الباحث القرآني

تقدَّم الكلامُ في ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى﴾ في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: 243] قال القرطبيّ: وهذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التَّعجب، أي: أعجبوا له قال الفرَّاء: «أَلَمْ تَرَ» ، بمعنى: هل رأيتَ الَّذي حاجَّ إبراهيم، وهل رأَيْتَ الَّذي مرَّ على قرية؟ وقرأ عليٌّ رضي اللهُ عنه: بِسُكون الرَّاء وتقدَّم أيضاً توجيهها. والهاءُ في «رَبِّهِ» فيها قولان: أظهرهما: أنها تعود على «إبراهيم» . والثاني: على «الَّذِي» ، ومعنى حاجَّه: أظهرَ المغالبة في حجته. فصل أعلم أَنَّه تعالى ذكر ها هنا قصصاً ثلاثاً. الأولى: في بيان إِثبات العالم بالصَّانع، والثانية والثالثة: في إثبات الحشرِ والنَّشرِ والبعث. فالأولى مناظرة إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع ملك زمانِهِ، وهي هذه. قال مجاهِدٌ هو النُّمروذُ بن كنعانَ بن سام بن نُوح، هو أول من وضع التَّاجَ على رأسه، وتجبر وادَّعى الرُّبوبية؛ حاجَّ إبراهيم أي: خاصمَهُ وجادله، واختلفوا في وقتِ هذه المحاجَّةِ. فقال مقاتل: لمّا كسَّرَ الأَصنامَ سجنه النمروذ، ثم أخرجه ليحرقهُ فقال [له] : من رَبُّكَ الذي تَدعُونا إليه؛ فقال: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ . وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النَّار. وقال قتادةُ: هو أَوَّلُ من تَجَبَّرَ، وهو صاحب الصَّرح ببابل. وقيل هو نُمروذُ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أَرفخشذ بن سام، وحكى السُّهيليُّ أنه النُّمروذُ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وكان ملكاً على السَّواد، وكان ملكه الضحاك الَّذي يُعْرَفُ بالأزدهاق وذلك أن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ، وكان النَّاسُ يمتارون من عنده الطَّعام، وكان إذا أتاه الرَّجلُ في طلب الطَّعام سأَلَ: مَنْ رَبُّكَ فإن قال: أَنْت؛ نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه، فقال له نمروذُ: من رَبُّكَ؛ فقال له إبراهيم: ربيّ الّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ. فاشتغل بالمحاجَّة، ولم يعطه شيئاً، فرجع إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فمر على كثيبٍ من رَمْلٍ أعفرٍ، فأخذ منه تطييباً لقلوبِ أهْلِه إذا دخل عليهم؛ فلما أَتى أَهلهُ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأَتهُ؛ فصنعت له منه فقربته إليه، فقال من أين هذا؟ قالت مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جئت به، فعرف أن الله - تعالى - رزقه فَحَمَدَ اللهَ تعالى. قوله: ﴿أَنْ آتَاهُ الله﴾ فيه وجهان: أظهرهما: أَنَّهُ مفعولٌ من أجله على حذفِ العِلّة، أي: لأَنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، أعني النَّصب، أو الجرِّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِّ قبل « أَنْ» ؛ لأَنَّ المفعول مِنْ أجلهِ هنا نَقَّص شرطاً، وهو عدمُ اتِّحادِ الفاعلِ، وإنما حُذفت اللامُ، لأَنَّ حرف الجرِّ يطَّرد حذفُهُ معها، ومع أنَّ، كما تقدَّم. وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ وجهان: أحدهما: أَنَّهُ من باب العكسِ في الكلام بمعنى: أنه وضعَ المُحاجَّة موضع الشُّكْر، إذ كان مِنْ حقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْكِ، ولكنَّهُ عَمِلَ على عكس القضية، كقوله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82] ، وتقول: «عَادَاني فُلانٌ؛ لأني أَحسنت إليه» وهو باب بليغٌ. والثاني: أَنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك؛ لأَنَّهُ أورثه الكِبْرَ وَالبَطَرَ، فَنَشَأَ عنهما المُحاجَّةُ. الوجه الثاني: أنَّ «أَنْ» ، وما في حيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزَّمانِ، قال الزَّمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «وَيَجُوزُ أن يكونَ التَّقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاهُ اللهُ» . وهذا الذي أجازه الزمخشريُّ فيه نظر؛ لأَنَّهُ إِنْ عنى أَنَّ ذلكَ على حذفِ مُضافٍ ففيه بُعْدٌ من جهةِ أَنَّ المحاجَّة لم تقع وقتَ إِيتاءِ اللهِ له المُلْك، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الوقتِ، فلا يُحْمَل على الظَّاهر، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَت ابتداء إيتاءِ المُلْك، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعت وقتَ وجود المُلْك، وإن عنى أَنَّ «أَنْ» وما حيِّزها واقعةٌ موقع الظَّرف، فقد نصَّ النَّحويون على منع ذلك وقالوا: لا يَنُوب عن الظَّرف الزَّماني إلا المصدرُ الصَّريحُ، نحو: «أَتيتُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ» ولو قلت: «أَنْ يصيحَ الدِّيكُ» لم يَجز. كذا قاله أبو حيَّان قال شهاب الدين وفيه نظرٌ، لأنه قال: «لا ينوبٌ عن الظَّرفِ إلا المصدرُ الصّريح» ، وهذا معارضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ «ما» المصدريةَ تنوبُ عن الزَّمانِ، وليست بمصدرٍ صريحٍ. والضمير في «آتاه» فيه وجهان: أظهرهما: أَنْ يعودَ على «الَّذِي» ، وهو قول جمهور المفسرين وأَجاز المهدويُّ أن يعودَ على «إِبْرَاهِيم» ، أي: ملك النُّبُوَّة. قال ابن عطيَّة: «هذا تَحاملٌ من التَّأْوِيل» ، وقال أبو حيان: هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: 124] والمُلْك عهدٌ، ولقوله تبارك وتعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ [النساء: 54] . وعودُ الضَّمير إِلى أقرب مذكور واجب، وأقرب مذكورٍ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأجيب عن الأَوَّل بأَنَّ الملك حصل لآل إبراهيم، وليس فيها دلالةٌ على حصوله لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -. وعن الثاني: بأن الذي حاج إبراهيم كان هو المَلِكُ، فعود الضَّمير إليه أَوْلَى. قوله: «إِذْ قَالَ» فيه أربعةُ أوجهٍ: أظهرها: أَنَّهُ معمولٌ لحاجَّ. والثاني: أن يكون معمولاً لآتاه، ذكرهُ أبو البقاء. وفيه نظرٌ من حيثُ إنَّ وقت إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم، ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الظَّرفِ كما تقدَّم. والثالث: أن يكون بدلاً من ﴿أَنْ آتَاهُ الله الملك﴾ إذا جُعِلَ بمعنى الوقت، أجازه الزَّمخشريّ بناءً منه على أَنَّ «أَنْ» واقعةٌ موقعَ الظَّرف، وقد تقدَّم ضعفُهُ، وأيضاً فإِنَّ الظّرفين مختلفان، كما تقدَّم إلا بالتَّجوز المذكورِ. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ «وَذَكَرَ بَعْضُهم أنه بَدَلٌ من» أَنْ آتَاهُ الملك «وليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كان بدلاً لكان غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل» إذ «بمعنى» أَنْ «المصدرية، وقد جاء ذلك» انتهى. وهذا بناءً منه على أنَّ «أَنْ» مفعولٌ من أجله، وليست واقعةً موقع الظَّرفِ، أمَّا إِذَا كانت «أَنْ» واقعةٌ موقع الظرف فلا تكون بدل غلط، بل بدلُ كلِّ من كُلِّ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدَّم بجوابه، مع أَنَّه يجوزُ أَنْ تكون بدلاً مِنْ «أَنْ آتاهُ» ، و «أَنْ آتَاهُ» مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ؛ لأَنَّ وقتَ القولِ لاتِّسَاعِهِ مُشتملٌ عليه وعلى غيره. الرابع: أَنَّ العامِلَ فيه «تَرَ» منق وله: «أَلَمْ تَرَ» ذكره مكيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الرُّؤية على كِلاَ المذكورين في نظيرها لم تكن في وقتِ قوله: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ . قوله: ﴿الذي يُحْيِي﴾ مبتدأٌ في محلِّ نصب بالقول. فصل الظَّاهر أن هذا جواب سؤالٍ سابق غير مذكورٍ؛ لأَنَّ الأَنبياء بعثوا للدَّعوة ومتى ادَّعى الرسالة والدَّعوة، فلا بدَّ وأن يطالبه المنكر بإثبات أَنَّ للعالم إلهاً؛ ألا ترى لما قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: 16] ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين﴾ [الشعراء: 23] فاحتجَّ موسى على إثبات الإِله بقوله ﴿رَبُّ السماوات والأرض﴾ [الشعراء: 24] فكذا ها هنا لما ادَّعى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرِّسالة قال النُّمروذ من ربك؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت. وقرأ حمزة: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ بإسكان الياء، وكذلك ﴿حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش﴾ [الأعراف: 33] ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض﴾ [الأعراف: 146] ، و ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الذين﴾ [إبراهيم: 31] ، و ﴿آتَانِيَ الكتاب﴾ [مريم: 30] و ﴿مَسَّنِيَ الضر﴾ [الأنبياء: 83] و ﴿مَسَّنِيَ الشيطان﴾ [ص: 41] و ﴿عِبَادِيَ الصالحون﴾ [الأنبياء: 105] ، و ﴿عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: 13] و ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ الله﴾ [الزمر: 38] ، و ﴿إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله﴾ [ تبارك: 28] أسكن الياء فيهن حمزة؛ وافق ابن عامر والكسائي في «لعبادي الذين آمنوا» وابن عامر في «آيَاتِي الَّذِين» ، وفتحها الآخرون. فصل استدلَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على إثبات الإله بالإحياء والإماتة، وهو دليلٌ في غاية القُوَّة لأَنَّهُ لا سبيل إلى معرفةِ اللهِ تعالى إِلاَّ بواسطة أفعاله التي لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ من القادرين، والإحياء والإماتة كذلك؛ لأَنَّ الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري، وهذا الدَّليل ذكره اللهُ تعالى في مواضع من كتابه كقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: 12] إلى آخرها وقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: 4، 5] وقال: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾ [الملك: 2] . فإن قيل: لِمَ قدَّم هنا ذِكر الحياةِ على الموتِ في قوله ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ ، وقدَّمَ الموتَ على الحياةِ في آياتٍ كقوله ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28] وقال ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾ [الملك: 2] ، وحكى عن إِبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قوله في ثنائِهِ على الله تعالى ﴿والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: 81] . فالجواب: أَنَّ الدَّليل إذا كان المقصود منه الدَّعوة إلى اللهِ - تعالى - يجب أَنْ يكون في غاية الوضُوح، ولا شكّ أَنَّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإِنسان عليها أتم، فلا جرم قَدَّم ذكر الحياة هُنا. ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي﴾ مبتدأٌ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً. وأخبر عن «أَنَا» بالجملة الفعلية، وعن «رَبّي» بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك. و «أَنَا» : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ، والاسمُ منه «أَنَ» والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفت وصلاً، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً، فقيل: أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك: [المتقارب] 1189 - وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا ... فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا وقال آخر: [الوافر] 1190 - أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي ... حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما والصحيح أنه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميم، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً، وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإِنَّه قرأ بثبوت الألف وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ ، أو مفتوحةٍ نحو: ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ﴾ [الأعراف: 143] ، واختلف عنه في المكسروة نحو: ﴿إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ﴾ [الشعراء: 115] ، وقرأ ابن عامرٍ: ﴿لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً﴾ [الكهف: 38] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وهذا أحسنُ من توجيه مَنْ يَقُولُ «أُجْري الوصلُ مجرى الوَقْفِ» . واللُّغة الثانية: إثباتُها وَقْفاً وحَذفُها وَصْلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إِلاَّ ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل «أَنَا» كلُّه ضمير. وفيه لغاتٌ: «أَنا وأَنْ» - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و «آن» ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون، فصار «أانَ» ، قيل: إنَّ المراد به الزَّمان، وقالوا: أَنَهْ، وهي هاءُ السَّكْتِ، لا بدلٌ من الألف؛ قال: «هكذا فَرْدِي أَنَهْ» ؛ وقال آخر: [الرجز] 1191 - إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ ... مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ وإنما أثبت نافعٌ ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللُّغتين، أو لأَنَّ النُّطقَ بالهمزِ عسرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ. فصل قال أكثرُ المفسِّرين: لما احتج إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على إثبات الإله بالإحياء، والإماتة؛ دعا النُّمروذ برجلين، فقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال: أَنَا أيضاً أحيي وأُميت، فجعل تَرْكَ القتلِ إِحياءً. قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّه بعيد؛ لأَنَّ الظَّاهر من حال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة ومتى شرحه امتنع أَن يشتبه على العاقل الإِماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أَنْ يكونُوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمرادُ من الآية - واللهُ أعْلَمُ - أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما احتجّ بالإحياء، والإِماتة قال المنكر: أتدعي الإِحياء والإِماتة مِن اللهِ ابتداء من غير واسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، أو بواسطتها. أَمَّا الأَوَّل: فلا سبيل إليه، وأَمَّا الثَّاني، فلا يدلُّ على المقصود، لأَنَّ الواحد منا يقدر على الإِحياء والإِماتة بواسطة سائر الأسباب فإِنَّ الجماع قد يُفْضي إلى الولد الحيّ بواسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، وتناول السّم قد يفضي إلى الموت، فلما ذكر النُّمروذ هذا السُّؤَال على هذا الوجه؛ أجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقال: [هب أَنَّ الإِحياء، والإماتة] حصلا من الله تعالى بواسطة الاتِّصالات الفلكية إلاَّ أنه لا بُدَّ لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مُدَبّر، فإذا كان المُدبِّر لتلك الحركات الفلكيّة هو اللهُ تعالى؛ كان الإِحياءُ والإماتةُ الصَّادران من البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية ليست كذلك؛ لأنه لا قدرة للبشر على الاتِّصالات الفلكية؛ فظهر الفرقُ. إذا عرف هذا فقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق﴾ ليس دليلاً آخر، بل من تمام الدَّليل الأَوَّل؛ ومعناه: أَنَّهُ وإن كان الإحياء والإماتة [من اللهِ] بواسطة حركات الأَفلاك إِلاَّ أن حركات الأفلاك من اللهِ تعالى فكان الإِحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأَسباب السَّماويَّة والأَرضيَّة إلاَّ أن تلك الأَسباب ليس واقعة بقدرته؛ فثبت أَنَّ الإِحياء والإِماتة الصَّادرين عن البشر ليسا على ذلك الوجه، فلا يصلح نقضاً عليه، فهذا هو الَّذي اعتقده في كيفيَّة جريان هذه المناظرة، لا ما هو المشهورُ عند الكلِّ واللهُ أَعلمُ بحقيقة الحال. قوله: ﴿فَإِنَّ الله﴾ هذه الفاءُ جواب شرطٍ مقدَّر تقديره: قال إبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - إِنْ زعمتَ، أو موَّهْتَ بذلك فإِنَّ اللهَ. ولو كانت الجملةُ محكيَّةً بالقول، لما دخلت هذه الفاءُ، بل كان تركيب الكلام: قال إبراهيم: إِنَّ اللهَ يَأْتِي، وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «دَخَلَتِ الفاءُ؛ إيذاناً بتعلُّق هذه الكلام بما قبلَه، والمعنى: إذا ادَّعيت الإِحياءَ والإِماتة، ولم تفهم، فالحُجَّة أَنَّ الله تعالى يأتي، هذا هو» المعنى «والباءُ في» بالشَّمْسِ» للتعديةِ، تقول: أَتَتِ الشَّمْسُ، وأَتَى اللهُ بها، أي: أجاءها، و «مِنَ المَشْرِقِ» و» مِنَ المَغْرِبِ «متعلِّقان بالفعلين قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بعد أَنْ مَنع ذلك أن يكونا حالين، وجعل التقدير: مُسخَّرةً أو منقادةً قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليته استمر على منعه ذلك. فصل للناس ها هنا طريقان: أحدهما: طريقة أكثر المفسِّرين: وهو أنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما رأى من النُّمروذ إِلقاءَ تلك الشُّبهة، عدل إلى دليل آخَرَ أوضح من الأَوَّل، فقال: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق، فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب﴾ فزعم هؤلاء أن الانتقال مِنْ دليل إلى دليلٍ أوضح منه جائزٌ للمستدلِّ. فإن قيل: هلاَّ قال النمروذُ فليأتِ بها ربُّك من المغربِ. قلنا: الجوابُ من وجهين: أحدهما: أن هذه المُحاجَّة كانت بعد إلقاء إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في النَّار وخروجه منها سالماً، فعلم أَنَّ من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق، يقدر على أن يأتي بالشَّمس من المغرب. والثاني: أن الله تعالى خذله وأنساه إيرادَ هذه الشُّبهة؛ نصرةً لنبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. والطريقُ الثاني: قاله المحقِّقون: إن هذا ليس بانتقالٍ من دليل إلى دليلٍ، بل الدليلُ واحدٌ في الموضعين، وهو أنا نرى حدوث الأشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، فلا بُدَّ من قادر آخر يتولَّى إحداثها، وهو سبحانه وتعالى، ثم إنَّ قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، أمثلةٌ؛ منها: الإِحياء والإِماتة، ومنها: السحاب، والرعد، والبرق، ومنها: حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدلُّ لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليلٍ، ولكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً، فله أن ينتقل مِنْ ذلك المثال إلى مثالٍ آخر، فيكون ما فعله إبراهيم - عليه السَّلامُ - من باب ما يكونُ الدليلُ فيه واحداً، إلاَّ أنه يقع الانتقال عند إيضاحه مِنْ مثالٍ إلى مثالٍ آخر، وليس ما يقع [من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر] . قال ابن الخطيب: وهذا الوجه أحسن من الأوَّل وأليقُ بكلام أهل التحقيق، وعليه إشكالات من وجوه: الإشكال الأول: أن صاحب الشُّبهة، إذا ذكرها وقعت في الأسماع، وجب على المحقِّ القادر على الجواب أن يجيب في الحال؛ إزالةً لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدَّليل الأوَّل أو في المثال الأول بتلك الشبهة، كان الاشتغال بإبطال تلك الشبهة واجباً مضيِّقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب. الإشكال الثاني: أن المبطل لمَّا أورد تلك الشُّبهة، فإذا ترك المحق الجواب عنها، وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأوَّل، كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل، علم وجه ضعفه، ونبَّه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط شأن المحقِّ، وهو لا يجوز. الإشكال الثالث: أنَّه وإن كان يحسن الانتقال من دليلٍ إلى دليلٍ آخر، أو من مثالٍ إلى مثالٍ آخر، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وها هنا ليس كذلك؛ لأنَّ جنس الإحياء والإماتة لا قدرة للخلق عليهما، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرةق عليه ولا يبعد في العقل وجود ملكٍ عظيم في الجثة أعظم من السموات، وأنه هو الذي يحرِّك السموات، وعلى هذا التقدير فالاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من الاستدلال بطلوع الشَّمس على وجود الصانع، فكيف يليق بالمعصوم أن ينتقل من الدَّليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفيِّ. الإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً، ولا في صفاتها، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى، وإنه لا يجوز. الإشكال الخامس: أنَّ النمروذ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إلهٌ، فقل له يطلعها من المغرب؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك، فقالوا: إنه لو أورد هذا السُّؤال، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب، ومن المعلوم: أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً، فالذي حمل سيدنا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك، والتزام الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً؛ فضلاً عن أفضل العقلاء، وأعلم العلماءس، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ. قال ابن الخطيب: وأما الوجه الذي ذكرناه، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات، لأنَّا نقول: لما احتجَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالإحياء والإماتة، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطةٍ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك، [فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر؛ فأجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن الإحياء والإماتة، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك] ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى؛ بخلاف الخلق، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم. [قال القرطبيُّ: وروي في الخبر أن الله تعالى قال: «وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى آتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ لِيُعْلَمَ أَنِّي أَنَا القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ. » ] «قوله: ﴿فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ الجمهور:» بُهِتَ» مبنيّاً للمفعول، والموصول مرفوعٌ به، والفاعل في الأصل هو إبراهيم، لأنه المناظر له، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من «قَالَ» ، أي: فبهته قول إبراهيم، وقرأ ابن السَّميفع: «فَبَهَتَ» بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الفعل متعديّاً، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -، و «الَّذِي» هو المفعول، أي: فبهت إبراهيم الكافر، أي: غلبه في الحجَّة، أو يكون الفاعل الموصول، والمفعول محذوفٌ، وهو إبراهيم، أي: بهت الكافر إبراهيم، أي: لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته، أي: سبَّه وقذفه حين انقطع، ولم تكن له حيلةٌ. والثاني: أن يكون لازماً، والموصول فاعلٌ، والمعنى معنى بهت، فتتَّحد القراءتان، أو بمعنى أتى بالبهتان، وقرأ أبو حيوة: «فَبَهُتَ» بفتح الباء، وضمِّ الهاء، كظرف، والفاعل الموصول، وحكى الأخفش: فَبَهِتَ بكسر الهاء، وهو قاصر أيضاً، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ: بَهَت بفتحهما، بَهُتَ بضم العين، بَهِتَ بكسرها. قال عروة العدويُّ: [الطويل] 1192 - فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً، قال تعالى: ﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ [الأنبياء: 40] . والبَهْتُ: التحيُّر، والدَّهش، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب، ومنه الحديث: «إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ» ، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه. ومعنى الآية: أنَّه: بقي مغلوباً لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جواباً. قوله: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ . وتأويله على قول أهل السُّنة ظاهر، وأما المعتزلة، فقال القاضي: يحتمل وجوهاً: منها: أنه لا يهديهم؛ لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق، كما يهدي المؤمن، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع. ومنها: لا يهديهم بزيادة الهدى والألطاف. ومنها: لا يهديهم إلى الثواب أو لا يهديهم إلى الجنَّة. والجواب عن الأول: أنَّ قوله: «لاَ يَهْدِيهِمْ» إلى الحجاج إنما يصحُّ إذا كان الحجاج موجوداً؛ إذ لا حجاج على الكفر. وعن الثاني: أن تلك الزيادة، إذا كانت ممتنعةً في حقِّهم عقلاً، لم يصحَّ أن يقال: إنه تبارك وتعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تبارك وتعالى لا يجمع بين الضِّدَّين، فلا يجمع بين الوجود والعدم. وعن الثالث: أنه لم يهدهم للثواب ولم يجز للجنة ذكر فيبعد صرف اللَّفظ إليهما، بل اللائق بسياق الآية الكريمة أن يقال: إنه تعالى لما أخبر أن الدليل، لمَّا بلغ في الظهور والحجَّة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عن سماعه، إلاَّ أن الله تعالى لم يقدِّر له الاهتداء، لم ينفعه ذلك الدليل الظَّاهر، ونظير هذا التفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الأنعام: 111] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب