الباحث القرآني

ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة﴾ قال القفال: تقرير الكلام أن يقال: إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء، وإشراكهم بالله، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ، كان أولى. وهذا قولُ كثير من المفسِّرين. قال ابنُ الخطيب: وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال؛ لأنَّ القفال يجعل العمل بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق؛ فبطل ما ذكره القفالُ، والأصوبُ عندي أن يقال: العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات، لا فاعلٌ مختارٌ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء؛ كالغرق، والخسق، والمسخ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض، وإذا كان الأمرُ كذلك، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء. فأما المؤمن بالقيامة؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار، وأنه عالمٌ بجمعي الجزيئات، وإذا كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب واتصالاتها، وحينئذ يسمع هذه القصص، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء؛ فثبت بذلك صحة قوله: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة﴾ . قوله تعالى: ﴿ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ﴾ «ذلك» : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله: ﴿عَذَابَ الآخرة﴾ و «مَجْموعٌ» صفةٌ ل «اليوم» جرت على غير من هي له، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو «الناس» وهذا هو الإعراب نحو: «مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ» . وأعرب ابن عطيَّة «النَّاس» مبتدأ مؤخراً، و «مَجْمُوعٌ» خبره مقدماً عليه. وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل: مجموعون، كما يقالُ: النَّاسُ قائمون ومضربون، ولا لليوم، أي: النَّاس مجموع له، و «مَشْهُودٌ» متعيِّنق لأن يكون صفة فكذلك ما قبله. وقوله: ﴿مَّشْهُودٌ﴾ من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً، وإنَّما هو مشهودٌ فيه؛ وهو كقوله: [الطويل] 3016 - ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ والأصلُ: مشهودٌ فيه، وشهدْنَا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصلُ إلى المفعول به. قال الزمخشريُّ: «فإن قتل: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟ قلت: لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة» قال ابنُ عبَّاسٍ: يشهده البر والفاجرُ. وقيل: يشهده أهلُ السموات وأهلُ الأرضِ. قوله: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ﴾ الضَّميرُ يعود على «يَوْم» . وقال الحوفيُّ: «على الجزاءِ» وقرأ الأعمش: «ومَا يُؤخِّره» - بالياء - أي: الله تعالى «إلاَّ لأجَلٍ معدُودٍ» وكل ما له عدد، فهو متناهٍ، وكل ما كان متناهياً، فلا بُدَّ أن ينفي، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم اله القيامة فيه، وكُلُّ ما هو آتِ قريب. قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ «يَأتِي» بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً. وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة: قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً. وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها: ففي مصحف أبيّ إثباتُها، وفي مصحق عثمان حذفها، وإثباتها هو الوجه؛ لأنَّها لامُ الكلمة، وإنَّما حذفُوها في القوافي، والفواصل، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا: لا أدْرِ، ولا أبَالِ. وقال الزمخشريُّ «والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ» . وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك: [الرجز] 3017 - كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا ... جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما والنّاصبُ لهذا الظرف فيه أوجه: أحدها: أنه «لا تكلَّمُ» والتقديرُ: لا تكلَّمُ نفسٌ يوم يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره. الثاني: أن ينتصب ب «اذْكُر» مقدراً. والثالث: أن نتصب بالانتهاءِ المحذوف في وله: ﴿إِلاَّ لأَجَلٍ﴾ أي: ينتهي الأجل يوم يأتي. والرابع: أنَّهُ منصوبٌ ب «لا تكلَّمُ» مقدَّراً، ولا حاجة إليه. والجملةُ من قوله: «لا تكلَّمُ» في محلِّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في «مَشْهُود» أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير: لا تكلَُّ نفسٌ فيه إلاَّ بإذنه، قاله الحوفيُّ. وقال ابن عطيَّة: «لا تكلَّمُ نفسٌ» يصحُّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضَّمير الذي في «يَأتِ» وهو العائدُ على قوله: ﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ﴾ ، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره: لا تكلمُ نفسٌ فيه، ويصحُّ أن يكون قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ صفةً لقوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ . وفاعل «يَأتِ» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ ضميرُ «يَوْم» المتقدِّم. والثاني: أنَّه ضمير الله تعالى كقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله﴾ [البقرة: 210] وقوله: «أوْ يَأتِي ربُّكَ» . والضميرُ في قوله: «فَمِنْهُمْ الظاهرُ عودهُ على» النَّاس «في قوله: ﴿مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾ وجعله الزمخشريُّ عائداً على أهل الموقف وإن لمْ يذكرُوا، قال: لأن ذلك معلومٌ، ولأنَّ قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ يدلُّ عليه» وكذا قال ابنُ عطية. وقوله: ﴿وَسَعِيدٌ﴾ خبره محذوف: أي: ومنهم سعيدٌ، كقوله: ﴿ذَمِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ [هود: 100] . فصل هذه الآية توهم المناقضة لقوله ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل: 111] ولقوله ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: 35 - 36] وقوله: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23] . والجواب: قال بعضهم: إنَّهُ حيثُ ورد المنعُ من الكلامِ، فهو محمولٌ على الجوابات الصَّحيحة؛ قال تعالى: ﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً﴾ [النبأ: 38] وقيل: إنَّ ذلك اليوم يوم طويل، وله مواقف، ففي بضعها يجادلُون عن أنفسهم، وفي بعضها يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم. وقيل: ورد المنع عن الكلام مطلقاً، وورد مقيداً بالإذن فيحمل المطلق على المقيِّد. قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ قال الزمخشريُّ: الضميرُ في قوله: «مِنْهُمْ» لأهل الموقف ولمْ يذكرُوا؛ لأنَه مفهومٌ، ولأنَّ قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ يدلُّ عليه؛ ولأنه مذكورٌ في قوله: ﴿مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾ . واستدلَّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنَّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النَّارِ. وجوابه: أنَّ الأطفال والمجانين أيضاً خارجون عن هذا التَّقسيم؛ لأنَّهُم لا يحاسبُون، فلم لا يجوزُ أيضاً أن يقال: إنَّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضاً؛ لأنهم لا يحاسبون لأنَّ الله - تعالى - علم من حالهم أنَّ ثوابهم يساوي عذابهم، فلا فائدة في حسابهم. واستدلَّ القاضي أيضاً بهذه الآية على أنَّ كلَّ من حضر عرضه القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو عذابه، فأمَّا من كان ثوابه مساوياً لعقابه، فإنَّه وإن كان جائزاً في العقل، إلا أن هذا النص يدلُّ على انَّهُ غيرُ موجودٍ. وأجيب بأنَّ تخصيص هذين القسمين بالذِّكر لا يدلُّ على نفي القسم الثالث؛ لأنَّ أكثر الآيات مشتملةٌ على ذكر المؤمن والكافر، وليس فيه ذك ثالث لا يكون مؤمناً ولا كافراً مع أنَّ القاضي أثبته، فإذا لم يلزمْ من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزمُ من عدم ذكر هذا الثالث عدمه. فصل «روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: خرجناعلى جنازة، فبينما نحنُ بالبقيع إذْ خرج رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبيده مخصرةٌ، فجاء، فجلس، ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال:» ما مِنْ نفس منفُوسةٍ إلاَّ قد كُتِبَ مكانُها من الجنّة، أو النَّار، وإلاَّ قد كُتبتْ شقيَّةً، أو سعيدةً» قال: فقال رجلٌ: أفلا نتكلُ على كتابنا يا رسول الله وندعُ العمل؟ قال: «لا، ولكن اعملوا فكُلٌّ ميسرٌ لما خلق لهُ، وأمَّا أهلُ الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء، وأمَّا أهلُ السَّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة» ثم تلا: ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى﴾ [الليل: 5 - 10] . قوله: ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ﴾ الجمهورُ على فتح الشين؛ لأنَّهُ من «شَقى» فعلٌ قاصر وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدِّياً، فيقال: شقاهُ الله، كما يقالُ: أشقاء الله وقوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ في هذه الجملة احتمالان: أحدهما: أنَّها مستأنفةٌ، كأنَّ سائلاً سأل حين أخبر أنَّهُم في النَّار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا. والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنَّهُ الضميرُ في الجرِّ والمجرور وهي «فَفِي النَّار» . الثاني: أنها حالٌ من «النَّار» و «الزَّفير» بمنزلة ابتداء صوت الحمار، والشّهيق «آخره قال رؤبة: [الرجز] 3018 - حَشْرَجَ في الصَّدْرِ صَهِيلاً أوْ شَهَقْ ... حتَّى يُقالَ نَاهِقٌ وما نَهَقْ وقال ابن فارس: الزَّفيرُ ضد الشَّهيق؛ لأنَّ الشَّهيق ردُّ النَّفَس والزَّفير: إخراجُ النَّفس من شدَّة الحزنِ مأخوذة من الزَّفْرِ وهو الحِمْل على الظَّهْرِ، لشدَّته. وقال الزمخشري نحوه؛ وأنشد للشَّمَّاخِ: [الطويل] 3019 - بَعِيدٌ مَدَى التَّطْريبِ أوَّلْ صوْتِهِ ... زفيرٌ ويتلوهُ شهيقٌ مُحَشْرِجُ وقيل الشَّهيقُ: النَّفس الممتدُّ، مأخوذٌ من قولهم: «جبلٌ شاهقٌ أي: عالٍ» . وقال اللَّيْثُ: الزَّفير: أن يملأ الرَّجُلُ صدرهُ حال كونه في الغمِّ الشَّديد من النَّفس ويخرجهُ، والشَّهيق أن يخرج ذلك النَّفس، وهو قريبٌ من قولهم: تنفَّس الصعداء. قال ابن الخطيب: إنَّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلبن فتقوى الحرارةُ وتعظم، وعند ذلك يحتاجُ الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء بارداً حتى يقوى على تريوح تلك الحرارة، فلهذا السَّببب يعظم في ذلك الوقتِ استدخال الهواء في داخل الصَّدْرِ، وحينئذٍ يرتفع صدره، ولمَّا كانت الحرارةُ الغريزيةُ، ولاروح الجوانيُّ محصُوراً في داخل القلبِ؛ أستولت البرودةُ على الأعضاءِ الخارجة؛ فرُبَّما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهوى فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر. فعلى قول الأطباء: الزَّفير: هو استدخالُ الهواءِ الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيهن والشَّهيق: هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطَّبيعة في إخراجه، وكلُّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد. وقال أبُو العالية والربيع بن أنس: الزَّفير في الحلق، والشَّهيق في الصدر وقيل: الزَّفيرُ للحمار والشهيق للبغل. وقال ابن عباس: الزَّفيرُ الصوت الشديد، والشَّهيق الصوت الضعيف وقال الضحاك ومقاتلٌ: الزَّفير أول صوت الحمار والشهيق آخره، إذا ردَّهُ في صدره وقال الحسنُ: الزَّفيرُ لهيبُ جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلُوا إلى أعلى جهنم، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضبربتهُم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسقل من جهنَّم، وهو قوله تعالى: ﴿كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾ [السجدة: 20] فارتفاعهم في النَّار وهو الزَّفير، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق. وقال أبو مسلم: الزَّفيرُ ما يجتمع في الصَّدْرِ من النَّفس عند البكاء الشَّديد فيقطع النفس، والشهيقُ هو الصَّوت الذي يظهرُ عند اشتداد الكرب، وربما تبعه الغشية، وربما حصل عقيبه الموت. وروي عن ابن عبَّاس في قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ أي: ندامةً ونفساً عالياً وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع. قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ منصوبٌ على الحال المقدرة. قال شهاب الدِّينِ: «ولا حاجَة إلى قولهم» مقدّرة «، وإنَّما احتاجُوا إلى التقدير في مثل قوله: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73] ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول، بخلافه هنا» . قوله: ﴿مَا دَامَتِ﴾ «ما» مصدرية ظرفية، أي: مدَّة دوامهما. و «دَامَ» هنا تامةٌ، لأنَّها بمعنى: بَقِيت. فصل اختلفوا في تأويل هذا، قالت طائفة منهم الضحَّاك: المعنى ما دامت سمواتْ الجنَة والنَّار وأرضهما، والسماء كل ما علاك وأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك، قال تعالى: «وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حين نشاء» وقيل: أراد السِّماء والأرض المعهودتين في الدنيا؛ وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده، كقولهم: «لا آتيك ما جنَّ ليلٌ، أو سَالَ سيلٌ، وما اختلفَ اللَّيلُ والنهار» . وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنَّ جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نُور العرش، وأنَّ السموات والأرض في الآخرة تردَّان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتنان أبداً في نور العرش. فصل قال ابن الخطيب: قال قوم: إنَّ عذاب الكفَّار منقطعٌ، وله نهاية، واحتجُّوا بالقرآن والمعقول، أما القرآنُ فبآيات منها هذه الآيةن والاستدلال بها من وجهين: أحدهما: قوله: ﴿مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾ يدل على أنَّ مدة عقابهم مساوية لمدَّة بقاءِ السموات والأرض، ثم توافقنا على أنَّ مدة بقاءِ السموات والأرض متناهية؛ فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة. والثاني: قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ استثناءٌ من مدَّةِ عقابهم، وذلك يدلُّ على أنَّ زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء، ومنها قوله تعالى: ﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً﴾ [النبأ23] بيَّن تعالى أنَّ لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلاَّ أحقاباً، والأحقابُ معدودة. وأمَّا العقلُ فمن وجهين: الأول: أنَّ معصية الكافر متناهيةٌ، ومقابلة الجرم المتناهي بعذابٍ لا نهاية له ظلم وإنَّهُ لا يجوزُ. الثاني: أنَّ ذلك العقاب ضرر خال عن النَّفع فيكون قبيحاً. بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يجوزُ أن يرجع إلى الله تعالى تعاليه عن النَّفع والضَّرر، ولا إلى ذلك العقاب؛ لأنَّهُ في حقِّه ضربٌ محض، ولا إلى غيره؛ لأن أهل الجنَّة مشغولون بلذاتهم، فلا فائدة لهم في الالتذاذِ بالعقابِ الدَّائم في حقِّ غيرهم؛ فثبت أنَّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع النَّفْعِ؛ فوجب أن لا يجوز وهذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وذهب إلي الحسنُ البصريُّ وحمَّادُ بنُ سلمة وبه قال عليُّ بن طلحة وجماعة من المفسِّرين، رواه عنهم ابنُ تيمية. وأما الجمهورُ الأعظمُ من الأمَّةِ، فقد اتفقوا على أنَّ عذاب الكافر دائمُ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسُّكِ بهذه الآيةِ، فذكروا جوابين: أحدهما: قالوا المرادُ سماوات الآخرة وأرضها، قالوا: والدليلُ على أنَّ في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات﴾ [إبراهيم: 48] وقوله: ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾ [الزمر: 74] وأيضاً: لا بدَّ لأهْل الآخرة ممَّا يقلهم ويُظلهم؛ وذلك هو الأرض والسَّموات. ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يصحُّ ويجوزُ إذا كان حال المشبه به مقرراً معلوماً، فيشبه غيره به تأكيداً لثبوت الحكم المشبه، ووجود السَّموات والأرض في الآخرة غير معلوم، وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلاَّ أنذَ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتَّة غير معلوم، فإذا كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدَّوام بهما كلاماً عديم الفائدة: أقصى ما في الباب أن يقال: لمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة، وثبت دوامهما؛ وجب الاعترافُ به، وحينئذٍ يحسُنُ التَّشبيه، إلاّ أنَّا نقُولُ: لمَّا كان الطَّريقُ في إثبات دوام سموات أهل الآخرة، ودوام أرضهم هو السَّمعُ، ثُمَّ السمعُ دالَّ على دوام عقاب الكافر، فحينئذ الدَّليلُ الذي دلَّ على ثبوت الحم في الأصل حال بعينه في الفرع، وفي هذه الصورة أجمعُوا على أنَّ القياس ضائعٌ والتَّشبيه باطلٌ، فكذا ههنا. الوجه الثاني - في الجواب - قالوا: إنَّ العرب يُعبِّرون عن الدَّوام والأبد بقولهم: لا آتيك ما دامت السموات والأرض، وقولهم: ما اختلف الليل والنهار، وما طَمَا البَحرُ، وما أقام الجبل وأنَّهُ تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم، فلمَّا ذكروا هذه الأشياء بناءً على اعتقادهم أنَّها باقية أبداً، علمنا أنَّ هذه الألفاظ في عرفهم تُفيدُ الأبد والدَّوام. ولقائل أن يقول: هل تسلمون أنَّ قول القائل: ﴿خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء الله﴾ يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات؟ أو تقولون: إنَّه لا يدلُّ على هذا المعنى، فإن كان الأوَّل؛ فالإشكال لازم؛ لأنَّ النصَّ لمَّا دل على أنَّهُ يجبُ أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاءِ السموات والأرض، ويمنع، من حصولِ بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السموات، وثبت أنَّهُ لا بدُّ من فناء السموات، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقابِ، وإن قلتم إنَّ هذا لا يمنع من بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السَّمواتِ والأرض، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتَّة، فثبت أنَّ هذا الجواب على كلا التقريرين ضائعٌ. قال: والحقُّ عندي أنَّ المفهوم من الآية أنَّه متى كانت السَّموات والأرض دائمتينن كان كونهم في النَّار باقياً، وهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرطُ حصل المشروط، ولا يقتضي أنَّهُ إذا عدم الشرط أن يعدم المشرو «، ألا ترى أنَّا نقول: إن كان هذا إنسان فهو حيوان، فإذا قلنا: لكنَّهُ إنسان، فإنه ينتج أنَّهُ حيوان، أمَّا إذا قلنا لكنَّه ليس بإنسان لم ينتج أنَّه ليس بحيوان؛ لأن يثبتُ في علم المنطق أنَّ استثناء نقيض المقدمة لا ينتج شيئياً، فكذا ههنا إذا قلنا: متى دامت السموات والأرض دام عقابهم، فإذا قلنا: لكن السموات والأرض دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً، أمَّا إذا قلنا: لكنه ما بقيت السَّموات والأرض لم يلزم عدم دوام عقابهم. فإن قالوا: إذا كان العقابُ حاصلاً سواء بقيت السَّموات، أو لم تبقَ، لم يبقَ لهذا التَّشبيه فائدة. قلنا: بل فيه أعظم الفوائد، وهو أنه يدلُّ على بقاءِ ذلك العذاب زماناً دائماً طويلاً، لا يحيط العقلُ بطوله وامتداده، فأمَّا أنه هل يحصلُ له آخر أم لا؟ فذلك يُستفادُ من دليلٍ آخر. وأمَّا الشبهة وهي تمسّكهم بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ فذكروا عنه أجوبة: أحدهما: قال ابن قتيبة وابنُ الأنباري والفرَّاء هذا استثناء استثناه الله تعالى، ولا يفعله ألبتَّة، كقولك: والله لأضربنك إلاِّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتك أن تضربه. ولقائل أن يقول: هذا ضعيفٌ؛ لأنه إذا قال: لأضربنك إلاَّ أن أرى غير ذلك، معناه: لأضربنك إلاَّ إذا رأيت أن الأولى تركُ الضربِ، وهذا لايدلُّ ألبتَّة على أنَّ الرُّؤية قد حصلت أم لا؟ بخلاف قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلاَّ المدة التي شاء ربك، فهاهنا اللفظُ يدلُّ على أنَّ هذه المشيئة قد حصلت جزماً، فكيف يحصلُ قياس هذا الكلام على ذلك الكلام. وثانيها: قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما معنى الاستثناءِ في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ وقد ثبت خلود أهل الجنَّة والنَّار في الأبد من غير استثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلودِ في عذاب أهل النَّار، ومن الخود في نعيم أهل الجنَّة، وذلك أنَّ أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده، بل يُعذَّبُون بالزَّمهرير، وبأنواعٍ آخر من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سخط الله عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكثر منه كقوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72] والدَّليل عليه قوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: 108] وفي مقابله قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: 107] أي: يفعلُ بهم ما يردُ من العذاب، كما يعطي أهل الجنَّة ما لا انقطاع له. قال أبو حيَّان: ما ذكره في أهل النّارِ قد يتمشَّى؛ لأنَّهم يخرجون من النَّارِ إلى الزَّمهرير فيصيح الاستثناء، وأمَّا أهلُ الجن! ة، فلا يخرجون من الجنَّة، فلا يصحُّ فيهم الاستثناء. قال شهاب الدين: والظَّاهرُ أنَّهُ لا يصحُ فيهما؛ لأنَّ أهل النَّارِ مع كونهم يُعذَّبُون بالزَّمهرير هم في النَّار أيضاً. وثالثها: أنَّه استثناء من الزَّمان الدَّال عليه قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾ . والمعنى: إلاَّ الزمان الذي شاء الله فلا يُخَلَّدون فيها. ورابعها: إنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ، وهو قوله: «فَفِي النَّارِ» و «فَفِي الجنَّة» لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضمير المبتدأ. وخامسها: أنه استثناء من الضَّمير المستتر في الحالِ وهو: ﴿خَالِدِينَ﴾ ، وعلى هذين القولين تكون «ما» واقعةً على من يعقل عند من يرى ذلك، أو على أنواع من يعقلُ كقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: 3] والمرادُ ب «مَا» حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرف أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنَّة فيجوز أن يكونوا هم، أو أصحابُ الأعراف؛ لأنهم لم يدخلُوا الجنَّة لأولِ وهلةٍ، ولا خُلِّدُوا فيها خلودَ من دخلها أولاً. وسادسها: قال ابنُ عطيَّة: قيل: إنَّ ذلك على طريق الاستثناء الذي ندبَ الشَّارعُ إلى استعماله في كُلِّ كلامٍ، فهو كقوله: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ [الفتح: 27] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشَّرط، كأنه قال: إن شاء الله؛ فليس يحتاج أن يوصف بمتَّصلٍ، ولا منقطع. وسابعها: هو استثناءٌ من طول المُدَّةِ، ويروى عن ابن مسعدٍ وغيره أنَّ جهنم تخلُوا من النَّاس وتخفق أبوابها فذلك قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ﴾ وهذا مردُودٌ بظواهر الكتاب والسُّنة، وما ذكر عن ابن مسعودٍ فتأوليه: أنَّ جهنَّم في الدَّرك الأعلى، وهي تخلون العصاة المؤمنين، هذا على تقدير صحَّة ما نُقِل عن ابنِ مسعُودٍ. وثامنها: أنَّ «إلاَّ» حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، والمعنى: وما شاء ربُّكَ زائداً على ذلك. وتاسعها: أنَّ الاستثناء منقطعٌ، فيقدَّرُ ب «لكن» أو ب «سوى» ، ونظروه بقولك: «لي عليك ألفا درهم، إلاَّ الألف التي كنت أسلفتك» أي: سوى تلك، فكأنه قالك خالدينَ فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربُّك زائداً على ذلك. وقيل: سوى ما أعدَّ لهم من عذابٍ غير عذابِ النار كالزمخرير ونحوه. عاشرها: أنه استثناءٌ من مدَّة السموات والأرض التي فرضت لهم في الحياة الدنيا. وحادي عشرها: أنَّهُ استثناءٌ من البرزخ الذي يبين الدنيا والآخرة. وثاني عشرها: أنَّهُ استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دُخُولِ النَّار، إذا دخولهم إنَّما هو زُمَراً بعد زُمَر. وثالث: عشرها: أنَّه استثاءٌ من قوله: «فَفِي النَّارِ» كأَّنَّه قال: إلاَّ ما شاءَ ربُّك من تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا مرويُّ عن أبي سعيد الخدري وجابر. ورابع عشرها: أنَّ «إلاَّ ما شاء» بمنزلة: كما شاء؛ كقوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 22] ، أي: كما سلف. وخامس عشرها: أن معناه: لو شك ربُّك، لأخرجهم منها، ولكنه لا يشاءُ؛ لأنَّه حكم لهم بالخُلود، فتكون «ما» نافية. وسادس عشرها: أنَّه استثناء من قوله: ﴿فَفِي النار﴾ و ﴿فَفِي الجنة﴾ ، أي: إلاَّ الزَّمان الذي شاءهُ الله فلا يكون في النَّار ولا في الجنَّة، ويمكن أن يكون هذا الزَّمانُ المستثنى هو الزَّمانُ الذي يفصلُ فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناءُ من الكون في النَّار، أو في الجنَّة؛ لأنه زمانٌ يخلُو فيه الشَّقيُّ والسَّعيدُ من دخُولِ النَّار والجنة، وأمَّا إذا كان الاستثناءُ من الخلودِ فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكوز الزَّمانُ المستثنى هو الزمانُ الذي فات أهل النار العصاةً من المؤمنين الذي يخرجُون من النَّار ويدخُلون الجنَّة، فلسُوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصارُوا إلى الجنَّة، وهذا مرويُّ عن قتادة والضَّحاك وغيرهما والذين شقُوا على هذا شامل للكافر والعصاة هذا في طرفِ الأشقياء العصاة ممكنٌ، وأمَّا في الطَّرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويل فيه، إذ ليس منهم من يدخلُ الجنة ثمَّ لا يخلَّد فيها. قال أبو حيَّان: يمكنُ ذلك باعتبار أن يكون أريد الزَّمان الذي فات أهل النَّار العُصاة من المؤمنون فيها الجنَّة وخُلَّدوا فيها صدق على العصاةِ المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدُوا في الجنة تخليدَ من دخلها لأوَّلِ وهلة. ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وهذا يحسُ انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفسَّاق من النَّارِ، كأنَّه تعالى يقول: اظهرتُ القهر والقدرة، ثم أظهرتُ المغفرة والرَّحمة؛ لأنَّي فعالٌ لما أريدُ، وليس لأحد عليَّ حكم ألبتَّة. قوله: ﴿وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ﴾ قرأ الأخوان حفصٌ «سُعِدُوا» بضمِّ السين. والباقون بفتحها، فالأولى من قولهم: عسده اللَّهُ، أي: أسعدهُ حكى الفرَّاءُ عن هذيل أنها تقولُ: سعده الله بمعنى أسعده. وقال الجوهريُّ: سَعِد فهو سَعِيد ك: سَلِمَ فهو سليم وسُعِد فهو مسعود. وقال ابن القشيري: ورد سعده الله فو مسعود، وأسْعَده فهو مُسْعَد. وقيل: يقال: سعده وأسْعده فهو مسعُود، استغنوا باسم مفعول الثلاثي. وحكي عن الكسائي أنَّه قال: هما لغتنان بمعنى يعني: فعل وأفعل. وقال أبو عمرو ابن العلاءِ: يقال: سُعِدَ الرجلُ، كما يقال: أسعده الله وقال بعضهم: احتجَّ الكسائيُّ بقولهم: «مَسْعو» قيل: ولا حُجَّة فيه؛ لأنه يقال: مكان مسعود فيه ثم حذف «فهي» وسُمِّي به. وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي «سُعِدوا» مع علمه بالعربيَّةِ، ولعجبُ من تعجُّبه. قال مكيُّ: قراءةُ حمزة والكسائي «سُعدِدوا» بضمِّ السِّين حملاً على قوله: «مسعود» وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ، وقولهم: «مسود» ، إنَّما جاء على حذف الزَّواد: كأنَّهُ من أسعده الله، ولا يقالك سعده الله، وهو مثل قولهم: أجنَّهُ الله فهو مجنون، أتى على جَنَّةُ الله، وإن كان لا يقال ذلك، كما لا يقال: سعده الله. وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد وقال أبو البقاء: وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ، ولا هو مقيسٌ. فصل قال ابنُ الخطيب: الاستثناءُ في اباب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم، وها هنا وجه آخر، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، لقوله: ﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ﴾ [التوبة: 72] إلى أن قال: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72] . قوله: ﴿عَطَآءً﴾ نُصِبَ على المصدر المؤكذ من عنى الجملة قبله؛ لأن قوله: ففِي الجنَّةِ خالدينَ «يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل: يعطيهم عطاءً، و» عطاء» اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال، أو يكونُ على حذف الزَّوائد، كقوله: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، أو منصوب بمقدَّرِ موافق له، أي: فنبتُّم نباتاً، وكذلك هنا، يقال: عطوتُ معنى: تناولتُ. و «غَيرَ مجذُوذِ» نعته، والمجذوذُ: المقطوع، ويقال لفُتات الذَّهب والفضَّة والحجارة جُذاذ من ذك، وهو قريب من الجدِّ وبالمهلة في المعنى، إلاَّ أنَّ الرَّاغب جعل جدَّ بالمهملة بمعنى: قطع الأرض المستوية، ومنه: جدَّ في سيره يَجِدُّ جدًّا، ثم قال: «وتُصُوِّر من جددتث الأرض القطعُ المُجرد، فقيل: جددتُ الثوبَ إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جعل الكل ما أحدث إنشاؤه» والظَّاهر أنَّ الماتدتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرت لها نظائر نحو: عتا وعثَا، وكتب وكثب. فصل قال ابن زيد: أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنَّة، فقال: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ ولم يخبر بالذي يشاءُ لأهل النَّار. وقال ابن مسعود: ليأتينَّ على جهنَّم زمان ولي فيها أحدٌ، وذلك بعدما يلبثوا فيها أحقاباً وعن أبي هريرة مثلهُ، وقد تقدَم، ومعناه عند أهل السُّنة: ألاَّ يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان، وأما مواضع الكافر فممتلئه أبداً. قوله: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾ أي: شك» مِمَّا يعبدُ هؤلاءِ «لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان، وأتبعه بأحوال الأشقياء، وأحوال السعداء شرح للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أحوال الكفار من قومه، فقال:» فلا تَكُ في مريةٍ ممَّا يعبدُ هؤلاءِ» وحذف النون؛ لكثرة الاستعمال؛ ولأنَّ النون إذا وقعت طرف الكلام، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنَة، فلا جرم أسقطوه و «ما» في» مِمَّا يعبُدُونَ «و» مِمَّا يعبدُ آباؤنَا» مصدرية، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية، والمعنى أنَّهُم ضلال «ما يعبدون إلاَّ كما يعبد» ، وفيه إضمار، أي: كما كان يعبدُ آباؤهُمْ من قبل،» وإنَّا لمُوفُّوهُم نَصِيبهُم «حقَّهم من الجزاء» غير منقُوص «ويحتمل أن يكون المراد أنهم، وإن كفروا، وأعرضوا عن الحقِّ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرِّزق والخيرات الدنيويَّة، ويحتمل أن يكون المراد: إنَّا لموفُّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل وإرسال الرسُل وإنزال الكتب. قوله» غير منقُوصٍ» حالٌ من «نَصِيبهُم» وفي ذلك احتمالان: أحدهما: أن تكون حالاً مؤكِّدة؛ لأن لفظ التوفيه يشعرُ بعدم النقص، فقد استفيد معناها من عاملها، وهو شأنُ المؤكدة. والثاني: أن تكون حالاً مبنة. قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف نُصب «غيْر منقُوصٍ» حالاً من النَّصب المُوفَّى؟ قلتُ: يجوز أن يُوفَّى، وهو ناقصٌ، ويوفَّى وهو كامل؛ ألا تراك تقولُ: «وفَّيْتُه شطر حقَّه، وثُلثَ حقِّه، وحقِّه كاملاً وناقصاً» فظاهر هذه العبارة أنها مبنيةٌ، إذ عاملها محتمل لمعناها ولغيره. إلا أن أبا حيَّان قال: هذه مغلطة، إذا قال: «وفيته شطر حقِّه» فالتوفية وقعتْ في الشَّطْر، وكذا في الثُلُث، والمعنى: أعطيته الشطر والثلث كاملاً لم أنقصه شيئاً، وأما قوله: «وحقِّه كاملاً وناقصاً» فلا يقالُ لمنافاته التَّوفية. قال شهابُ الدِّين: «وفي منع الشيخ أن يقال:» وفِّيْتُه حقِّه ناقصاً «نظرٌ، إذ هو شائعٌ في تركيبات النَّاس المعتبر قولهم؛ لأ المراد بالتَّوفيه مطلقُ التَّأدية» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب