الباحث القرآني

* اللغة: (فَقَدَرْنا) بالتخفيف من القدرة وقرئ بالتشديد من التقدير ويدل على الأول فنعم القادرون وفي القرطبي: «قرأ نافع والكسائي فقدرنا بالتشديد وخفّف الباقون وهما لغتان بمعنى فقدرنا بالتخفيف» وفي المصباح «قدرت الشيء قدرا من بابي ضرب وقتل وقدّرته تقديرا بمعنى والاسم القدر بفتحتين» وقوله فاقدروا له أي قدروا عدد الشهر فكملوا شعبان ثلاثين يوما. (كِفاتاً) قال الجلال «مصدر كفت بمعنى ضم» قال في القاموس: «كفته يكفته صرفه عن وجهه فانكفت والشيء إليه ضمّه وقبضه ككفّته والطائر وغيره كفتا وكفاتا وكفيتا وكفتانا أسرع في الطيران والعدو» فهل كانت كفاتا مصدر كفت بمعنى ضم المتعدية أم مصدر كفت الطائر اللازمة؟! إن كلام صاحب القاموس موهم، وقال في القاموس بعد ذلك: «والكفات بالكسر الموضع يكفت فيه الشيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا» وعلى هذا جرى الزمخشري وأبو حيان، وقد ردّ المفسرون على الجلال لأن كفت من باب ضرب فالحق أنه اسم مكان وفي المختار: «كفته ضمّه إليه وبابه ضرب والكفات بالكسر الموضع الذي يكفت فيه شيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا» وعبارة السمين «الكفات اسم للوعاء الذي يكفت فيه الشيء أي يجمع يقال كفته يكفته أي جمعه وضمه» إلى أن قال: «وقيل كفاتا جمع كافت كصيام وقيام في جمع صائم وقائم وقيل بل هو مصدر كالكتاب والحساب» وسيأتي مزيد من هذا التقرير في باب الإعراب. (كَالْقَصْرِ) من البناء في عظمه وارتفاعه. (جِمالَتٌ) بكسر الجيم جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع يقال جمل وجمال وجمالة نحو ذكر وذكار وذكارة وحجر وحجار وحجارة وقيل هو اسم جمع كالذكارة والحجارة وقرئ جمالات ويجوز أن يكون جمعا لجمالة وأن يكون جمعا لجمال فيكون جمع الجمع ويجوز أن يكون جمعا لجمل كقوله: رجالات قريش، وسيأتي مزيد من هذا التقرير في باب البلاغة. * الإعراب: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونخلقكم فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به ومن ماء متعلقان بنخلقكم ومهين نعت لماء ومن الابتدائية إشارة إلى أنه تعالى قادر على الابتداء والقادر على الابتداء قادر على الإعادة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) الفاء عاطفة وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وفي قرار في موضع المفعول الثاني ومكين نعت لقرار أي مكان يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له كالهواء، والقرار هو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى قدر الجار والمجرور في موضع الحال أي مؤخرا إلى قدر معلوم، ومعلوم نعت لقدر (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) الفاء عاطفة وقدرنا فعل وفاعل والفاء عاطفة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والقادرون فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي نحن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به أول وكفاتا مفعول به ثان لنجعل لأنها للتصيير وأحياء وأمواتا منصوبان على أنهما مفعولان به لكفاتا إن تقرر أن كفاتا مصدر، أو جمع كافت لأنه اسم فاعل، وإن لم يكن مصدرا بل اسم موضع فيكون نصبهما بفعل مضمر يدل عليه كفاتا تقديره تكفت والمعنى تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها وعبارة أبي حيان: «وانتصب أحياء وأمواتا بفعل يدل عليه ما قبله أي يكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها» وقال الزمخشري «ويجوز أن يكون المعنى تكفتكم أحياء وأمواتا فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس» (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) الواو حرف عطف وجعلنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بجعلنا إن كانت بمعنى خلقنا وفي موضع المفعول الثاني إن كانت جعلنا بمعنى صيّرنا ورواسي مفعول جعلنا وشامخات صفة لرواسي وأسقيناكم عطف على جعلنا وماء مفعول به ثان وفراتا نعت لماء، والفرات العذب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) الجملة مقول قول محذوف مستأنف وانطلقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى ما متعلقان بانطلقوا وجملة كنتم لا محل لها لأنها صلة ما وكان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم والعائد الضمير في به (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) انطلقوا توكيد لانطلقوا الأول وإلى ظل متعلقان بانطلقوا وذي ثلاث شعب نعت لظل، وسيأتي مزيد من هذا المعنى في باب البلاغة (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) لا نافية وظليل نعت منفي لأن الظل لا يكون إلا ظليلا فنفيه عنه للدلالة على أنه جعله ظلا تهكما بهم وسخرية منهم، ولا يغني من اللهب عطف على المنفي، ويغني فعل مضارع وفاعله هو الظل ومن اللهب متعلقان بيغني والجملة في محل جر أي غير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الجملة بمثابة التعليل لعدم غناء الظل غير الظليل وإن واسمها والضمير يعود إلى جهنم لأن الحديث عنها وجملة ترمي خبر إن وبشرر متعلقان بترمي والشرر ما تطاير منها تقول: نار ذات شرار وشرر وطارت منها شرارة وشررة، وكالقصر نعت لشرر أي كل شررة كالقصر من القصور في عظمها، وسيأتي المزيد من هذا التشبيه في باب البلاغة (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) الجملة نعت ثان لشرر وكأن واسمها وجمالة خبرها وصفر نعت لجمالة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها. * البلاغة: 1- في قوله «أحياء وأمواتا» التنكير، فقد نكرهما مع أنها تكفت الأحياء والأموات جميعا للتفخيم كأنه قيل أحياء لا يعدّون وأمواتا لا يحصون على أن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات. 2- ونكر رواسي شامخات وماء فراتا لإفادة التبعيض لأن في السماء جبالا قال الله تعالى: «وينزل من السماء من جبال فيها من برد» وفيها ماء فرات كثير بل هي منبعه ومصبّه. 3- وفي قوله: «انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب» فن طريف من فنون البلاغة أطلق عليه الأقدمون اسم «العنوان» وقد تقدمت الإشارة إليه في هذا الكتاب وأنه عبارة عن أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو عتاب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون ثم يأتي بقصد تكميله بأمثلة من ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص سالفة، ومن نوع عظيم جدا وهو ما يكون عنوانا للعلوم وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون بمثابة مفاتيح لعلوم ومداخل لها، وهذه الآية التي نحن بصددها من أصدق الدلائل على ذلك فإن قوله: «ظل ذي ثلاث شعب» عنوان للعلم المنسوب إلى إقليدس وهو فيلسوف يوناني وضع كتابا في علم الهيئة والهندسة والحساب ونقله إلى العربية الحجاج بن يوسف الكوفي وعلم الهندسة في الإسكندرية على أيام بطليموس ووضع مبادئ علم الهندسة السطحية وله كتاب الأصول أيضا شرحه ناصر الدين الطوسي وتوفي سنة 283 فإن الشكل المثلث أول الأشكال وهو أصلها ومنه تتركب بقية الأشكال وهو شكل إذا نصب في الشمس كيفما نصب على أي ضلع كان من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله سبحانه هؤلاء الجهنميين بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكما بهم وسخرية منهم. 4- التشبيه، فقد شبّه سبحانه الشرر بالقصر في عظمه وكبره وشبّهه ثانيا بالجمالة الصفر في الهيئة واللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة، وننقل هنا فصلا طريفا للزمخشري ثم نعقب عليه بإيجاز، قال في الكشاف: «شبّهت بالقصور ثم بالجمال لبيان التشبيه، ألا تراهم يشبّهون الإبل بالأفدان والمجادل» أي القصور جمع فدن ومجدل وكلاهما بمعنى القصر كما في الصحاح ثم قال: «وقرئ جمالات بالضم وهي قلوس الجسور وقيل قلوس سفن البحر الواحدة جمالة» والقلوس جمع قلس وهو حبل ضخم من قلوس السفن ثم قال: «وقيل: صفر لإرادة الجنس وقيل صفر سود تضرب إلى الصفرة وفي شعر عمران بن حطّان الخارجي: دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة للشوى وقال أبو العلاء: حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف فشبّهها بالطراف وهو بيت الأدم، في العظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله «حمراء» توطئة لها ومناداة عليها، وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمي، جمع الله له عمى الدارين، عن قوله عزّ وجلّ: «كأنه جمالات صفر» فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر، على أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطول في الهواء، وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس تشبيه من ثلاث جهات من جهة العظم، والطول، والصفرة، فأبعد الله إغرابه في طرافه، وما نفخ به شدقيه من استطرافه» . وذكر صاحب نسمة السحر عن الزمخشري عند قوله تعالى: «إنها ترمي بشرر كالقصر» أنه ذكر بيت أبي العلاء في صفة نار القرى من القصيدة الفائية التي رثى بها النقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي والمرتضى وهو: حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكلّ شرارة كطراف وحمي عليه وقال: إنه أراد وقصد الزيادة على تشبيه القرآن العظيم بالقصر، قال: ولا أدري من أين له أنه قصد الزيادة على تشبيه القرآن فمن المعلوم أن القصر أعظم من الطراف، وهي خيمة من الأدم الأحمر يتخذها الأتراك البادون ومياسير العرب ولكن الزمخشري مع فضله كان حديد المزاج كثيرا» . أقول: والزمخشري- رحمه الله- يتحكك بأبي العلاء في مواطن كثيرة وهو- كما نرى في نقده لبيت المعرّي الجميل- ظاهر التجانف والميل وقد تعودنا من الزمخشري أن يعرض لخصوم المعتزلة، وليس أبو العلاء منهم، ولكن الزمخشري كان رجلا أديبا قرأ رسائل المعرّي ووطن لموقفه من النحاة فحمله كرهه على التحرّش به. وهذه الخصومة النحوية قد جنت على أبي العلاء فإن النحاة أهملوا شعره وندر جدا أن تعرضوا له بشرح أو استشهاد أو نقد وقد عنوا بشعر أبي تمام والمتنبي لما فيهما من تصرّف في اللغة وفي الأساليب النحوية وقد كان في شعر أبي العلاء وما يغريهم بدرسه ولكنهم أعرضوا عنه، وقد مرّ في هذا الكتاب نقد أبي العلاء للنحاة فجدّد به عهدا. فأما تشبيه الإبل بالأفدان وهي القصور فكثير جدا في شعرهم قال عنترة: فوقفت فيها ناقتي فكأنها ... فدن لأقضي حاجة المتلوم والمعرّي استهواه وصف الإبل فحاول اقتفاء آثارهم ولكنه أغرب في ذلك إغرابا شديدا كقوله من قصيدة له في سقط الزند يخاطب بها خازن دار العلم ببغداد: وحرف كدال تحت ميم ولم يكن ... براء يؤم الرسم غيره النقط فالحرف الناقة والدال تشبيه لها والميم الراكب المنحني من جهة التشبيه لا من جهة التفسير اللغوي والرائي ضارب الرئة من رآه إذا أصاب رئته والرسم أثر الديار والنقط المطر وإنما استطردنا إلى هذا لنعرض لإغراب المعري الذي لم يعد الزمخشري الحقيقة في نقده.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب