الباحث القرآني

لما اذن في مضارة الزوجات إذَا أتبني بفاحشة مبينة بين في هذه الاية تحريم المضارة في غير حال الإتيان بالفاحشة؛ وذلك لأن الرجل إذا مال إلى التَّزَوُّج بامرأة أخرى، وزمى زوجته بنفسه بالفاحشة حتى يُلْجِئَها إلى الافتداء منه بما أعْطاهَا ليصرفه في تزوج المرأة التي يريدها، فقال تعالى ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ . قوله: ﴿مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ ظرف منصوب بالاستبدال، والمراد بالزوج هنا الجمع، أيْ: فإن أردتم استبدال أزواج مكان أزواج وجاز ذلك [لدلالة] جمع المستبدلين، إذ لا يتوهم اشتراك المخاطبين في زوج واحد مكان زوج واحد، ولإرادة معنى الجمع عاد الضمير من قوله ﴿إِحْدَاهُنَّ﴾ على «زوج» جمعاً. [و] التي نهى عن الأخذ منها في المستبدل مكانها؛ لأنها آخذة منه بدليل قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ وهذا إنَّمَا هو في القديمة لا في المستحدثة، وقال: ﴿إِحْدَاهُنَّ﴾ ليدل على أنه قوله ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ المراد منه: وآتى كل واحد منكم إحداهن أي: إحدى الأزواج [ولم يقل: «آتيتموهن قنطاراً، فدَلَّ [على] لفظ إحداهن» . على أنَّ الضمير المراد استبدال أزواج مكان أزواج فأرِيدَ بالمفرد هنا الجمع، لدلالة ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ ، واُرِيدَ بقوله: «وآتيتم كل واحد واحد» لدلالة إحداهن - وهي مفردة - على ذلك، ولا يَدُلُّ على هذا المعنى البليغ بأوجز، ولا أفصح من هذا التركيب، وقد تقدم معنى القنطار واشتقاقه في «آل عمران» والضمير في «منه» عائد على قنطار. وقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «آتيتم إحداهن» بوصل ألف إحدى، كما قرأ «إنها لإحدى الكبر» ، حذف الهمزة تحقيقاً كقوله: [الرجز] 1771 - إنء لَمٍ اُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعَا ... وقد طول أبُو البَقَاءِ هنا، ولم يأتِ بطائلٍ فقال: وفي قوله: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ إشكالان: أحدهما: أنه جمع الضمير والمتقدم زوجان. والثاني: أن التي يريد أن يستبدل بها هي التي تكون قد أعطاها مالاً، فَنَهَاهُ عن أخذه، فَأَمَّا التي يريد أن يستحدث بها فلم يكن أعطاها شيئاً حَتَّى ينهى عن خذه، ويتأيد ذلك بقوله ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ . والجواب عن الأول: أنَّ المراد بالزوج الجمع؛ لأن الخطاب لجماعة الرجاال، وكل منهم [قد] يريد الاستبدال، ويجوز أنْ يكون جمع؛ لأن التي يريد أنْ يستحدثها يفضي حالها إلى أن تكون زوجاً و [أن] يريد أن يستبدل بها كما استبدل بالأولى فجمع على هذا المعنى. وأمَّا الإشكال الثاني ففيه جوابان: احدُهُمَا: انَّه وضع الظاهر موضع المضمر، والأصل «وآتوتموهن» . والثاني: أن المستبدل بها مبهمة فقال «إحداهن» إذْ لم يتعين حتى يرجع الضمير إليها، وقد ذكرنا نحواً من هذا في قوله «فتذكر إحداهما الأخرى» انتهى. قال شهابُ الدِّينِ: وفي قوله «وضع الظاهر موضع المضمر» نظر؛ لأنَّهُ لو كان الأصل كذلك لأوهَمَ أنَّ الجميع آتوا الأزْوَاجَ قنطاراً كما لم تقدم وليس كذلك. فصل [حكم المغالاة في المهر] قالوا: دَلَّتِ الآية على جواز المغالاة في المهر. رُوِيَ أنَّ عمر بن الخطاب قال على المِنْبَرِ: «ألاَ لاَ تُغَالُوا في مهور نِسَائكُم» فقامت امرأة فقالت: يا ابن الخطاب الله يعطينا وَأنْتَ تمنع، وتلت الآية فقال عمر: كلّ الناس أفْقَهُ مِنْكَ يا عكرُ، ورجع عن ذلك. قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة؛ لأن قوله ﴿إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ لا يدل على جواز إيتاء القنطار، كما أن قوله ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] لا يدل على حصول الآلهة فالحاصل أنَّهُ لا يلزم مكن جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من قُتل له قتيلٌ فأهله بين خيرتين» ولم يلزم منه جواز القتل، وقد يقول الرجل: لو كان الإله جسماً لكان محدثاً، وهذا حق، ولا يلزم منه أن [قولنا] الإله جسم حق. فصل يدخل في الآية ما إذَا كان آتَاهَا مهرها، وما إذا لم يؤتها؛ لأنه إذَا أوقع العقد على الصداق فقد آتاها ذلك الصداق في حكم الله فلا فرق بين ما إذا آتاها الصداق حساً، وبين ما إذا لم يؤتها. فصل [في الخلوة الصحيحة هل تقرر المهر؟] احتج ابُو بكر الرازي بهذه الآيةَ على أنَّ الخلوة الصحيحة تقرر المهر. قال: لأنَّ اللهَ تعالى منع الزوج من أنْ يأخذ منها شيئاً من المهر، وهذا المنع مطلق ترك العمل قبل الخلوة؛ فوجب أن يكون معمولاً به بعد الخلوة. قال: ولا يجوز أن يقال إنَّه مخصوص بقوله تعالى: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرر: 237] لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس. فقال عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: المراد من المسيس: الخلوة. وقال عبد الله: هو الجماع إذَا صار مختلفاً فيه امتنع جعله مخصصاً لعموم الآية. وأجيب أنَّ هذه الآية هنا مختصة بعد الجماع لقوله: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ وإفضاء بعضهم إلى بعض، هو الجماع على ما سيأتي. فصل [سوء العشرة هل يوجب العوض] سُوءُ العشرة إنْ كان من قِبَلِ الزوجة حَلَّ أخذ بدل الخُلْعِ؛ لقوله: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ وإن كان من قِبل الزوج، كثرِهَ له أن يأخذ من مهرها شيئاً؛ لأنه نهى في هذه الآية عن الأخذ، ثم إن خالف وفعل ملك بدل الخُلْعِ كما أنَّ البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك. قوله: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ استفهام إنكاري أي: اتفعلونه مع قبحه، وفي نصب ﴿بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ وجهان: أحدهما: أنها منصوبان على المفعول من أجله أي لبهتانكم وإثمكم. قال الزمخشريُّ: فإن لم يكن عَرَضاً كقولك: قعد عن القتال جبناً. وقيل: انتصب ينزع الخافض أي ببهتان. والثاني: أنَّهُمَا مصدران في موضع الحال، وفي صاحبهما وجهان: أظهرهُمَا: أنَّه الفاعل في أتأخذونه أي: باهتين وآثمين. والثاني: أنَّهُ المفعول أي: أتأخذونه مبهتاً محيراً لشنعته، وقبح الأحدوثة عنه، والتقدير: تصيبون في أخذه بهتاناً، والبُهْتَانُ فُعْلان من البُهْتِ، وهو في اللغة: الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على وجه المكابرة، وأصله من بهت الرَّجُلُ إذا تحيَّر فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمه ثم جُعِلَ كُلُّ باطل يتحير من بطلانه بهتاناً، ومنه الحديث: «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بَهَتَّهُ» ولقد تقدم الكلام عليه في البقرة. وفي تسمية هذا الأخذ «بهتانا» وجوه: أحدها: انَّهُ تَعَالى لما فرض لها ذلك المهر فأخذهُ؛ كَأنَّهُ يقول: ليس ذلك بفرض فيكون بُهْتَاناً. وثانيها: أنَّ العقد يستلزم مهراً وتكفل بالعقد تسليم ذلك المهر إيلها ولا يأخذه منها، صار ذلك القول الذي عقد به العقد بهتاناً. وثالثها: أنا ذكرنا أنه كان من عادتهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة، حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر، فلما كان ذلك واقعاً على هذا الوَجْهِ في الأغلب جعل كأنه أخذه بهتاناً [وإثماً] . [رابعها: أنَّه عقاب البهتان والإثم المبين فهو كقوله: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ [النساء: 10] . وقوله: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ تقدَّمَ الكلام في كيف عند قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ [البقرة: 28] . قوله: ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ﴾ الواو للحال، والجملة بعدها: في محل نصب، وأتى ب «قد» ليقرب الماضي من الحال، وكذلك «أخذن» وقد مقدرة معه لتقدم ذكرها، وأصل أفْضَى ذهب إلى فضاه أي ناحية سعته، يقال: فَضَى يَفْضُو فَضْواً، وأفضى: عن ياء أصلها واو. وقال اللَّيْثُ: أفْضَى فلان إلى فلان أي: وصل إليه، وأصله أنه صار في فضائه وفرجته. وقال غيره: اصل الإفْضَاءِ الوصول إلى الشيء من غير واسطة. وللمفسرين في هذا الإفضاء قولان: أحدهُمَا: قال ابن عباس: ومجاهد، والسدي أنَّهُ كناية عن الجماع وهو اختيار الزجاج، وابن قتيبة، ومذهب الشافعيّ؛ لأنَّ عنده أن الزوج إذا أطلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر، وإنْ خلا بها. والثاني: أنَّ الإفضاء هو الخلوة وإن لم يجامعها. وقال الكلبي: الإفضاء ان يكون معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، وهذا اختيار الفراء، ومذهب أبي حنيفةَ؛ لأن الخلوةَ في الأنكحة الصحيحة تقرر المهر، واسْتَدَلُّوا على القول الأوَّّلِ بوجوهٍ: أحدها: ما تَقَدَّمَ عن الليث: أنه يصير في فرجته وفضائه، وهذا المعنى إنَّمَا يحصل في الحقيقة عند الجماع. وثانيها: انه تعالى ذكر في معرض التعجب فقال ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبّة، وذلك لا يحصل بمجرد الخلوة وإنَّمَا يحصل بالجماع، فيحمل عليه. وثالثها: أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مفسراً بفعل منه ينتهي إليه؛ لأن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليبس كذلك؛ لأن عند الخلوة المحضة لم يصل كل واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله: ﴿أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ بمجرد الخلوة. وإنْ قيل: إذا اضطجعها في لحافٍ واحد ملامساً فقد الإفْضَاء مِنْ بعضهم إلى بعض؛ فوجب أن يكون ذلك كافياً وأنتم لا تقولون به. فالجَوَابُ أنَّ القائل بذلك قائلان: قائل يقول: المهر لا يتقرر إلاَّ بالجماع، وآخر يقول: يتقرَّر بمجرد الخلوة ولا يقولُ أحَدٌ إنَّه يتقرر بالملامسة والمضاجعة فَبَطَلَ هذا القول بالإجماع، ولم يبق في تفسير الإفضاء إلاَّ أحد أمرين: إمَّا الجماع، وإمَّا الخلوةَ، وقد أبطلنا القول بالخلوة بما بيناه فلم يبق إلاَّ أن المراد بالإفْضَاءِ الجماع. ورابعها: أنَّ المهر قَبْلَ الخُلْوَةِ ما كان مُتَقَرِّراً، وقدو علّقَ الشَّرع تقريره على إفضاء البعض إلى البعض، وقد اشتبه في المُرَادِ بهذا الإفضاء هل هو الخُلوة، أو الجماع، وإذَا وقع الشكُّ وجب بقاء ما كان على ما كان والأصل براءة الذمة. احتج من قال: بأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر وتُوجِبُ العدةَ دخل بها أوْ لم يدخل بها بما رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عن [ابن] ثوبان، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأةٍ ونَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ» وقال عمر: إذَا أغْلَقَ باباً وأرخى ستراً وأرى عورة فقد وجب الصداق، وقضى الخلفاء الراشدون أنَّ من أغلق باباً، وأرخى ستراً فقد وجب الصداق وعليها العدة. قوله ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُ﴾ في منكم زوجان: أظهرهما: أنه متعلق ب «أخذن» ، وأجاز فيه أبُو الْبَقَاءِ أن يكون حالاً من ميثاقاً قدّم عليه كأنه لما رأى أنَّه يجوز أن يكون صفة لو تأخر أجاز ذلك وهو ضعيف. قال الحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة، والسدي، وعكرمة، والفراء: المراد بالميثاق هو قول الولي عند العقد: زوّجْتُكَها على ما أخذ للنساء على الرجال من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وقال الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ ومُجَاهِدٌ: في كلمة النِّكَاحش المعقود عليها على الصداق وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ فَإنَّكُمْ أخَذْتُمُوهُنَّ بأمَانَةِ اللهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ» . وقيل المراد بالميثاق الغليظ هو: إفْضَاءُ بعضهم إلى بعض وصفه بالغلظة لعظمة ما يحدث بين الزوجين من الاتحاد والألفة والامتزاج.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب