك الإصلاح عامٌّ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، أيْ: عند اللَّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي: بشرط الإِيمان والتوحيد، وإِلا فلا ينفع عَمَلٌ دون إِيمانٍ، وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ ... الآية: قال السديُّ: هذا نهيٌ عن العَشَّارين والمتغلِّبين ونحوه مِنْ أخْذ أموال الناس بالباطِل [[أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14860) ، وذكره ابن عطية (2/ 426) بمثله، والبغوي (2/ 180) ، وابن كثير (2/ 231) ، والسيوطي (3/ 190) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.]] ، و «الصِّرَاطُ» : الطريقُ، وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل بَخْسهم ونَقْصهم الكيلَ والوزْنَ، وقال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: هو نهْيٌ عن السَّلْبِ وقطْع الطرقِ [[أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14861) ، وذكره ابن عطية (2/ 426) .]] ، وكان ذلك مِنْ فعلهم، وروي في ذلك حديث عن النبيّ ﷺ، وما تقدَّم من الآية يؤيِّد هذين القولَيْنِ، وقال ابنْ عَبَّاس وغيره: قوله: وَلا تَقْعُدُوا نهيٌّ لهم عمَّا كانوا يفعلونه مِنْ رَدِّ الناس عَنْ شُعَيْب [[أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14856) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 427) ، وابن كثير (2/ 231) والسيوطي (3/ 190) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.]] وذلك أنهم كانوا يَقْعُدونَ على الطُّرُقات المفضية إلى شُعَيبٍ، فيتوعَّدون مَنْ أَراد المجيءَ إِلْيه، ويصُدُّونه، وما بعد هذا مِنَ الألفاظ يشبه هذا مِنَ القول، والضميرُ في «به» يحتمل أن يعود على اسم اللَّه، وأنْ يعود على شُعَيْب في قول مَنْ رأى القعودَ على الطُّرُق للرَّدِّ عن شعيب، قال الداوديّ: وعن مجاهد تَبْغُونَها عِوَجاً: يلتمسون [[أخرجه الطبري (5/ 545) برقم: (14862) .]] لها الزيْغَ. انتهى. ثم عدَّد عليهم نِعَمَ اللَّه تعالَى، وأنه كَثَّرهم بعد قلَّةِ عددٍ. وقيل: أغناهم بعد فَقْر، ثم حذرهم ومثَّل لهم بمن امتحن من الأممِ، وقوله: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا ... الاية: قوله: فَاصْبِرُوا تهديدٌ للطائفة الكافرة، وقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا معناه: أو لتَصِيرُنّ، و «عَادَ» في كلام العرب على/ وجهين: أحدُهُمَا: عَادَ الشَّيْءُ إِلى حالٍ قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذا الوجه لا تتعدى، فإِن عُدِّيَتْ، فبحرف ومنه قول الشاعر: [الطويل] أَلاَ لَيْتَ أَيَّامَ الشَّبَابَ جَدِيدُ ... وعمرا تولّى يا بثين يعود [[روي البيت هكذا: ألا ليت أيّام الصّفاء جديد ... وعهدا تولّى يا بثين يعود وهو لجميل بثينة في «ديوانه» ص: (61) ، و «الأغاني» (2/ 350) ، و «أمالى القالي» (1/ 272، 2/-]] ومنْه قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] . والوجه الثاني: أنْ تكون بمعنى «صَارَ» ، وعاملةً عملَهَا، ولا تتضمَّن أن الحال قد كانَتْ متقدِّمة ومنه قول الشاعر: [البسيط] تِلْكَ المَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيباً بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالاَ [[روي البيت هكذا: هذي المفاخر لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيباً بِمَاءٍ فَعَادَا بعد أبوالا هو لأبي الصلت الثقفي والد أميّة في «الشعر والشعراء» ص: (469) ، و «العقد الفريد» (2/ 23) ولأميّة بن أبي الصلت في «ديوانه» ص: (52) ، وللنابغة الجعدي في «ديوانه» ص: (112) ، وللثقفي في «شرح المفصّل» (8/ 104) .]] ومنه قول الآخر: وَعَادَ رَأْسِي كالثَّغامَةِ ... [[وهو من شواهد «المحرر الوجيز» (2/ 429) . ويروى في «اللسان» : [ثغم] برواية: وصار رأس الشيخ كثغامة وعليه يكون من بحر الرجز، وفي «القاموس» : والرأس صار كالثغامة بياضا.]] ومنه قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] ، عَلى أن هذه محتملةٌ بقوله في الآية: أَوْ لَتَعُودُنَّ، وشعيبٌ عليه السلام لَمْ يَكُ قطُّ كافراً، فيقتضي أنها بمعنى «صار» ، وأما في جهة المؤمنين به بَعْدَ كُفْرهم، فيترتَّب المعنى الآخر، ويخُرُج عنه شعيبٌ، وقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ توقيفٌ منه لهم على شِنْعَة المعصيةِ، وطَلَبٌ أن يقروا بألسنتهم بإِكراهِ المُؤْمنين على الإِخراج ظُلْماً وغشماً. قال ص: قَدِ افْتَرَيْنا: هو بمعنى المستقبل لأنه سَدَّ مسد جواب الشرط، وهو: إِنْ عُدْنا أو هو جوابه، على قول. انتهى. وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا يحتملُ أن يريد إلاَّ أنْ يسبق علينا في ذلك مِنَ اللَّه سابقُ سُوء، وينفذ منه قضاءٌ لا يُرَدُّ. قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 428) .]] : والمُؤمنون هم المجوزون لذلك، وأما شُعَيْبٌ، فقد عصمته النبوَّة، وهذا أظهر ممَّا يحتملُ القول، ويحتمل أنْ يريد استثناء ما يمكن أن يتعبَّد اللَّهُ به المؤمنين ممَّا يفعله الكُفَّارُ من القربات. وقيل: إِنَّ هذا الاستثناء إِنما هو تَسَنُّنٌ وَتَأَدُّبٌ، وقوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً: معناه: وَسِعَ عِلْمُ رَبنا كلَّ شيء كما تقول: تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً أَيْ: تصبَّب عَرَقُ زيدٍ، وَوَسِعَ بمعنى «أحاط» ، وقوله: افْتَحْ معناه: احكم، وقوله: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا: استسلام للَّه سبحانه، وتمسُّكٌ بلطفه وذلك يؤيِّد التأويل الأول في قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا. وقوله سبحانه: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً ... الآية: أي: قال الملأ لتباعهم ومقلّديهم، والرَّجْفَةُ: الزلزلةُ الشديدةُ التي يَنَالُ الإِنسانَ معها اهتزاز وارتعاد واضطراب، فيحتملُ أنَّ فرقةً من قومٍ شُعَيْب هلكَتْ بالرجفة، وفرقةً بالظُّلَّة، ويحتمل أن الظُّلَّة والرَّجْفَة كانتا في حِينٍ واحدٍ. ت: والرجفةُ هي الصَّيْحة يَرْجُفُ بسببها الفؤاد وكذلك هو مصرَّح بها في قصَّة قوم شُعَيْب في قوله سبحانه: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ... الآية [هود: 94] ، وقوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الضميرْ في قوله «فيها» عائدٌ على دارِهِمْ، وَيَغْنُوا: معناه: يقيمونَ بنَعْمَة وخَفْضِ عيش، وهذا اللفظ فيه قوَّةُ الإِخبار عن هلاكهم، ونزولِ النقمةِ بهم، والتنبيه عَلَى العبرة والاتعاظ بهم، ونحوُ هذا قولُ الشاعر: [الطويل] كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ [[وهو لعمرو بن الحارث بن مضاض أو للحارث الجرهمي في «لسان العرب» (13/ 109) (جحن) وبلا نسبة في «شرح قطر الندى» ص: (159) . واستشهد بقوله: «كأن لم يكن» حيث خفّف «كأن» فحذف اسمها، وأتى بخبرها جملة فعليّة. وذكر ياقوت في «معجم البلدان» (2/ 260) (الحجون) ، ونسبه إلى مضّاض بن عمرو الجرهمي يتشوّق مكة لما أجلتهم عنها خزاعة: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أنيس، ولم يسمر بمكة سامر بلى! نحن كنا أهلها، فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر فأخرجنا منها المليك بقدرة، ... كذلك، يا للناس، تجري المقادر فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة، ... كذلك عضّتنا السنون الغوابر وبدّلنا كعب بها دار غربة، ... بها الذئب يعوي والعدوّ المكاشر فسحّت دموع العين تجري لبلدة، ... بها حرم أمن وفيها المشاعر ينظر: «المعجم» (1/ 375) .]] قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 430) .]] : فَغَنيتُ في المكان، إنما يقالُ في الإِقامة التي هي مقترنة بتنعّم وعيش مرضيّ، وقوله: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ: كلامٌ يقتضي حزناً وإِشفاقاً لَمَّا رأى هلاكَ قومه إِذْ كان أمله فيهم غَيْرَ ذلك، ولمَّا وجد في نفسه ذلك، طَلَب أنْ يثير في نفسه سَبَبَ التسلِّي عنهم، فجعل يعدِّد معاصيهم وإِعراضهم، ثم قال لنفسه لمّا نظر وفكّر: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ، ونحو هذا قوله ﷺ لأَهْل قليب بَدْرٍ، وأسى معناه: أحزن. / قال مَكِّيٌّ: وسار شعيبٌ بمن معه حتَّى سكن مكّة إلى أن ماتوا بها [[ذكره ابن عطية (2/ 431) .]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب