الباحث القرآني

(قوم إبراهيم، ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به، فيكون هذا تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يجده) من تكذيب قومه. و" إن ربك لهو العزيز الرحيم " أي: أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا. قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ الآيات. لما قصَّ على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خبر موسى وإبراهيم - عليهما السلام - تسلية له مما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره، لأنه دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك كذبه قومه. قوله: «كَذَّبَتْ» إنما أَنتَ فعل القوم لأنه مؤنث بدليل تصغير «القوم» على (قُوَيْمَة) وقيل: لأن القوم بمعنى أُمَّةٍ، ولما كانت آحاده عقلاء ذكوراً وإناثاً عاد الضمير عليه باعتبار تغليب الذكور، فقيل: لهم أخوهم. وحكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين: أحدهما: أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف من حيث المعنى؛ لأن كل واحد من المرسلين جاء بما جاء به الآخر، فلذلك حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين. وثانيهما: أن قوم نوح كذبوا جميع رسل الله، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة. قوله: «أَخُوهُمْ» لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بني تميم. يريدون يا واحداً منهم، فهو أخوهم في النسب لا في الدين «أَلاَ تَتَّقُونَ» أي: عقاب الله، فحذف مفعول (تَتَّقُونَ) . ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أي: على الوحي، وكان مشهوراً فيهم بالأمانة كمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قريش، فكأنه قال: كنتُ أميناً من قبل، فكيف تتهمونني اليوم؟ ثم قال: «فاتَّقُوا الله» بطاعته وعبادته «وأَطِيْعُون» فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد، ﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي: على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة. لئلا يظن به أنه دعاهم رغبة في الدنيا، ثم قال: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ . فإن قيل: فلماذا كرر الأمر بالتقوى؟ فالجواب: لأنه في الأول أراد: ألا تتقون مخالفتي، وأنا رسول الله، وفي الثاني: ألا تتقون مخالفتي ولست آخذاً منكم أجراً، فهو في المعنى مختلف، ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً، ألا تتقي الله وقد علمتك كبيراً. وإنما قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله علة لطاعته، فقدم العلة على المعلول. قوله ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ «وَاتَّبَعَ» جملة حالية من كاف «لك» . قال الزمخشري: والواو للحال، وحقها أن يضمر بعدها (قد) وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة: «وَأَتْبَاعُكَ» مرفوعاً جمع تابع «كَصَاحِبٍ وَأَصْحَاب» أو تَبيع ك «شَرِيْف وأَشْرَاف» ، أو «تبع» ك (برم وأَبْرام) وفي رفعه وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ، و «الأَرْذَلُونَ» خبره، والجملة حالية أيضاً. والثاني: أنه عطف على الضمير المرفوع في «نُؤْمِنُ» ، وحسَّنَ ذلك الفصل بالجار، و «الأَرْذَلُونَ» صفته. وقرأ اليمانيُّ: «وأَتْبَاعِكَ» بالجر عطفاً على الكاف في «ذَلِكَ» وهو ضعيف أو ممنوع عند البصريين، وعلى هذا فيرتفع «الأَرْذَلُونَ» على خبر ابتداء مضمر، أي: هم الأرذلون وقد تقدم مادّةُ «الأَرْذَلِ» في هود. فصل الرذالة: الخِسَّة والذِّلة، وإنما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم وقلة نصيبهم في الدنيا. وقيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحِجَامَة. وهذه الشبهة في غاية الركاكة، لأن نوحاً - عليه السلام - بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها، فأجابهم نوح عنه بالجواب الحق، وهو قوله: ﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء، إنما كُلِّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم. قوله: «وَمَا عِلْمِي» يجوز في «مَا» وجهان: أظهرهما: أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء، و «عِلْمِي» خبرها، والباء متعلقة به. والثاني: أنها نافية، والباء متعلقة ب «علمي» أيضاً، قاله الحوفي. ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلام به (جملة) . قوله: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي﴾ «إِنْ» نافية، أي: ما حسابهم إلا على ربي، ومعناه: لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى. قوله: «لَوْ تَشْعُرُوْن» جوابها محذوف، ومفعول «تشعرون» أيضاً، والمعنى «لَوْ تَشْعُرُونَ» تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم. قال الزجاج: الصناعات لا تَضُرُّ في الدِّيَانَاتِ. وقيل: معناه: إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم، ويوفقهم ويخذلكم. وقرأ الأعرج وأبو زُرعة: «لَوْ يَشْعُرُونَ» بياء الغيبة، هو التفات، ولا يحسُنُ عَوْدُه على المؤمنين. قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين﴾ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم فبيّن أن الدين يمنعه عن طردهم، وقد آمنوا به، وبيَّن أن الغرض من تحمل الرسالة كونه نذيراً: فقال: ﴿إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: إني أُخَوِّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، فلما أجابهم بهذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا: ﴿لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المجرمين﴾ . قال مقاتل والكلبي: من المقتولين بالحجارة. وقال الضحاك: من الشمئومين. فعند ذلك حصل اليأس لنوح من فلاحهم، وقال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ . وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة، ولكنه أراد: لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك: ﴿فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ أي: فاحكم بيني وبينهم. و «فَتْحاً» يجوز أن يكون مفعولاً به بمعنى المفتوح، وان يكون مصدراً مؤكداً. والفَتَاحَةُ: الحكومة. والفَتَّاح: الحكم، لأنه يفتح المستغلق. والمراد إنزال العقوبة عليهم لقوله عقيبه: «وَنَجِّنِي» ، ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى. قوله: «وَنَجِّنِي» المُنجَّى «منه محذوف لفهم المعنى، أي: مما يَحِلُّ بقومي، و» مِنَ المُؤْمِنِينَ» بيان لقوله: «مَنْ مَعِيَ» . قوله: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون﴾ . قال الزمخشري: الفُلك: السفينة، واحدها: فُلْك، قال الله تعالى: ﴿وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ﴾ [النحل: 14] فالواحد بوزن (قُفْل) والجمع بوزن (أًسْد) وَالمَشْحُون: «المَمْلُوء المُوقَر» ، يقال: شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورجَالاً أي ملأها والشَّحْنَاء: العداغوة لأنهما تملأ الصدور إحناً. والفُلْك هنا مفرد بدليل وصفه بالمرفد، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة. فصل دلَّت الآية على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن الفك امتلأ بهم وبما صحبهم من الحيوانات، ثم إنه تعالى بعد أن نجاهم أغرق الباقين فقال: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب