الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى﴾ الآية، قال المفسرون كان ابن عمه، لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى ابنُ عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق: كان قارون عم موسى كان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون، ولكنه نافق كما نافق السَّامري وكان يسمى المنوَّر لحسن صورته. وقال ابن عباس: إنه كان ابن خالته، فبغى عليهم، وقيل: كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل، وكان يبغي عليهم ويظلمهم، وقال قتادة: «بَغَى عَلَيْهِمْ» بكثرة المال (ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء) . وقال الضحاك: بغى عليهم بالشرك، وقال القفال: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده، وقال ابن عباس: تكبّر عليهم وتجبر، وقال الكلبي: حسد هارون على الحبورة، وروي أن موسى عليه السلام لما قطع الله له البحر، وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة والحبورة وكان له القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة، فوجد قارون لذلك في نفسه، وقال يا موسى لك الرسالة لهارون الحبورة، ولست في شيء، لا أصبر أنا على هذا، فقال موسى: والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله فقال قارون له: فوالله لا أصدِّقك أبداً حتى تأتيني بآية يعرف بها أن جعل ذلك لهارون، قال: فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل ان يجيء كلُّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها، فألقاها موسى عليه السلام في قبة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى ربه أن يريهم بيان ذلك، فباتوا يحرسون عصيهم، فأصحبت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز، فقال موسى لقارون: ألا ترى ما صنع الله لهارون، فقال: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، فاعتزل قارون ومعه ناس كثيرة وولي هارون الحبوة والمذبح والقربان، وكانت بنو إسرائيل يأتون بهَدَايَاهُمْ إلى هارون فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتَّبَع من بني إسرائيل، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنَّ قارُونَ كانَ من السَّبْعِينَ المُخْتَارَة الَّذِينَ سَمِعُوا كلامَ اللَّه» قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ ما موصولة بمعنى الذي صلتها (إنَّ) وما في حيّزها ولهذا كسرت ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع الوصل بإنَّ وكان يستقبح ذلك عنهم، يعني لوجوده في القرآن، والمفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الذي يفتح به الباب قاله قتادة ومجاهد وجماعة، وقيل: مفاتحه خزائنه كقوله ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب﴾ [الأنعام: 59] أي: خزائنه. قوله: «لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ» فيها وجهان: أحدهما: بأن الباء للتعدية، كالهمزة ولا قلب في الكلام، والمعنى: لتُنيء المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول: أَجَأْتُهُ وَجئْتُ به، وأَذْهَبْتُه وَذَهَبْتُ به، ومعنى ناء بكذا: نهض به بثقل، قال: 4017 - تَنُوءُ بِأُخْرَاهَا فَلأْياً قِيَامُهَا ... وَتَمْشي الهَوَيْنَا عن قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ وقال أبو زيد: نُؤْتُ بالعمل أي: نهضت به، قال: 4018 - إذَا وَجَدْنَا خَلْفاً بِئْسَ الخَلَفْ ... عَبْداً إذَا مَا نَاءَ بالحِمْلِ وَقَفْ وفسره الزمخشري بالأثقال، قال: يقال: ناء به الحمل حتى أثقله وأماله، وعليه ينطبق المعنى أي: لتثقل المفاتح العصبة. والثاني: قال أبو عبيدة إنَّ في الكلام قلباً، والأصل: لتنوء العصبة بالمفاتح أي: لتنهض بها لقولهم: عرضت لناقة على الحوض، وتقدم الكلام في القلب وأن فيه ثلاثة مذاهب، وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء بالياء من تحت والتذكير، لأنه راعى المضاف المحذوف، إذ التقدير حملها أو ثثقلها، وقيل الضمير في «مَفَاتِحَه» ل «قَارُونَ» فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير، كقولهم: ذهبت أهل اليمامة، قاله الزمخشري؛ يعني كما اكتسب «أَهْل» التأنيث اكتسب هذا التذكير، و «العُصْبَةُ» : الجماعة الكثيرة، والعصابة مثلها، قال مجاهد: ما بين العشرة إلى الأربعين؛ لقول إخوة يوسف ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ [يوسف: 8] وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم وقيل: أربعون رجلاً وقيل سبعون روي عن ابن عباس: كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال، وروى جرير عن منصور عن خيثمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح منها كنز، وطعن بعضهم في هذا القول من وجهين الأول: انَّ مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكان لها أعداد قليل من المفاتيح، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح؟ الثاني: أن المكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتح. وأجيب عن الأول أن المال إذا كان من جنس (العروض لا من جسن النقد) جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد، وأيضاً أن قولهم تلك المفاتح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن، فلا تقبل هذه الرواية، وعن الثاني أن الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق وحمل ابن عباس والحسن المفاتح على نفس المال وهذا أبين، قثال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء، وقال أبو مسلم المراد من المفاتح العلم والإحاطة، كقوله تعالى ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: 59] والمراد: آتيناه من الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ما يتعب القائمين أن يحفظوها. قوله: «إذْ قَالَ» فيه أوجه: أن يكون معمولاً ل «تَنُوءُ» قاله الزمخشري، أو ل «بَغَى» قاله ابن عطية، وردَّه أبو حيان بأن المعنى ليس على التقييد بهذا الوقت أو ل «آتَيْنَاهُ» قاله أبو البقاء وردَّه أبو حيان بأن الإيتاء لم يكن ذلك الوقت. أو لمحذوف، فقدَّره، أبو البقاء: بغى عليهم وهذا ينبغي أن يردّ بما ردَّ به قول ابن عطية. وقدَّره الطبري: اذكر وقدره أبو حيان أظهر الفرح وهو مناسب، واعلم أنه كان في قومه من وعظه بأمور: أحدها: قوله: لاَ تَفْرَح إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ، وقرى الفارحين - حكاها عيسى الحجازي - والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة، قال بعضهم: إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها، وأمَّا من يعلم أنَّه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح. وما أحسن قول المتنبي: 4019 - أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ (وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى) ﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ﴾ [الحديد: 23] قال ابن عباس: كان فرحه ذلك شركاً، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى. وثانيها: قوله: ﴿وابتغ فِيمَآ آتَاكَ﴾ يجوز أن يتعلق «فِيمَا آتَاكَ» ب «ابْتَغِ» ، وإن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أَي: متقلباً «فِيمَا آتاكَ» . و «مَا» مصدرية أو بمعنى الذي. والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة، والظاهر أنه كان مقرّاً بالآخرة. وثالثها: قوله: ﴿وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا﴾ قال مجاهد وابن زيد لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة وقال السُّدِّي: بالصدقة وصلة الرحم وقال علي ألاَّ تنسى صحتك وقوة شبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، «قال عليه السلام لرجل وهو يعظه:» اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِك، وصحَّتك قبل سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغك قَبْلَ شُغْلِكَ، وحَيَاتكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» قوله: ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ : أي: إحساناً كإحسانه إليك، أي: أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته، وقيل: أحسن إلى الله إليك، وقيل إنه لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء. قوله: ﴿وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض﴾ ولا تطلب الفساد في الأرض، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض، وقيل المراد ماكان عليه من الظلم والبغي، و «في الأَرْض» يجوز أن يتعلق ب» تَبْغ «أو ب» الفَسَادِ «أو بمحذوف على أنه حال وهو بعيد. ثم قال: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾ ، قيل: إن هذا القائل هو موسى عليه السلام؛ وقيل: بل مؤمنو قومه. وقوله:» عِنْدي» إما ظرف ل «أُوتِيته» ، وإما صفة للعلم. فصل قال قارون: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا﴾ أي: على فضلٍ وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره، وقال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام يعلم عليم الكيمياء (أنزل الله عليه علمه من السماء) فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقناء ثلثه وعلم قارون ثلث، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه. وكان ذلك سبب أمواله. وقيل: ﴿على عِلْمٍ عنديا﴾ بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب ثم أجاب الله عن كلامه بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون﴾ الكافرة ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ للأموال أو أكثر جماعة وعدداً. فقوله ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ﴾ يجوز أن يكون هذا إثباتاً لعلمه بأن الله قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قرأه في التوراة وأخبر به موسى وسمعه من حفاظ التواريخ؛ كأنه قيل: أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك لأنه لما قال: ﴿أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا﴾ فتصلف بالعلم وتعظم به قيل مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه. والمعنى أنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافاً. قوله: ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ﴾ من موصولة أو نكرة موصوفة وهو في موضع المفعول ب «أهلك» ، و «مِنْ قَبْلِهِ» متعلق به، و «مِنَ القُرُونِ» يجوز فيه ذلك ويجوز أن يكون حالاً من ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ﴾ . قوله: «وَلاَ يُسْأَلُ» هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت، ورفع الفعل، وقرأ ابو جعفر «وَلاَ تُسْأَل» بالتاء من فوق والجزم وابن سيرين وأبو العالية كذلك إلا أنه مبني للفاعل وهو المخاطب، قال ابن أبي إسحاق: لا يجوز ذلك حتى ينصب «المُجْرِمِين» ، قال صاحب اللوامح: هذا هو الظاهر إلاَّ أنَّه لم يبلغني فيه شيء، فإن تركها مرفوعاً فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون «المُجْرِمُونَ» خبر مبتدأ محذوف أي هم المجرمون. الثاني: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في «ذُنُبوبِهِمْ» لأنهما مرفوعاً المحل، يعني أن «ذُنُوباً» مصدر مضاف لفاعله، قال فحمل المجرمون على الأصل كما تقدم في قراءة ﴿مَثَلاً مَّا بَعُوضَةٍ﴾ بجر بعوضة، وكان قد خرجها على أن الأصل: يضرب مثل بعوضةٍ، وهذا تعسف كثير فلا ينبغي أن يقرأ ابن سيرين وأبو العالية إلا «المُجْرِمِينَ» بالياء فقط وإنما ترك نقلها لظهوره. قوله: ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون﴾ قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال، وقال مجاهد يعني لا تسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم، وقال الحسن: لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وقيل: إن المراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكنيتها، لأن الله تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى لاسؤال، فإن قيل: كيف الجمع بينه وبين قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] فالجواب: يحمل ذلك على وقتين كما قررناه. وقال أبو مسلم: السؤال قد يكون للمحاسبة، وقد يكون للتقريع والتوبيخ، وقد يكون للاستعتاب، وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ [النحل: 84] ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: 35، 36] . قوله: «فِي زينَتِهِ» إما متعلق ب «خَرَج» ، وإما بمحذوف على أنه حال من فاعل خرج.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب