الباحث القرآني

قوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة، وهو قولهم: بأنَّ الحشر، والنشر، باطلٌ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها، وتفرقت أجزاؤه، امتنع عوده بعينه، وإذا بطل القول بالبعث، بطل القول بالنبوة من وجهين: الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى تقرير القول بالمعاد، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً. والثاني: أنه يقرر نبوة نفسه، ووجوب طاعته؛ بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب، وإذا بطل ذلك، بطلت نبوته. فقوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ﴾ . معناه: أنهم كانوا يدعون العلم الضروريَّ بأن الشيء إذا فني وعدم، فإنه لا يعود بعينه، وأن عوده بعينه محال في بديهة العقل. وأمَّا بيان أنَّه لما أبطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة، فلم يصرِّحوا به، فتركوه، لأنَّه كلام متبادر إلى العقول، ثمَّ إنه تعالى بيَّن أنَّ القول بالبعث ممكن؛ فقال: «بَلَى وعْداً عليْهِ حَقًّا» أي حق على الله التمييز بين المطيع، والعاصي، وبين المحق، والمبطل، وبين المظلوم، والظالم؛ وهو قوله تعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ﴾ وسيأتي بيان تقرير هذه الطريقة في سورة «يس» إن شاء الله تعالى، ثم بين إمكان الحشر، والنشر؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء، لا يتوقف على سبق مادة، ولا مدة، ولا آلة؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله: «كُنْ» . فقال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته. قوله: «وأقْسَمُوا» ظاهره أنه استئناف خبر، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على «وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا» إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان، وقوله «بَلَى» إثبات لما بعد النفي. قوله «وعْداً عَليْهِ حقًّا» هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد، أي: وعد ذلك وعداً وحق حقًّا. وقيل: «حقًّا» نعت ل «وعْداً» والتقدير: بلى يبعثهم، وعد بذلك وعداً حقًّا. وقرأ الضحاك: «وعْد عَليْهِ حَقٌّ» برفعهما؛ على أنَّ «وعْدٌ» خبر مبتدأ مضمر، أي: بلى يبعثهم وعد على الله، و «حَقٌّ» نعت ل «وعْدٌ» . قوله: «لِيُبَيِّنَ» هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب، أي: بلى يبعثهم، ليبيَّن، وقوله «كُنْ فَيكُونُ» تقدم في البقرة، «واللام» في «لِشيْءٍ» وفي «لَهُ» لام التبليغ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما، أي: لأجل شيء أن يقول لأجله، وليس بواضح. وقال ابن عطية: «وقوله» أنْ نَقُولَ «ينزَّل منزلة المصدر، كأنه قال: قولنا؛ ولكن» أنْ «مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن؛ كهذه الآية؛ وكقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: 25] إلى غير ذلك» . قال أبو حيَّان: وقوله: «ولكن» أنْ «مع الفعل يعني المضارع» وقوله: «في أغلب أمرها» ليس بجيدٍ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها، وقوله: «قد تجيء ... إلى آخره» لم يفهم ذلك من دلالة «أنْ» وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ، والأرض بأمر الله؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى -. ونظيره: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الأحزاب: 5] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالمزمن الماضي، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان. قوله «قَولُنَا» مبتدأ، و «أن نقُول» خبره، و «كُنْ فَيكُونُ» : «كُنْ» من «كَانَ» التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي: إذا أردنا حدوث شيء، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ. وقرأ ابن عامر، والكسائي «فيكون» بنصب النون، والباقون بالرفع. قال الفراء: ولقراءة الرفع وجهها: أن يجعل قوله «أن نقُول له» كلاماً تاماً، ثم يخبر عنه بأنه سيكون، كما يقال: «إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ» برفع قولك «فَيَفْعَلُ» على أن تجعله كلاماً مبتدأ. وأما وجه القراءة الأولى: فأن تجعله عطفاً على «أن نَقُول» والمعنى: أن نقول كن فيكون. هذا قول الجمهور. وقال الزجاج: «ويجوز أن يكون نصباً على جواب» كُنْ «» . ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر، فليس القصد به ههنا الأمر، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإذا كان كذلك بطل قوله: إنه نصب على جواب «كُنْ» . فإن قيل: قوله «كُنْ» إن كان خطاباً مع المعدون؛ فهو محالٌ، وإن كان خطاباً مع الموجود، كان أمراً بتحصيل الحاصل؛ وهو محالٌ. فالجواب: أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ، وعلى ما أراده من الإسراعِ، ولو أراد خلق الدنيا، والآخرة بما فيهما من السماوات، والأرض، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون. * فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله دلت هذه الآية على قدم القرآن؛ لأنَّ قوله تعالى ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فلو كان قوله حادثاً؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له: كن فيكون، وذلك يوجب التسلسل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ. قال ابن الخطيب: وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه: أحدها: أنَّ كلمة «إذَا» لا تفيد التكرار؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته: «إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ» فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له: كن فيكون، فلم يلزم التَّسلسلُ. وثانيها: أن هذا الدليل إن صح، لزم القول بقدم لفظ «كُنْ» وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأنَّ لفظة «كُنْ» مركبة من الكاف والنُّون، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة، وعند مجيء النون تفوت الكاف، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة «كُنْ» يمتنع كونها قديمة، وإنَّما الي يدعي أصحابنا قدمه صفة [مغايرة] للفظ: «كُنْ» فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية؛ فسقط التمسك به. ثالثها: أنَّ الرجل إذا قال: إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ، ولا على فعل، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف؛ فكذلك ما قالوه. ورابعها: أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه: الأول: أن قوله تعالى ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ﴾ يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة؛ فيكون محدثاً. الثاني: أنه علق القول بكلمة «إذَا» وهي إنَّما تدخل للاستقبال. الثالث: أن قوله تعالى: ﴿أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال. الرابع: أن قوله «كن فَيكُونُ» كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد؛ يجب أن يكون محدثاً. الخامس: أنه معارض بقوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ [الأحزاب: 37] و ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً﴾ [الأحزاب: 38] و ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ [الزمر: 23] و ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ﴾ [الطور: 24] و ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً﴾ [الأحقاف: 12] فإن قيل: فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام، فما الجواب عنه؟ . قلنا: نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف، والأصوات، ونحن نقول بكونه محدثاً. قوله: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ الآية. لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، على إنكار البعث، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل، ومن هذا حاله، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين؛ بالضَّرب، وغيره من العقوبات؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة؛ من حيث هاجر، وصبر، وتوكَّل على الله - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ -. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: نزلت هذه الآية في صهيب، وبلال، وعمار، وخبَّاب، وعابس، وجبير، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم؛ ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبيرٌ إن كنت لكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم؛ فافتدى منهم بماله، فلما رآه أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: رَبِحَ البيعُ يا صهيب، وقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «نِعْمَ الرَّجلُ صهيبٌ، لوْ لَمْ يَخفِ الله لَمْ يَعْصِه» ، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه. وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هم أصحاب النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظلمهم أهل مكة، وأخرجوهم من ديارهم؛ حتَّى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوَّأهم الله المدينة بعد ذلك؛ فجعلها لهم دار هجرة، وجعلهم أنصاراً للمؤمنين، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام، كما أن نصرة الأنصار قوَّت شوكتهم، ودل عليه قوله تعالى: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي الله﴾ على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله، لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلد. قوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة، وهو قولهم: بأنَّ الحشر، والنشر، باطلٌ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها، وتفرقت أجزاؤه، امتنع عوده بعينه، وإذا بطل القول بالبعث، بطل القول بالنبوة من وجهين: الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى تقرير القول بالمعاد، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً. وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار. قوله: «حَسنَةً» فيها أوجه: أحدها: أنها نعتٌ لمصدر محذوف، أي: تبوئة حسنة. الثاني: أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى؛ لأنَّ معنى {لَنُبَوِّئَنهُمْ «لنحسنن إليهم. الثالث: أنها مفعول ثانٍ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم، و» حَسَنةً» صفة لموصوف محذوفٍ، أي: داراً حسنة؛ وفي تفسير الحسن: دار حسنة وهي المدينة على ساكنها - أفضل الصلاة والسلام -. وقيل: تقديره: منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل المشرق. وقيل: حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف. وقرأ أمير المؤمنين، وابن مسعود، ونعيم بن ميسرة: «لنُثوينَّهُمْ» بالثاء المثلثة والياء، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من «ثَوَى بالمكان» أقام فيه وسيأتي أنَّه قرئ بذلك في السبع في العنكبوت، و «حَسنَةً» على ما تقدم. ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي «في حَسَنة» والموصول مبتدأ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره، وفيه ردٌّ على ثعلب؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبراً. وجوَّز أبو البقاء في: « الَّذينَ» النصب على الاشتغالِ بفعلٍ مضمر، أي: لنبوأنَّ الذين. ورده أبو حيان: بأنه لا يجوز أن يفسر عاملاً، إلا ما جاز أن يعمل، وإن قلت «زَيْداً لأضْربنَّ» لم يجز، فكذا لا يجوز «زَيْداً لأضْربنَّه» . قوله: ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار، أي: لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين. أو على المؤمنين، أي: لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم. فصل: الإحسان عند الإعطاء روي أنَّ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول: خُذه بَاركَ الله لَكَ فِيهِ، هذا ما وَعدكَ الله في الدُّنيَا وما ادَّخرَ لَكَ في الآخرةِ أفضلُ، ثم تلا هذه الآية. وقيل: المعنى: لنحسنن إليهم في الدنيا. وقيل: الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية. قوله تعالى: ﴿الذين صَبَرُواْ﴾ محلُّه رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم الذين صبروا، أو نصب على تقدير أمدح، ويجوز أن يكون تابعاً للموصول قبله نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً فمحله محله. والمعنى: أنَّهم صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، وعلى الجهاد، وبذل الأموال، والأنفس في سبيل الله. قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً﴾ الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة، كانوا يقولون: الله أعلى، وأجلُّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر؛ بل لو أراد بعثة رسولٍ غلينا كان يبعث ملكاً، وتقدم تقريرُ هذه الشبهة في سورة الأنعام؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: ﴿نوحي إِلَيْهِمْ﴾ والمعنى: أنَّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولاً إلاَّ من البشر، وهذه العادة مستمرةٌ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال. ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه - تعالى - ما أرسل ملكاً، إلاَّ أن ظاهر قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً﴾ [فاطر: 1] يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ثم قال الله تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر﴾ . قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يريد أهل التوراة، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر﴾ [الأنبياء: 105] يعني التوراة. وقال الزجاج: معناه سلوا كلَّ من يذكر بعلم وتحقيق. واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من أجازه محتجاً بهذه الآية؛ فقال: لمَّا لم يكن أحد المجتهدين عالماً، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم؛ لقوله تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ فإن لم يجب؛ فلا أقل من الجواز. واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة، فإن كان عالماً بحكمها، لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالماً بحكمها، وجب عليه سؤال من كان عالماً بها؛ لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة، لما وجب عليه سؤال العالم؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية؛ فوجب أن لا يجوز. والجواب: أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فالإجماع أقوى من هذا الدليل. قوله «بِالبَيِّناتِ» فيه ثمانية أوجه: أحدها: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل «رِجَالاً» فيتعلق بمحذوفٍ، أي رجالاً ملتبسين بالبينات، أي: مصاحبين لها وهو وجه حسنٌ لا محذور فيه، ذكره الزمخشريُّ. الثاني: أنه متعلق ب «أرْسَلْنَا» ذكره الحوفي، والزمخشريُّ، وغيرهما، وبه بدأ الزمخشريُّ، فقال: «يتعلق ب» أرْسَلْنَا «داخلاً تحت حكم الاستثناء مع» رِجَالاً «أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضَربْتُ إلاَّ زيْداً بالسَّوطِ؛ لأن أصله: ضَربتُ زَيْداً بالسَّوطِ» . وضعفه أبو البقاء: بأن ما قبل «إلاَّ» لا يعمل فيما بعدها، إذا تم الكلام على «إلا» وما يليها، قال: إلا أنه قد جاء في الشعر: [البسيط] 3310 - نُبِّئْتهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارتَهُم ... ولا يُعَذِّبُ إلاَّ الله بالنَّارِ وقال أبو حيَّان: «وما أجازه الحوفي، والزمخشري، لا يجيزه البصريون؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد» إلاَّ «إلاَّ مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابع لذلك، وما ظن بخلافه قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعاً، أو منصوباً أو مخفوضاً، نحو: ما ضَربَ إلا عمراً زيدٌ، وما ضَربَ إلاَّ زيْدٌ عَمْراً، وما مرَّ إلاَّ زيْدٌ بِعَمْرٍو» . ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش، في الظرف، وعديله؛ فما قالاه يتمشَّى على قول الكسائي، والأخفش. الثالث: أنه يتعلق ب «أرْسَلْنَا» أيضاً؛ إلاَّ أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً؛ حتى لا يكون ما بعد «إلاَّ» معمولين متأخرين لفظاً ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل «إلاَّ» ، حكاه ابن عطية. وأنكر الفراء ذلك وقال: «إنَّ صلة ما قبل» إلاَّ «لا يتأخر إلى ما بعد» إلا «لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل» إلاَّ «مع صلته، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه» . الرابع: أنه متعلق ب «نُوحِي» كما تقول: أوحى إليه بحق. ذكره الزمخشري، وأبو البقاء. الخامس: أنَّ الباء مزيدة في «بالبَيِّناتِ» وعلى هذا؛ فيكون «البَيِّنَات» هو القائم مقام الفاعل؛ لأنها هي الموحاة. السادس: أن الجارَّ متعلق بمحذوف؛ على أنَّه حالٌ من القائم مقام الفاعل، وهو «إليْهِمْ» ذكرهما أبو البقاء. وهما ضعيفان جدًّا. السابع: أن يتعلَّق ب «لا تَعْلَمُون» على أنَّ الشرط في معنى: التبكيت والإلزام؛ كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقِّي. قال الزمخشريُّ: وقوله تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر﴾ اعتراضٌ على الوجوه المتقدمة، ويعني بقوله: «فاسْئَلُوا» الجزاء وشرطه، وأما على الوجه الأخير، فعدم الاعتراض واضحٌ. الثامن: أنه متعلق بمحذوف جواباً لسؤالٍ مقدرٍ؛ كأنه قيل: بِمَ أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بالبينات، والزُّبرِ، كذا قدره الزمخشري. وهو أحسن من تقدير أبي البقاءِ: بعثوا لموافقته للدالِّ عليه لفظاً ومعنى. * فصل في تأويل «إلا» قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إلاَّ» بمعنى «غَيْرَ» ، أي: وما أرسلنا قبلك بالبينات، والزبر، غير رجالٍ يوحى إليهم، ولو لم نبعث إليهم ملائكة. وقيل: تأويله: وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر، والبينات والزبر: كل ما يتكامل به الراسالة؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة، وهي البينات على التكاليفِ، التي يبلغها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العباد، وهي الزبر. ثم قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ أراد بالذكر الوحي وكان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مبيناً للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة. انتهى. فصل القرآن ليس كله مجملاً بل منه المجمل والمبين ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر على بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمفتقر إلى [البيان] مجملٌ، فهذا النص يقتضي أنَّ هذا القرآن كله مجمل؛ فلهذا قال بعضهم: متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجمل؛ فلهذا قال بعضهم: متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجملٌ بنص هذه الآية، والخبر مبين لهذه الآية، والمبين مقدم على المجمل. وأجيب: بأن القرآن منه محكمٌ، ومنه متشابه، والمحكم يجب كونه مبيناً؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملاً، بل فيه المجمل. فقوله: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ محمول على تلك المجملات. فصل هل الرسول مبين لكلم ما أنزل الله ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو لمبين لكلِّ ما أنزل الله على المكلفين، وعند هذا قال نفاة القياس: لو كان القياس حجة، لما وجب على الرسول بيانُ كلِّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام؛ لاحتمال أن يبين لمكلف ذلك الحكم بطريق القياس، ولما دلت هذه الآية على أنَّ المبين للتكاليف، والأحكام؛ هو الرسول، علمنا أنَّ القياس ليس بحجةٍ. وأجيب عنه: بأنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بين أنَّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قالوا: لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما وقع فيه اختلافٌ. قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات﴾ الآية في «السَّيِّئاتِ» ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنها نعت لمصدر محذوف، أي: المكرات السيئات. الثاني: أنه مفعول به على تضمين: «مَكرُوا» عملوا وفعلوا، وعلى هذين الوجهين، فقوله ﴿أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض﴾ مفعولٌ ب «أمِنَ» . الثالث: أنه منصوب ب «أمن» ، أي: أمنوا العقوبات السيئات، وعلى هذا فقوله ﴿أَن يَخْسِفَ الله﴾ بدل من «السَّيِّئات» . والمكرُ في اللغة: هو السعي بالفسادِ خفية، ولا بد هنا من إضمارٍ، تقديره المكرات السيئات، والمراد أهل مكة، ومن حول المدينة. قال الكلبيُّ: المراد بهذا المكر: اشتغالهم بعبادة غير الله - تعالى - والأقربُ أن المراد سعيهم في إيذاءِ الرسول، وأصحابه على سبيل الخفيةِ، أي: يخسف الله بهم الأرض؛ كما خسف بالقرون الماضية. قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي: يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم؛ فيهلكهم بغتة؛ كما فعل بالقرون الماضية. ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾ أي: أسفارهم ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد﴾ [آل عمران: 196] . وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في اختلافهم. وقال ابن جريج: في إقبالهم وإدبارهم. وقيل: في حال تلقُّبهم في أمكارهم، فيحول الله بينهم، وبين إتمام تلك الحيل. وحمل التقلُّب على هذا المعنى، مأخوذ من قوله تعالى: ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور﴾ [التوبة: 48] . ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ﴾ هذا الجارُّ متعلق بمحذوفٍ؛ فإنه حال، إمَّا من فاعل «يَأخُذهُمْ» وإما من مفعوله، ذكرهما أبو البقاء. والظاهر كونه حالاً من المفعول دون الفاعل. والتَّخَوُّفُ: تفعُّلٌ من الخَوفِ، يقال: خِفْتُ الشَّيء، وتخَوَّفتهُ. والتَّخوُّفُ: التَّنقُّص، أي: نقص من أطرافهم، ونواحيهم، الشيء بعد الشيء حتًّى يهلك جميعهم، يقال: تخوَّفته الدَّهرَ؛ وتخوفه، إذا نقصه، وأخذ ماله، وحشمه، ويقال: هذه لغة بني هذيل. وقال الأعرابيِّ: تخوَّفتُ الشَّيءَ وتخيَّفتهُ إذا تنقَّصتهُ. حكى الزمخشريُّ أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا، فقام شيخٌ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخَوُّف التنقُّص، فقال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ . قال: نعم، قال شاعرنا: [البسيط] 3311 - تخوَّف الرَّحلُ منهَا تَامِكاً قَرِداً ... كمَا تَخوَّفَ [عُودَ] النَّبْعةِ السَّفن فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أيُّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلُّوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية؛ فإنَّ فيه تفسير كتابكم، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير، وكأنه سهوٌ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي؛ ويؤيد ذلك قول الرجل: قال شاعرنا، وكان هذيلياً كما حكاه هو، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم، كما قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ [الأنبياء: 44] أي: لا نعاجلهم بالعذاب، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم. ويحتمل أن النَّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلاً قليلاً حتى يفنوا جميعهم. وقال الضحاك، والكلبيُّ: من الخوف، أي: لا يأخذهم بالعذاب، أولاً؛ بل يخيفهم، أو بأن يعذب طائفة؛ فتخاف التي يليها. ثم قال: ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي يمهل في أكثر الأمر؛ لأنه رءوف رحيم، فلا يعاجل بالعذاب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب