الباحث القرآني

لَمَّا أمَر اللَّه تعالى بِحِفْظِ النَّفْسِ في قوله «عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ» ، أمر بِحفْظِ المالِ في هذه الآية. قال القُرْطُبِي: وردَ لَفْظُ الشَّهَادة في القُرآنَ على أنْوَاع مُخْتَلِفَةٍ: الأول: بِمَعْنَى الحُضُور، قال تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] . الثاني: بمعنى قَضَى، أي: أعلم قال تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: 18] . قال أبو عُبَيْدَة: الثالث: بمعنى أقرَّ، قال تعالى: ﴿والملاائكة يَشْهَدُونَ﴾ [النساء: 166] . الرابع: شَهِدَ بمعنى حَكَم، قال تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ [يوسف: 26] . الخامس: شَهِدَ بمعنى حَلَف، قال تعالى ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ﴾ [النور: 6] أي: أنْ يَشْهَدَ أرْبَع شَهَادَاتٍ باللَّهِ. السادس: شَهِدَ بمعنى وصَّى، قال تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ ، وقيل مَعْنَاهَا هنا الحُضُور للوصيَّة، يقال: «شَهِدْتُ وصيَّةَ فلانٍ» أي: حَضَرْتُ، وذهَب الطَّبَري إلى أنَّ الشَّهَادةَ بِمَعْنَى اليمين، فيكُونُ المَعْنَى: يَمِينُ مَا بَيْنَكُم أنْ يَحْلِفَ اثْنَان، ويَدُلُّ على ذَلِك، أنَّهُ يُعْلَمُ للَّه حُكْم يَجِبُ فيه على الشَّاهِدِ يَمِينٌ، وهذا القَوْلُ اخْتَارَهُ القَفَّال، وسُمِّيتِ اليَمِينُ شَهَادَة؛ لأنَّها يثبت بِهَا الحُكْمُ بِمَا يَثْبُتُ بالشَّهَادَةِ، واخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّة هُنَا أنَّهَا الشَّهَادة التي تُحْفَظُ فَتُؤدَّى. * فصل في سبب نزول الآية وسبَبُ نُزُولِها مَا رُوِي: أنَّ تَمِيمَ بن أوْسٍ الدَّارِيِّ وعَدِيّ بن زَيْدٍ كَانَا نَصْرانيينِ، خرجا من المدينةِ إلى الشَّامِ للتِّجَارَة، ومَعهُمَا بديل مَوْلَى عَمْرو بن العَاص، وكان مُسْلِماً مُهَاجراً، فلمَّا قَدِمُوا إلى الشَّام مَرِضَ بَدِيل، فكَتَبَ كِتَاباً فيه جَمِيعُ ما مَعَهُ من المَتَاعِ، وألْقَاهُ في جَوَالِق، ولم يُخبِر صَاحِبَيْه بِذلِك، فلمَّا اشْتَدّ مَرَضُهُ، أوْصَى إلى تَميم وعَدِيّ، وأَمَرَهُمَا أن يَدْفَعَا مَتَاعهُ إذا رجعا إلى أهْلِهِ، ومات «بَدِيل» فَفَتَّشَا متَاعَهُ، وأخَذَا مِنْهُ إناء فضَّةٍ مَنْقُوشاً بالذَّهَبِ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ من فِضَّةٍ فغيَّبَاه، ثم قَضَيَا حَاجَتَهُمَا وانْصَرَفا إلى المدينةِ، فَدَفَعا المتاع إلى أهْلِ البَيْتِ، فَفَتَّشُوا وأصَابُوا الصَّحِيفَة، فيها تَسْمِيَةُ ما كان مَعَهُ، فَجَاءوا تَمِيماً وعَدِيًّا، فقالُوا: هل باع صَاحِبُنَا شَيْئاً من مَتَاعِهِ؟ قالاَ: لاَ، قالوا: فهل اتَّجَرَ تِجَارَةً؟ قَالاَ: لاَ، قالُوا: فَهَلْ طَالَ مَرَضُهُ فأنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ؟ قالاَ: لاَ، فقالُوا: إنَّا وَجَدْنَا في متاعِهِ صَحِيفَةً فيها تَسْمِيَةُ ما مَعَهُ، وإنَّا قَدْ فَقَدْنَا منها إنَاءً من فِضَّةٍ مُمَوَّهاً بالذَّهِبِ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ فِضَّة فقالا: ما نَدْري، إنَّما أوْصَى لنا بِشَيْء، وأمَرَنَا أن نَدْفعه إلَيْكم فَدَفَعْنَاه، وما لنا عِلْمٌ بالإنَاء، فاخْتَصَمُوا إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأصَرَّا على الإنْكَار، وحَلَفَا فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية. قوله تعالى: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ : هذه الآية وما بعدها من أشْكَلِ القُرآنِ حُكْماً وإعْراباً وتَفْسيراً، ولم يَزَلِ العلماءُ يستشكلُونَها حتى قال مكيُّ بنُ أبي طالبٍ في كتابه المسمَّى ب «الكشف» : «هذه الآيةُ في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصْعَب آي في القُرْآن وأشْكلِها، قال: ويحتملُ أن يُبْسَطَ ما فيها من العلوم في ثلاثينَ ورقةً أو أكثر» ؛ قال: «وقد ذكرنَاهَا مشروحةً في كتاب مفردٍ» ، وقال ابن عطية: «وهذا كلامُ من لم يَقَعْ له الثَّلَجُ في تَفْسيرها، وذلك بَيِّنٌ من كتابه» ، وقال السَّخَاوِيُّ: «لم أر أحداً من العلماء تَخَلَّصَ كلامُه فيها من أولها إلى آخرها» ، وقال الواحديُّ: «وهذه الآية وما بعدها من أعوص ما في القرآن معنًى وإعراباً وتفسيراً» قال شهاب الدين: وأنا أستعينُ الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفةِ تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع، وبالله الحول والقوة. قرأ الجمهورُ «شَهَادَة بَيْنِكُمْ» برفع «شَهَادةُ» مضافةً ل «بَيْنِكُمْ» ، وقرأ الحسنُ والأعرجُ والشَّعْبِيُّ برفعها منوَّنةً «بَيْنَكُمْ» نصباً، والسُّلَميُّ والحسنُ والأعرجُ - في رواية عنهما -: «شَهَادَةً» منونَّةً منصوبة، «بَيْنَكُمْ» نصباً، فأمَّا قراءة الجمهور، ففي تخريجها خمسةُ أوجه: أحدها: أنها مرفوعةٌ بالابتداءِ، وخبرُها «اثْنَانِ» ، ولا بدَّ على هذا الوجه من حذفِ مضافٍ: إمَّا من الأوَّل، وإمَّا من الثاني، فتقديرُه من الأول: ذَوَا شَهَادَةِ بَيْنكُمُ اثنانِ، أي صَاحِبَا شهادةِ بينكم اثنانِ، وتقديرُه من الثاني: شهادةُ بينكم شهادةُ اثنين، وإنما اضطررْنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبرُ على شيءٍ واحدٍ؛ لأنَّ الشهادة معنًى، والاثنان جُثَّتَانِ، ولا يجيء التقديران المذكورانِ في نحو: «زَيْدٌ عَدْلٌ» وهما جعله نفس المصدرِ مبالغةً أو وقوعُه موقع اسم الفاعل؛ لأنَّ المعنى يَأبَاهُمَا هنا، إلا أنَّ الواحديَّ نقل عن صاحب «النَّظْم» ؛ أنه قال: «شَهَادَة» مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ الأسْمَاء. يريدُ بالشهادة الشهود؛ كما يقال: رَجُلٌ عَدْلٌ ورِضاً، ورجالٌ عَدْلٌ ورِضاً وزَوْر، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشُّهُود، كان على حذف المضاف، ويكون المعنى: عدَّة شهودٍ بينكم اثنانِ، واستشهد بقوله: ﴿الحج أَشْهُرٌ﴾ [البقرة: 197] ، أي: وقتَ الحجِّ، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل: «الحَجُّ في أشْهُرٍ» ، فعلى ظاهر هذا أنه جعل المصدر نفس الشهود مبالغةً، ولذلك مثله ب «رِجَال عَدْل» ، وفيه نظر. الثاني: أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها محذوفٌ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام، و «اثْنَان» على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو «شهادة» ، والتقدير: فيما فَرَضَ عليْكُمْ أن يشهد اثْنَانِ، كذا قدَّره الزمخشريُّ وهو أحد قولي الزَّجَّاج، وهو ظاهرٌ جدًّا، و «إذَا» على هذين الوجهين ظرف ل «شَهَادَةُ» ، أي ليُشْهَد وقتُ الموت - أي أسبابه - و «حِينَ الوصيَّةِ» على هذه الأوجه؛ فيه ثلاثة أوجه: أوجهها: أنه بدلٌ من «إذَا» ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره، قال: «وفي إبداله منه دليلٌ على وجوب الوصية» . الثاني: أنه منصوبٌ بنَفْسِ الموت، أي: يقع المَوْتُ وقْتَ الوصية، ولا بُدَّ من تأويله بأسباب الموت؛ لأنَّ وقتَ الموتِ الحقيقيِّ لا وصيةَ فيه. الثالث: أنه منصوبٌ ب «حَضَرَ» ، أي: حَضَر أسباب الموتِ حين الوصيَّة. الثالث: أنَّ «شَهَادَةُ» مبتدأ، وخبره: «إذَا حضَر» ، أي: وقوعُ الشهادة في وقتِ حضُورِ الموتِ، و «حِينَ» على ما تقدَّم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً، ولا يجوزُ فيه، والحالةُ هذه: أن يكون ظرفاً للشهادة؛ لئلا يلزمَ الإخبارُ عن الموصول قبل تمامِ صلته، وهو لا يجوزُ؛ لما مرَّ، ولمَّا ذكر أبو حيَّان هذا الوجه، لم يستدركْ هذا، وهو عجيبٌ منه. الرابع: أنَّ «شَهَادَةُ» مبتدأ، وخبرُها «حِين الوصيَّةِ» ، و «إذَا» على هذا منصوبٌ بالشَّهَادَةِ، ولا يجوز أن ينتصب ب «الوصيَّة» ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ المصدر المؤوَّلَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريِّين، ولو كان ظرفاً، وأيضاً: فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأن تقديم المعمول يُؤذِنُ بتقديمِ العامل، والعاملُ لا يتقدَّم، فكذا معمولُه، ولم يجوِّزوا تقديم معمُولِ المضافِ إلَيْه على المضاف إلا في مسألة واحدة، وهي: إذا كان المضافُ لفظةَ «غَيْر» ؛ وأنشدوا: [البسيط] 2061 - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ ... عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ ف «عِنْدِي» منصوبٌ ب «مَكفُور» ؛ قالوا: لأنَّ «غَيْر» بمنزلة «لاَ» ، و «لاَ» يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها، وقد ذكر الزمخشريُّ ذلك آخرَ الفاتحةِ، وذكر أنه يجوزُ «أنَا زَيْداً غَيْرُ ضَارِبٍ» دون «أنَا زَيْداً مِثْلُ ضَارِبٍ» ، و «اثنان» على هذين الوجهين الأخيرين يرتفعان على أحد وجهين: إمَّا الفاعلية أي: «يَشْهَدُ اثْنَانِ» يدل عليه لفظ «شَهَادة» ، وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب «شهادة» أيضاً أي: الشاهدان اثنان. الخامس: أنَّ «شهَادَةُ» مُبْتدأ، و «اثْنَانِ» فاعلٌ سدَّ مَسدَّ الخبَر، ذكره أبُو البقاء وغيره، وهو مذهبُ الفرَّاء، إلا أنَّ الفرَّاء قدَّر الشَّهادةَ واقِعةً موقعَ فِعْلِ الأمْر؛ كأنه قال: «لِيَشْهَدِ اثْنَانِ» ، فجعلُه من باب نِيَابةِ المصْدَرِ عن فِعْل الطَّلَبِ، وهو مثل «الحَمْدُ لله» و ﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ [هود: 69] ؛ من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ ضعيفٌ ردَّه النَّحْوِيُّون، ويخصُّون ذلك بالوصْفِ المعتمد على نَفْيٍ أو استفهامٍ؛ نحو: «أقَائِمٌ أبَواكَ» وعلى هذا المذهب ف «إذَا» و «حِينَ» ظرفان مَنْصُوبان على ما تقرَّر فيهمَا في غير هذا الوجه؛ وقد تَحَصَّلْنا فيما تقدَّم أنَّ رفع «شَهَادَةُ» من وجْهِ واحدٍ؛ وهو الابتداءُ، وفي خبرها خَمْسَة أوجه تقدَّم ذكرُها مُفَصَّلَةً، وأنَّ رفع «اثْنَان» من خَمْسة أوْجُه: الأول: كونه خَبَراً ل «شَهَادَةُ» بالتَّأويل المذكُور. الثاني: أنه فاعلٌ ب «شَهَادَةُ» . الثالث: أنه فاعلٌ ب «يَشْهَدُ» مقدَّراً. الرابع: أنه خبر مُبْتدأ، أي: الشَّاهدان اثْنَانِ. الخامس: أنه فاعلٌ سَدَّ مسدَّ الخبر، وأنَّ في «إذَا» وجهين: إمَّا النَّصْبَ على الظرفيَّة، وإمَّا الرفع على الخَبَرِيَّة ل «شَهَادَةُ» ، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبلُ، وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدَّم في قراءة الجُمْهور من غير فَرْقٍ. وأمَّا قراءةُ النصبِ، ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها - وإليه ذهب ابن جنِّي -: أنها منصوبةٌ بفعل مضمرٍ، و «اثْنَان» مرفوعٌ بذلك الفعل، والتقدير: ليُقِمْ شهادةَ بَيْنكُمُ اثْنَانِ، وتبعه الزمخشريُّ. وقد ردَّ أبو حيان هذا؛ بأن حذف الفعل وإبقاء فاعله، لم يُجِزْهُ النحويون، إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله؛ كقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: 36 - 37] في قراءة ابن عامر وأبي بَكْرٍ، أي: يُسَبِّحُهُ رجال؛ ومثله: [الطويل] 2062 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ وفيه خلافٌ: هل يَنْقاسَ أو لا؟ أو يُجَابَ به نَفْيٌ؛ كقوله: [الطويل] 2063 - تَجَلَّدْتَ حَتَّى قِيلَ: لَمْ يَعْرُ قَلْبَهُ ... مِنَ الوَجْدِ شَيْءٌ قُلْتُ: بَلْ أعْظَمُ الوَجْدِ أي: بَلْ عراه أعظمُ الوجْدِ، وما نحْنُ فيه ليس من الأشياء الثلاثة. الثاني: أن «شَهَادَةً» بدل من اللفظ بفعل، أي: إنها مصدر ناب مناب الفعلِ، فيعملُ عملَه، والتقدير: لِيَشْهد اثْنَانِ، ف «اثْنَانِ» فاعل بالمصدر، لنيابته منابَ الفعلِ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ، على حسبِ الخلاف في أصل المسألة، وإنما قدَّرْتُه «لِيَشْهَدِ اثْنَانِ» ، فأتيتُ به فعلاً مضارعاً مقروناً بلام الأمر، ولم أقدِّرْهُ فِعْلَ أمر بصيغة «افْعَلْ» ؛ كما يُقَدِّرُه النحويُّون في نحو: «ضَرْباً زَيْداً» ، أي: «اضْرِبْ» لأنَّ هذا قد رفع ظاهراً وهو «اثنانِ» ، وصيغةُ «افْعَلْ» لا ترفع إلا ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً؛ ومثلُه قوله: [الطويل] 2065 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... فَنَدْلاً زُرَيْقُ المَالَ نَدْلَ الثَّعَالِبِ ف «زُرَيْقُ» يجوز أن يكون منادًى، أي: يا زُرَيْقُ، والثاني: أنه مرفوع ب «نَدْلاً» على أنه واقعٌ «لِيَنْدَلْ» ، وإنما حُذِف تنوينه؛ لالتقاء الساكنين؛ على حَدِّ قوله: [الطويل] 2066 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا الثالث: أنَّ «شَهَادَةً» بدل من اللفظ بفعلٍ أيضاً، إلا أنَّ هذا الفعل خبريٌّ، وإن كان أقلَّ من الطلبيِّ، نحو: «حَمْداً وشُكْراً لا كُفْراً» ، و «اثْنَانِ» أيضاً فاعلٌ به، تقديرُه: يَشْهَدُ شَهَادَةً اثنانِ، وهذا أحسنُ التخاريجِ المذكُورة في قولِ امرئ القيس: [الطويل] 2067 - وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... «وُقُوفاً» مصدرٌ بدلٌ من فعلٍ خبريٍّ رفع «صَحْبِي» ونصب «مَطِيَّهُمْ» تقديره: وقف صَحْبِي، وقد تقدَّم أنَّ الفرَّاء في قراءة الرفع قدَّرَ أن «شَهَادَة» واقعةٌ موقع فعلٍ، وارتفع «اثْنَان» بها، وقد تقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكون مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر، و «بَيْنَكُمْ» في قراءةِ مَنْ نوَّن «شَهَادَة» نصبٌ على الظرف، وهي واضحةٌ. وأمَّا قراءةُ الجرِّ فيها، فَمِنْ باب الاتِّساعِ في الظُّروفِ، أي: بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ، ومثله: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: 78] وكقوله تعالى: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: 94] فيمن رفع، قال أبو حيان: «وقال الماتُرِيديُّ - وتبعه الرازيُّ -: إنَّ الأصلَ» مَا بَيْنَكُمْ «فحذف» مَا» ، قال الرازيُّ: و «بَيْنَكُمْ» كنايةٌ عن التنازُعِ؛ لأنه إنما يُحْتَاجُ إلى الشهود عند التنازع، وحَذْفُ» مَا «جائزٌ عند ظهوره؛ ونظيرُه كقوله تعالى: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: 94] في قراءة مَنْ نصب» قال أبو حيان: «وحَذفُ» مَا «الموصولةِ غيرُ جائز عند البصريِّين، ومع الإضافة لا يَصِحُّ تقديرُ» مَا «ألبتة، وليس قوله ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: 78] نظيرَ ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: 94] لأن هذا مضافٌ، وذلك باقٍ على ظرفيته فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ» مَا» ؛ بخلاف ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: 78] و «شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ» ؛ فإنه لا يُتَخَيَّلُ فيه تقديرُ «مَا» ؛ لأنَّ الإضافة أخْرَجَتْهُ عن الظرفيَّة وصَيَّرَتْهُ مفعولاً به على السَّعَة» ، قال شهاب الدين: هذا الذي نقله الشيخ عنهما قاله أبو عليٍّ الجُرْجَانِيُّ بعينه، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ ، أي: ما بَيْنكُمْ، و «مَا بَيْنَكُمْ» كنايةٌ عن التنازُع والتشاجر، ثم أضافَ الشهادة إلى التنازعِ؛ لأن الشهودَ إنَّما يُحْتَاجُ إليهم في التنازُعِ الواقعِ فيما بين القوم، والعربُ تُضيفُ الشيْءَ إلى الشيءِ، إذا كان منه بسبب؛ كقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [الرحمن: 46] ، أي: مقامه بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذكر «مَا» و «مَنْ» في الموضِعِ الذي يُحْتَاجُ إليهما فيه؛ كقوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ [الإنسان: 20] أي: ما ثَمَّ، وكقوله: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: 78] و ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: 94] أي ما بَيْنِي، ومَا بَيْنَكُمْ، وقول أبي حَيَّان «لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ» مَا «إلى آخره» ممنوعٌ؛ لانَّ حالة الإضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف، ولا يَلْزمُ من ذلك: أنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى، لا من حيث الإعرابُ؛ نظراً إلى الأصْلِ، وأمَّا حَذْفُ الموصُولِ، فقد تقدَّم تحقيقُه. فصل واخْتَلَفُوا في هَاتَيْن الآيتين، فقالَ قَوْمٌ: هما الشَّاهِدِانِ يَشْهَدَان على وِصيَّةٍ. وقال غَيْرُهُم: هُمَا الوصيَّان؛ لأنَّ الآيَة نَزَلَتْ فيهما؛ ولأنَّه قال: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ﴾ ، ولا يَلْزَمُ الشَّاهِدُ يَمِين، وجَعَلَ الوَصِيَّ اثْنَيْن تَأكيداً، فعلى هذا تكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى: الحُضُور، كقولك: «شَهِدْتُ وصيَّة فُلانٍ» ، بِمَعْنَى: حَضَرتُ وشَهِدْتُ العَيْن، وقوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ [النور: 2] يُريدُ الحُضُور. فصل وقوله: «ذَوا» صفةٌ لاثنين، أي: صاحِبَا عدْلٍ، وكذلك قوله «مِنْكُمْ» صفة أيضاً لاثنين، وقوله: «أوْ آخَرَانِ» نسقٌ على اثنين، و «مِنْ غَيْرِكُمْ» صفةٌ لآخَرَيْنِ، والمراد ب «مِنْكُمْ» من قرابتكم وعترَتِكُم، ومن غيركم من المسلمين الأجانب، وقيل: «مِنْكُمْ» من أهل دينكم، و «مِنْ غَيْرِكُمْ» من أهل الذمة، ورجَّح النحَّاسُ الأولَ، فقال: «هذا يَنْبَنِي على معنًى غامضٍ في العربية، وذلك أنَّ معنى» آخَرَ «في العربية من جنْسِ الأوَّلِ تقولُ:» مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وكَرِيمٍ آخَرَ «ولا يجوز» وخَسِيسٍ آخَرَ «ولا:» مَرَرْتُ بِحِمَارٍ ورَجُلٍ آخَرَ» ، فكذا هاهنا يجب أن يكون «أو آخَرَانِ» : أو عَدْلاَن آخَرَان، والكفارُ لا يكونونَ عُدُولاً» وردَّ أبو حيان ذلك؛ فقال: «أمَّا ما ذكرَهُ من المُثُلِ، فصحيحٌ؛ لأنه مثَّل بتأخير» آخَرَ «، وجعله صفةً لغير جنسِ الأوَّل، وأمَّا الآيةُ، فمن قبيل ما يُقدَّم فيه» آخَر «على الوصف، واندرج» آخَر «في الجنْس الذي قبله، ولا يُعْتَبَرُ وصْفُ جنس الأول، تقول:» مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ وآخَرَ كَافِرٍ، واشْتَرَيْتُ فَرَساً سَابِقاً، وآخَرَ بَطِيئاً «، ولو أخَّرْتَ» آخَرَ «في هذين المثالين، فقلت:» مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ كَافِرٍ آخَرَ «، لم يَجُزْ، وليس الآيةُ من هذا؛ لأن تركيبها ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ ف» آخَرَانِ «من جنسِ قوله» اثْنَانِ» ، ولا سيما إذا قَدَّرْته: «رَجُلانِ اثْنَانِ» ف» آخَرَانِ «هما من جنْس قوله» رَجُلانِ اثْنَانِ» ، ولا يُعْتَبَرُ وصف قوله: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ ، وإن كان مغايراً لقوله «مِنْ غَيْركُمْ» ، كما لا يُعتبر وصفُ الجنْسِ في قولك: «عِنْدِي رَجُلانِ اثْنَانِ مُسْلِمَانِ وآخَرَانِ كَافِرَانِ» ؛ إذ ليس من شرطِ» آخَرَ «إذا تقدَّم أن يكون من جنْس الأول بقيدِ وصفه، وعلى ما ذكرته جاء لسانُ العربِ؛ قال الشاعر: [البسيط] 2068 - كَانُوا فَرِيقَيْنِ يُصْفُونَ الزِّجَاجَ عَلَى ... قُعْسِ الكَوَاهِلِ في أشْدَاقِهَا ضَخَمُ وآخرِينَ تَرَى المَاذِيَّ فَوْقَهُمُ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ أوْ مَا أوْرَثَتْ إرَمُ التقديرُ: كانوا فريقين: فريقاً - أو ناساً - يُصْفُونَ الزجاج، ثم قال:» وآخرين تَرَى الماذِيَّ، ف» آخَرِينَ «من جنْس قولك» فَرِيقاً» ، ولم يعتبره بوصفه بقوله «يُصْفُونَ الزِّجاج» ؛ لأنه قَسَّم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنْسِ» ، قال: «وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُهُ؛ فَضْلاً عَمَّنْ يَعْرفُهُ» . وقوله: «أو» الظاهرُ أنها للتخْيير، وهو واضحٌ على القول بأن معنى «مِنْ غَيْرِكُمْ» : مِنْ غير أقارِبكُمْ من المسلمين، يعني: المُوصِي مُخَيَّرٌ بيْنَ أنْ يُشْهِدَ اثنَيْنِ من أقاربه، أو من الاجانب المسلمين وقيل: «أوْ» للترتيب: أي: لا يُعْدَلُ عن شاهدين منْكُمْ إلا عِنْدَ فَقْدِهِمَا، وهذا لا يجيءُ إلا إذا قلنا: «مِنْ غَيْرِكُمْ» : من غير أهْلِ مِلَّتِكُمْ. قوله: «إن أنْتُمْ» «أنْتُمْ» مرفوعٌ بمحذوفٍ يفسِّره ما بعده، وهي مسألة الاشتغالِ، والتقديرُ: إنْ ضَرَبْتمْ، فلما حُذِفَ الفعلُ، انفصلَ الضميرُ، وهذا مذهبُ جمهور البصريِّين، وذهب الأخْفَشُ منهم والكوفيُّون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد «إن» الشرطيَّةِ؛ كما أجازوه بعد «إذَا» أيضاً، ف «ضَرَبْتُمْ» لا محلَّ له عند الجمهور؛ لكونه مفسِّراً، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش؛ لكونه خبراً؛ ونحوه: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك﴾ [التوبة: 6] ، ﴿إِذَا الشمس كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: 1] . وجوابُ الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ﴾ ، ولكنَّ تقدير هذا الجوابِ يتوقَّف على خلافٍ في هذا الشرط: هل هو قيدٌ في أصْلِ الشهادة، أو قيدٌ في ﴿آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فقط؟ بمعنى: أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصيَّة إلى أهلِ الذمةِ، إلا بشَرْطِ الضرب في الأرض، وهو السفر، فإن قيل: هو شرطٌ في أصْلِ الشهادةِ، فتقديرُ الجواب: إنْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ، فليشهد اثنانِ منْكُمْ أو من غَيْرِكُمْ، وإنْ كان شرطاً في العدُولِ إلى آخَرَيْنِ من غير الملَّة، فالتقدير: فأشْهِدُوا آخَرَيْنِ من غَيْركم، أو فالشاهِدُ آخَرَانِ من غَيْرِكُمْ، فقد ظهر أنَّ الدَّالَّ على جوابِ الشرط: إمَّا مجموعُ قوله: «اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ ... إلى آخره» على القولِ الأوَّل، وإمَّا ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فقط على القولِ الثاني. والفاء في «فَأصَابتكم» عاطفةٌ هذه الجملة على نَفْسِ الشرط، وقوله تعالى: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة﴾ فيه وجهان: أحدهما: أنها في محلِّ رفع صفة ل «آخَرَانِ» ؛ وعلى هذا: فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفها؛ فإنَّ قوله «تَحْبسُونَهُمَا» صفةٌ لقوله «آخَرَانِ» ، وإلى هذا ذهب الفارسيُّ، ومكِّي بنُ أبِي طالبٍ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء، وابن عطيَّة، وقد أوضحَ الفارسيُّ ذلك بعبارةٍ خاصَّةٍ، فقال: «تَحْبِسُونَهُمَا» صفة ل «آخَرَانِ» واعترض بقوله: ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾ ، وأفاد الاعتراضُ: أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة، أو القرابة حَسَبَ اختلافِ العُلَمَاء فيه؛ إنما يكون مع ضرورة السَّفَر، وحلول المَوْت فيه، واستغني عن جواب «إنْ» ؛ لِما تقدَّم في قوله ﴿آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ ، فقد ظهر من كلامه: أنه يجعلُ الشرط قيداً في ﴿آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فقط لا قيداً في أصْلِ الشهادة، فتقديرُ الجوابِ على رأيه؛ كما تقدَّم: «فاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْن مِنْ غَيْرِكُمْ» أو «فالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» . والثاني: أنه لا محلَّ له؛ لاستئنافهِ، وإليه ذهب الزمخشريُّ؛ قال: «فإنْ قلت: ما موقعُ قوله:» تَحْبِسُونَهُمَا «؟ قلتُ: هو استئنافُ كلام، كأنه قيل بعد اشتراطِ العدالةِ فيهما: فكيفَ نَعْمَلُ، إن ارتَبْنَا فيهمَا؟ فقيل: تَحْبِسُونَهُمَا» ، وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأوَّل الفصْلُ بكلام طويلٍ بين الصفة وموصوفها، وقال: «بعد اشتراط العدالة» ؛ بناءً على مختاره في قوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ ، أي: أو عَدْلانِ آخرانِ من الأجانب. قال أبو حيان: «في قوله:» إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُْ «إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، إذ لو جرى على لفظ ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ ، لكان التركيب: إنْ هو ضَرَبَ في الأرْضِ، فأصابته، وإنما جاء الالتفاتُ جمعاً؛ لأنَّ» أحَدَكُمْ «معناه: إذا حضَرَ كُلَّ واحدٍ منكم المَوْتُ» ، وفيه نظرٌ؛ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطابِ الأوَّل من قوله: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ إلى آخره، وقال ابن عبَّاس: «في الكلام حذفٌ، تقديرُه: فأصابتْكُمْ مصيبةُ الموتِ، وقد أشهدتُموهُمَا على الإيصاء» ، وعن سعيد بن جُبير: تقديره «وقد أُوصيتُم» ، قال بعضُهُم: «هذا أوْلَى؛ لأنَّ الوَصِيَّ يَحْلِفُ، والشَّاهدَ لا يَحْلِفُ» . والخطابُ في «تَحْبِسُونَهُمَا» لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خُوطِبَ بإصابته المَوْتَ؛ لأنه يتعذَّر ذلك فيه، و «مِنْ بَعْدِ» متعلِّق ب «تَحْبِسُونَهُمَا» ، ومعنى الحَبْسِ: المنعُ، يقال: حَبَسْتُ وأحْبَسْتُ فَرَسِي في سبيلِ الله، فَهُوَ مُحْبَسٌ وحَبِيسٌ، ويقال لمصْنَعِ الماءِ: « حَبْسٌ» ؛ لأنه يمنعه، ويقال: «حَبَّسْتُ» بالتشديد أيضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل؛ نحو: «حَبَّسْتُ الرِّجَالَ» ، والألف واللام في «الصَّلاة» فيها قولان: أحدهما: أنها للجنْس، أي: بعد أيِّ صلاة كانت. والثاني - وهو الظاهر - أنها للعَهْد كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -. فصل معنى الآية: أنَّ الإنْسَان إذا حَضَرَهُ المْوتُ، أنْ يُشهِدَ اثنين ذَوَيْ عدلٍ أي: أمَانةٍ وعَقْلٍ. ومعنى قوله: «مِنْكُم» أي: أهْل دِينكُمْ يا مَعْشَر المُؤمنين، ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ ، من غَيْر دِينكُمْ قول أكثر المُفَسِّرين، قاله ابْنُ عبَّاس، وأبُو مُوسى الأشْعَرِي، وهو قَوْلُ سعيد بن المُسَيِّبِ، وإبراهيمِ النَّخْعِي، وسعيد بنِ جُبَيْرٍ [وشريح] ، ومُجَاهِد، وعُبَيْدة، ثُمَّ اختلفَ هؤلاءِ في حُكْمِ الآيَةِ. فقال النَّخْعي، وجماعةٌ: هي منسوخَةٌ، وكانَتْ شَهَادةُ أهْلِ الذَمَّةِ مَقْبُولَةً في الابْتِدَاء، ثُمَّ نُسِخَتْ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهَا ثَابِتَة، وقالُوا: إذا لم يَجِدْ مُسْلمَيْنِ يُشهِدُ كَافِريْنِ قَالَ شُرَيْح: مَنْ كان بِأرْض غُرْبَةٍ، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يَشْهدُ على وصِيَّتِهِ، فأشْهَدَ كَافِرَيْنِ على أيِّ دينٍ كَانَا من أهْلِ الكتابِ، أوْ عَبَدَةِ الأوْثان، فَشَهَادَتُهُم جَائِزةٌ، ولا تَجُوزُ شَهَادَةُ كافرٍ على مُسْلمٍ إلاَّ على وَصِيَّةٍ في سَفَرٍ. وعن الشَّعْبِيِّ: أنَّ رَجُلاً من المُسْلِمين حَضَرَتُهُ الوَفَاةُ بدقوقا، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتِهِ، فأشْهَدَ رجُلَيْنِ من أهْلِ الكِتَابِ، فقدِمَا الكوفَةَ بتَرِكَتهِ وأتَيا أبَا مُوسَى الأشْعَرِي. فقال الأشْعَرِيُّ: هذا أمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الذي كان على عَهْد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأحْلَفَهُمَا باللَّه ما خَانَا ولا كَذبَا، ولا بَدَّلا، ولا غيَّرا، وأنَّها لوصيَّة الرَّجُل وتركتِهِ، وأمْضَى شَهَادتَهُمَا وقال آخرُون: قوله: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ أي: من حَيّ المُوصِي، ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ ، أي: من غَيْرِ حَيِّكُمْ وعَشِيرَتِكُمْ، وهو قول الحَسَن والزُّهرِي وعِكْرِمَة [ وجُمْهُور الفُقَهَاء] ، وقالوا: لا يجوز شَهَادةُ كَافِرٍ في شَيْءٍ من الأحْكَامِ. وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾ ، أي: إنْ وَقَعَ المَوْتُ في السَّفَرِ، ولم يَكُنْ مَعَكَمْ أحَدٌ من المُسْلِمِين، أوْ من أقَارِبُكُمْ، فاسْتَشْهِدُوا أجْنَبِيَّيْن على الوصيَّة، إمَّا من مِلتِكُم، أو من غَيْرِ مِلَّتِكُمْ على الخِلاف. واحتَجَّ من قال: المُرَادُ بقوله: «مِنْ غَيْرِكُم» : الكُفَّار؛ بأنَّه تعالى قال في أوَّل الآيةِ: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ فعمَّ بهذا الخِطَابِ جَمِيعَ المُؤمنينَ، فلما قال بعده «مِنْ غَيْرِكُم» كان المُرادُ غَيْرَ المُؤمنين. وأيضاً كما شَرَطَ هذا الاسْتِشْهَاد بحَالَة السَّفَرِ عَلِمْنَا أن المُراد بالآية: الكُفَّار؛ لأنَّ جواز الاسْتِشْهَادِ بالمُسْلِمِ غير مَشْرُوطٍ بالسَّفْر. وأيضاً فالآية تَدُلُّ على وُجُوبِ تَحْلِيف الشَّاهدين بَعْد الصلاة، والإجْمَاع على أنَّ الشَّّاهِد المُسْلِم، لا يَجِبُ عَلَيْه الْحَلْفُ، فعَلِمْنَا أنَّ هذَيْن الشَّاهدَيْنِ ليسا من المُسْلِمين وأيضاً بسَببِ النُّزُول، ما ذكرنا من شَهَادَةِ النَّصْرَانِيَّيْن، وقِصَّة أبِي مُوسى الأشْعَرِي، إذ قَضَى بِشَهَادَةِ اليَهُوديَّيْن، ولَمْ يُنْكِرْ عليه أحَدٌ من الصَّحَابَة، فكان إجْماعاً، فهذه حالةُ ضَرُورَةٍ، والضَّرُورَاتُ قد تُبِيحُ المَحْظُورات، كَجَوازِ التَّيَمُّمِ، والقَصْرِ، والفِطْرِ في رمضان، وأكلِ المَيْتَةِ في حالِ الضَّرُورَة، والمُسْلِمُ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ في السَّفرِ، ولم يجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتهِ، ولم تكنْ شَهَادةُ الكافِرِين مَقْبُولَةٌ، فإنَّه يُضَيِّع أكثر مُهِمَّاتِه، ورُبَّما كان عِنْدَهُ ودَائِع ودُيُونٌ في ذِمَّتِهِ. كما تُجُوزُ شَهادَةُ النِّساء فيما يتعلَّقُ بأحْوَالِهِنَّ، كالحَيْضِ والحَبَلِ والولادَةِ والاستِهْلاَلِ؛ لِعَدَم إمْكَانِ وقُوفِ الرِّجَال على هذه الأحْوَال، فاكتُفي بِشَهادةَ النِّسَاء فيها للضَّرُورة، فكَذَا هَاهُنَا، والقَوْلُ بأنَّ هذا الحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخاً بَعِيدٌ؛ لاتِّفَاقِ أكْثَرِ الأمَّةِ على أنَّ سُورة المَائِدَةِ من آخر ما نزل من القُرْآنِ، ولَيْسَ فيها مَنْسُوخٌ، واحْتَجَّ الآخَرون بقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: 2] ، والكَافِرُ لا يكون عَدْلاً. وأُجِيبَ بأنَّه لم لا يجُوز أنْ يكون المرادُ بالعَدْلِ مَنْ كَانَ عدْلاً في الاحْتَرازِ عَنِ الكذبِ، لا مَنْ كان عَدْلاً في الدِّين والاعتقاد؛ لإجْماعِنَا على قُبُول شَهَادِةِ أهْلِ الأهْوَاء والبِدَعِ، مع أنَّهم لَيْسُوا عُدُولاً في مَذَاهِبِهم عِنْدَنا لِكُفْرِهِم، [ولكنهم] لمَّا كانُوا عُدُولاً في الاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ، فكذا هَاهُنَا. سلَّمْنَا أنَّ الكَافِرَ لَيْسَ بعْدلٍ، إلاَّ أن قوله: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ عامٌّ، وقوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾ خَاصٌّ؛ فإنَّه أوْجَبَ شهادَة العَدْلِ منَّا في الحَضَرِ، واكْتَفَى بِشَهَادَةِ مَنْ لا يَكُونُ منَّا في السَّفَرِ، فَهَذِه الآيَةُ خَاصَّةٌ، والآيةُ التي ذكرُوهَا عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّم على العامِّ، لا سِيَّما إذا كان الخَاصُّ مُتَأخِّراً في النُزُولِ، والمائِدَةُ مُتَأخِرَّةٌ، فكان تَقْدِيمُ هذه الآيَةِ الخَاصَّةِ وَاجِبٌ بالاتِّفَاقِ. وقوله: «تَحْبِسُونَهُمَا» أي: تستوقفونهما مِنْ بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا. وقال عامَّةُ المُفَسِّرين: من بعدِ صلاة العَصْرِ، قالَهُ الشَّعْبِي، والنَّخْعِي، وسعيدُ بن جُبير، وقَتادَةُ وغَيْرِهم؛ لأنَّ جَمِيعَ أهْلِ الأدْيَان يُعَظِّمُونَ ذلك الوَقْت، ويَجْتَنِبُون فيه الحَلْفَ الكَاذِبَ. وقال الحَسَنُ: مِنْ بعد صلاة الظُّهْر. واحتَجَّ الجُمْهُور بما تقدَّم، وبأنَّه رُوِي أنَّهُ لمَّا نَزلَتِ هذه الآيَةِ، صلَّى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة العَصْر، ودَعَا ب «عَدِيِّ» و «تَمِيمٍ» فأسْتَحلفَهُمَا عِنْد المِنْبَر. وقال بعضهم: بَعْدَ أداءِ أيِّ صلاةٍ كانتْ؛ لأنَّ الصَّلاة تَنْهَى عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَر. قال بَعْضُ العلماء: الأيمانُ تُغَلَّظ في الدِّماءِ، والطَّلاقِ، والعِتَاقِ، والمال إذا بلغ مائَتَيْ دِرْهم بالزَّمَانِ والمكَان، فَيُحْلَفُ بعد صلاة العَصْرِ بِمَكَّةَ بين الرُّكْنِ والمقام، وفي المدينَة عند المِنْبَر، وفي بَيْتِ المقْدِسِ عند الصَّخْرَةِ، وفي سَائِر البُلْدَانِ في أشْرَف المَسَاجِد. وقال أبو حنيفة: لا يَخْتَصُّ الحَلفُ بِزَمَان ولا مكان. قوله: «فَيُقْسِمَانِ» في هذه الفاء وجهان: أظهرهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملة على جملة قوله: «تَحْبِسُونَهُمَا» ، فتكون في محلِّ رفع، أو لا محلَّ لها حَسْبَمَا تقدَّم من الخلاف. والثاني: أنها فاءُ الجزاءِ، أي: جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ، وقال الفارسيُّ: «وإنْ شئت، لَمْ تَجْعَلِ الفاء؛ لعطف جملة، بل تجعلُه جزاءً؛ كقول ذي الرُّمَّة: [الطويل] 2069 - وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارَةً ... فَيَبْدُو، وتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ تقديرُه عندهم: إذا حَسَرَ بَدَا، وكذا في الآية: إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا» . [وقال مكيٌّ نحوه؛ فإنه قال: «ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ جواب جزاءٍ؛ لأن» تَحْبِسُونَهُمَا «معناه الأمْرُ بذلك، وهو جوابُ الأمْر الذي دَلَّ عليه الكلامُ؛ كأنه قيل: إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا» ] قال شهاب الدين: ولا حاجةَ داعيةً إلى شيء من تقدير شرطٍ محذوفٍ، وأيضاً: فإنه يُحْوجُ إلى حذفِ مبتدأ قبل قوله «فَيُقْسِمَان» ، أي: فهما يُقْسِمَانِ، وأيضاً ف «إنْ تَحْبِسُوهُمَا» تقدَّم أنها صفةٌ، فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر، والطَّلَبُ لا يقع وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليٍّ، فَخَرَّجَه النحويُّون على أنَّ «يَحْسِرُ الماءُ تَارَةً» جملةٌ خبرية، وهي وإن لم يكنْ فيها رابطٌ، فقد عُطِفَ عليها جملةٌ فيها رابطٌ بالفاء السَّببية، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتَيْنِ شيئاً واحداً. و «بالله» متعلِّقٌ بفعل القسم، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهارُ فعلِ القسمِ إلا معها؛ لأنها أمُّ الباب، وقوله: ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ﴾ جوابُ القسم المضمرِ في «يُقْسِمَانِ» ، فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به، وقوله: «إن ارْتَبْتُمْ» شرطٌ، وجوابه محذوفٌ، تقديرُه: إن ارتبتُمْ فيهما، فحلِّفُوهُمَا، وهذا الشرط وجوابه المقدَّرُ معترضٌ بين القسم وجوابه. والمعنى: إن ارْتَبْتُمْ في شَأنِهِمَا فَحَلِّفُوهُمَا، وهذا الشَّرطُ حُجَّةُ من يقول: الآيةُ نَازِلةٌ في إشْهَادِ الكُفَّارِ؛ لأنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ المُسْلِم غير مَشْرُوعٍ. ومن قال: الآيةُ نازلةٌ في المُسْلِمِ قال: إنها مَنْسُوخَةٌ. وعن عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّهُ كان يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ والرَّاوي عند التُّهْمَةِ. وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ، فأُجيب سابقُهما، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ؛ لدلالةِ جوابه عليه؛ لأنَّ تلك المسألةَ شرطُها أن يكون جوابُ القسمِ صالحاً لأنْ يكون جواب الشرط؛ حتَّى يَسُدَّ مسدَّ جوابه؛ نحو: «والله إنْ تَقُمْ لأكْرِمَنَّكَ» ، لأنك لو قَدَّرْتَ «إن تَقُمْ أكْرَمْتُكَ» ، صَحَّ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسَم، بل يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسِه؛ ألا ترى أنَّ تقديره هنا: «إن ارْتَبْتُمْ، حَلِّفُوهُمَا» ولو قَدَّرْتَهُ: إن ارتبتُمْ، فلا نشتَرِي، لم يَصِحَّ، فقد اتفقَ هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ، وقد أجيب سابقهما، وحُذفَ جوابُ الآخَرِ، وليس من تيكَ القاعدةِ، وقال الجُرْجَانِيُّ: «إنَّ ثَمَّ قولاً محذوفاً، تقديرُه: يُقْسِمَانِ بالله ويقولانِ هذا القَوْلَ في أيْمَانِهمَا، والعربُ تُضْمِرُ القولَ كثيراً؛ كقوله تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ﴾ [الرعد: 23 - 24] أي: يقولُونَ سلامٌ عَلَيْكُمْ» ، قال شهاب الدين: ولا أدْرِي ما حمله على إضمارِ هذا القَوْلِ؟ . قوله: «بِهِ» في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ: أحدها: أنها تعودُ على الله تعالى. الثاني: أنها تعودُ على القسم. الثالث: وهو قول أبي عليٍّ -: أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ، وهذا قوي من حيث المعنى، وقال أبو البقاء: «تعودُ على اللَّهِ، أو القَسَمِ، أو الحَلْفِ، أو اليمينِ، أو تحريفِ الشهادةِ، أو على الشهادة؛ لأنها قولٌ» ، قال شهاب الدين: قوله «أو الحَلْفِ أو اليمينِ» لا فائدةَ فيه؛ إذ هما شيءٌ واحدٌ، وكذلك قولُ من قال: إنها تعودُ على الله تعالى، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً، أي: لا نَشْتَري بيمَينِ الله أوْ قسَمِه ونَحْوه؛ لأنَّ الذاتَ المقدَّسة لا يُقالُ فيها ذلك، وقال مكي: «وقيل: الهاءُ تعودُ على الشَّهادة، لكن ذُكِّرَتْ؛ لأنها قولٌ كما قال تعالى: ﴿فارزقوهم مِّنْهُ﴾ [النساء: 8] فردَّ الهاءَ على المقْسُومِ؛ لدلالة القسمة على ذلك» ، والاشتراءُ هنا، هَلْ هو باقٍ على حقيقته، أو يُرَاد به البيع؟ قولان، أظهرهما الأول، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصْب «ثَمَناً» ، وهو منصوبٌ على المفعوليَّة، قال الفارسيُّ: «وتقديره: لا نَشْتَرِي به ذا ثَمَنٍ؛ ألا ترى أنَّ الثمن لا يُشْتَرى، وإنما يُشْتَرَى ذو الثمنِ» ، قال: «وليس الاشتراءُ هنا بمعنى البيع، وإنْ جاء لغةً، لأنَّ البيع إبعادٌ عن البائع، وليس المعنى عليه، إنما معناه التمسُّكُ به والإيثارُ له على الحقِّ» ، وقد نقل أبو حيان هذا الكلام بعينه ولم يعْزُه لأبِي عَلِيٍّ. وقال مكيٌّ: «معناه ذا ثَمَنٍ، لأنَّ الثمن لا يُشْتَرَى، إنما يُشْتَرى ذو الثمنِ، وهو كقوله: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً﴾ [التوبة: 9] ، أي ذا ثَمَنٍ» ، وقال غيرُه: «إنه لا يَحْتاجُ إلى حذف مضاف» ، قال أبو البقاء: «ولا حَذْفَ فيه؛ لأنَّ الثمنَ يُشْتَرَى كما يُشْتَرَى به، وقيل: التقديرُ: ذا ثَمَنٍ» ، وقال بعضهم: «لا نَشْتَرِي: لا نبيعُ بعَهْدِ الله بغَرَضٍ نَأخُذُه؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [آل عمران: 77] ، فمعنى الآية: لا نَأخُذُ بعهد الله ثَمَناً؛ بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا» قال الواحديُّ: «ويُسْتَغْنَى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي عَلِيٍّ، وهذا معنى قول القُتَيْبِيِّ والجُرْجَانِيِّ» . قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 170] من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ، أو حاليةٌ، وأنَّ جملة الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مقدَّرةٍ؛ كقوله: «أعْطُوا السَّائِلَ، ولوْ عَلَى فرسٍ» ، فكذا هنا تقديرُه: لا نشتري به ثمناً في كلِّ حال، ولو كان الحالُ كذا، واسمُ» كَانَ «مضمرٌ فيها يعودُ على المشهُودِ له، أي: ولو كان المشهُودُ له ذَا قَرَابَةٍ. قوله: ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله﴾ الجمهورُ على رَفْعِ ميمِ» نَكْتُمُ «على أنَّ» لا «نافية، والجملةُ تحتمل وجهين: أحدهما - وهو الظاهرُ -: كونُها نسقاً على جواب القسمِ، فتكونُ أيضاً مقسماً عليها. والثاني: أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتمُون الشهادة؛ ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشَّعْبيِّ: «وَلاَ نَكْتُمْ» على النهْي، وهذه القراءةُ جاءتْ على القليل؛ من حيث إنَّ دخولَ» لاَ «الناهيةِ على فعلِ المتكلِّم قليلٌ؛ ومنه: [الطويل] 2070 - إذا مَا خرَجْنَا مِنْ دمشْقَ فَلاَ نَعُدْ ... بِهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجَرَاضِمُ والجمهورُ على» شهادةَ الله» بالإضافة، وهي مفعولٌ بها، وأضيفَتْ إليه تعالى؛ لأنه هو الآمرُ بها وبحفظها، وألاَّ تُكْتَمَ، ولا تُضَيَّعَ، وقرأ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ونعيمُ بْنُ مَيْسَرَة والشَّعْبِيُّ في رواية: «شهادةً الله» بتنوين شهادة، ونصبها، ونصب الجلالة، وهي واضحةٌ، ف «شَهَادَةً» مفعول ثان، والجلالةُ نصبٌ على التعظيم وهي الأوَّل، والأصلُ: ولا نَكْتُمُ اللَّهَ شهادةً؛ وهو كقوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: 42] وإنما قُدِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها؛ فإنها المحدَّثُ عنها، وفيها وجهُ ثانٍ - نقله الزهراويُّ - وهو: أن تكون الجلالةُ نَصْباً على إسقاطِ حرفِ القسم، والتقديرُ: ولا نَكْتُمُ شهادةً واللَّهِ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر، نُصِب المُقْسَمُ به، ولا حاجةَ إليه؛ لأنه يَسْتَدْعِي حذف المفعولِ الأوَّل للكتمان، أي: ولا نَكْتُمُ أحداً شهادةً والله، وفيه تكلُّفٌ وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً قال: «على أنه منصوبٌ بفعْلِ القسم محذوفاً» . ويُروَى عن أبِي جَعْفَر «شَهادةً» مُنَونةً «أَللَّهِ» بِقَطْعِ الألف وكسَرْ الهَاءِ، من غير اسْتِفْهَام على ابْتِدَاء اليَمينِ، أي: واللَّهِ ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾ ، أي: إنْ كَتَمْنَاها نَكُونُ من الآثمين. وقرأ عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسُّلمِيُّ والحسن البصريُّ: «شَهَادَةً» بالتنوين والنصب، «آلله» بمدِّ الألفِ التي للاستفهام، دَخَلَتْ للتقرير، وتوقيف نفوسِ الخَلْق الحالفين، وهي عوضٌ عن حَرْفِ القسمِ المقدَّرِ ثمّ. وهل الجرُّ بها أم بالحَرْفِ المحذوفِ؟ خلافٌ. وقرأ الشعبيُّ في رواية وغيره: «شَهَادَهْ» بالهاء ويقف عليها، ثم يَبْتدئ «آللَّهِ» بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدِّم، وجَرِّ الجلالة، وهمزةُ القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة، تقول: يا زَيْدُ، أللَّهِ، لأفْعلَنَّ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصَّة ثلاثةٌ: ألفُ الاستفهام، وقطعُ همزة الوصلِ، وها التي للتنبيه؛ نحو: «ها اللَّهِ» ، ويجوزُ مع «هَا» قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها، وهل الجرُّ بالحرف المقدَّر، أو بالعوض؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً، ولو قال قائلٌ: إن قولهم «الله، لأفْعَلَنَّ» بالجرِّ وقطع الهمزة؛ بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قوله، فإن قيل: همزةُ الاستفهام، إذا دخلَتْ على همزة الوصْلِ التي مع لام التعريف، أو ايْمُن في القَسَم، وجب ثبوتُ همزة الوصل، وحينئذ إمَّا: أنْ تُسَهَّلَ، وإمَّا أنْ تُبْدَلَ ألفاً، وهذه لم تَثْبُتْ بعدها همزةُ وصل، فتعيَّن أن تكونَ همزة وصْلٍ قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم، فالجواب: أنهم إنما أبْدلوا ألفَ الوصْلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ الاستفهام؛ فرقاً بين الاستفهام والخبر، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجرَّ في الجلالة يؤذِنُ بذلك؛ فلا حاجة إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدلةً أو مُسَهَّلةً، فعلى هذا قراءة: ألله، وآلله بالقصْر والمدِّ تحتمل الاستفهام، وهو تخريجٌ حسن، قال ابن جني في هذه القراءة: «الوقفُ على» شهَاده «بسكون الهاء، واستئنافُ القسم - حسنٌ؛ لأنَّ استئنافه في أولِ الكلامِ أوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ أنْ يدخُلَ في عرضِ القَوْل» ، ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني: «ألله» بقطع الألف من غير مدٍّ وجرِّ الجلالة - عن أبي بكرٍ عن عاصمٍ وتقدَّم أيضاً أنها رويتْ عن أبي جعفرٍ، وقرئ: «شَهَادَةً اللَّهِ» بنصب الشهادة منونة، وجرِ الجلالة موصولة الهمزة، على أن الجرَّ بحرفِ القسمِ المقدَّرِ من غير عوضٍ منه بقَطْعِ، ولا همزةِ استفهام، وهو مختصٌّ بذلك. وقوله تعالى: ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾ هذه الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنها استئنافيةٌ، أخبروا عن أنفسهم بأنهم من الآثمين، إنْ كتموا الشهادة؛ ولذلك أتوا ب «إذَنِ» المُؤذِنَةِ بالجزاء والجواب، وقرأ الجمهور: «لَمِنَ الآثمينَ» من غير نقل، ولا إدغام، وقرأ ابن مُحَيصنٍ والأعمش: «لَمِلآّثمين» بإدغام نون «مِنْ» في لام التعريف، بَعْد أن نقل إليها حركة الهمزة في «آثمينَ» ، فاعتدَّ بحركة النقل فأدغَمَ، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ: ﴿عَاداً لُّولَى﴾ [النجم: 50] بالإدغام، على ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. * فصل في معنى الآية ومعنى الآية: إنكم إذا سَافَرْتُم في الأرْض، فأصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الموت، فأوصَيْتم إلَيْهما، ودَفَعْتُم إليهمَا مالك، فاتَّهَمَهُمَا بعضُ الورثة، وادَّعَوْا عليهما خِيَانَة فما الحُكْمُ فيه؟ «أن تَحبِسُونَهُمَا» أي: تَسْتَوقِفُونَهُمَا بَعْدَ الصَّلاة. قال السُّدي: بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا؛ لأنَّهُمَا لا يُبَالِيَان بِصلاةِ العَصْرِ، ولا صلاةِ الظُّهْرِ على ما تقدَّم، فيَحْلِفَان ﴿بالله إِنِ ارتبتم﴾ أي: شَكَكْتُم وَوقَعتْ لَكُم الرِّيبَةُ في قولِ الشَّاهدين وصدقهمَا، إذا كانا مِنْ غَيْرِ دينكُم، فإن كانا مُسْلِمَيْن فلا يَمِينَ عليهما ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً﴾ ، أي: لا نَحْلِفُ باللَّه كَاذِبين على عِوضٍ نأخُذُه، أو حَقٍّ نَجْحَدُهُ ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ ، ولو كان المَشْهُودُ لَهُ ذَا قَرابَةٍ مِنَّا. وقيل: لَوْ كان ذلك الشَّيْءُ حبوة في قُرْبى ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله﴾ وأضَافَ الشَّهادَةَ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه أمَرَ بإقَامَتِها ونَهَى عن كِتْمَانها ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾ ، إن كَتَمْنَا الشَّهَادَة. رُوِي لما نَزَلت هذه الآيَةُ، صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاةَ العَصْرِ، ودعا تميماً وعِدياً، فاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ المِنْبَر باللَّه الذي لا إله إلاَّ هُو، أنَّهُمَا لم يَخْتَانَا شَيْئاً مما دُفع إليْهما، فَحَلَفا على ذَلِكَ، وخلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَبِيلَهُمَا. قوله تعالى: «فإنْ عُثِرَ» : مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ فاعله الجارُّ بعده، أي: فإن اطُّلِعَ على اسْتِحْقَاقِهِمَا الإثْم يقالُ: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُوراً: إذا هَجَمَ على شيءٍ، لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ، وأعْثَرْتُهُ على كذا أطلعتُه عليه؛ ومنه قوله تعالى: ﴿أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الكهف: 21] ، قال أهلُ اللغة: وأصلُه من «عَثْرَةِ الرجْلِ» وهي الوقوعُ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُرُ بِشَيْء كان لا يَرَاهُ، فإن عثر به، اطُّلَعَ عليه، ونظر ما هو، فقيل لكلِّ أمْرٍ كان خَفِيًّا، ثم اطُّلِعَ عليه: «عُثِرَ عَلَيْه» ، وقال الليْثُ: «عَثَرَ يَعْثُرُ عُثُوراً هَجَمَ على أمرٍ لم يهجُمْ عليه غيرُه، وعَثَر يَعْثُرُ عثْرةً وقع على شيء» ففرَّقَ بين الفعلَيْنِ بمصدَرَيْهما، وفرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك؛ فقال: «عَثَرَ مصْدرُه العُثُور، ومعناه اطَّلَعَ، فأمَّا» عَثَرَ «في مَشْيهِ، ومنْطِقِهِ، ورأيه، فالعِثَارُ» ، والراغب جعَلَ المصدَرَيْنِ على حدٍّ سواء؛ فإنه قال: «عَثَر الرَّجل بالشيءِ يَعْثُرُ عُثُوراً وعِثَاراً: إذا سقطَ عليه، ويُتَجَوَّزُ به فيمَنْ يطَّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه، يقال:» عَثَرْتُ على كذا «، وقوله: ﴿وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الكهف: 21] ، أي: وَقَّفْنَاهُمْ عليهم من غَيْرِ أنْ طَلَبُوا» . قوله تعالى: «فآخَرَانِ» فيه أربعةُ أوجه: الأول: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، تقديره: فالشَّاهدانِ آخرانِ، والفاء جوابُ الشرط، دخلت على الجملة الاسمية، والجملةُ من قوله: «يَقُومَانِ» في محلِّ رفعٍ صفةً ل «آخَرَانِ» . الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ، تقديرُه: فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ، ذكره مكيٌّ وأبو البقاء، وقد تقدَّم أن الفعل لا يُحْذَفُ وحْدَهُ إلاَّ في مواضعَ ذكَرْتُها عند قوله: ﴿حِينَ الوصية اثنان﴾ [المائدة: 106] . الثالث: أن خبرٌ مقدَّم، و «الأوْلَيَانِ» مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والتقديرُ: فالأوْليانِ بأمْرِ الميِّتِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، ذكر ذلك أبو عَلِيٍّ، قال: «ويكُونُ كقولك: تَمِيميٌّ أنَا» . الرابع: أنه مبتدأٌ، وفي الخبر حينئذ احتمالاتٌ: أحدها: قوله: ﴿مِنَ الذين استحق﴾ ، وجاز الابتداءُ به؛ لتخصُّصِه بالوصْفِ، وهو الجملة من «يَقُومَانِ» . والثاني: أنَّ الخبر «يَقُومَانِ» و ﴿مِنَ الذين استحق﴾ صفةُ المبتدأ، ولا يََضُرُّ الفصْلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به: اعتمادُه على فاءِ الجزاء، وقال أبو البقاء، لمَّا حَكَى رفعه بالابتداء: «وجازَ الابتداءُ هنا بالنَّكِرَة؛ لحصولِ الفائدةِ» ، فإن عنى أنَّ المسوِّغَ مجرَّدُ الفائدةِ من غير اعتبار مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها، فغيرُ مُسَلَّم. الثالث: أنَّ الخبرَ قوله: «الأوْلَيَانِ» نقله أبو البقاء، وقوله «يَقُومَانِ» و ﴿مِنَ الذين استحق﴾ كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل «آخَرَانِ» ، ويجوزُ أن يكون أحدُهما صفةً، والآخرُ حالاً، وجاءتِ الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِهَا بالوصفِ، وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ؛ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ، جَعَلْتَ المعرفةَ محدَّثاً عنها، والنكرةَ حديثاً، وعكسُ ذلك قليلٌ جدًّا أو ضرورةٌ؛ كقوله: [الوافر] 2071 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ وكقوله: [الطويل] 2072 - وَإنَّ حَرَاماً أنَّ أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بَآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَام الْخََضَارِمِ وقد فُهِمَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملة من قوله «يَقُومَانِ» والجارَّ من قوله: «مِنَ الَّذِينَ» : إمَّا مرفوعُ المحلِّ صفةً ل «آخَرَانِ» أو خبرٌ عنه، وإمَّا منصوبُهُ على الحالِ: إمَّا من نَفْسِ «آخَرَانِ» ، أو مِنَ الضَّمِير المستكنِّ في «آخَرَانِ» ، ويجوزُ في قوله «مِنَ الَّذِين» أنْ يكون حالاً من فاعلِ «يَقُومَانِ» . قوله: «استحقّ» قرأ الجمهور «استُحِقَّ» مبنيًّا للمفعول، «الأولَيَانِ» رفعاً، وقرأ حفص عن عاصم: «اسْتَحَقَّ» مبنيًّا للفاعل، «الأوليَانِ» كالجماعة، وهي قراءة عبد الله بن عبَّاس وأمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ورُوِيَتْ عن ابن كثيرٍ أيضاً، وحمزة وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: «استُحِقَّ» مبنيًّا للمفعول كالجماعة، «الأوَّلِينَ» جمع «أوَّل» جمع المذكر السَّالِم، والحسن البصريّ: «اسْتَحَقَّ» مبنيًّا للفاعل، و «الأوَّلانِ» مرفوعاً تثنية «أوَّل» ، وابن سيرين كالجماعة، إلا أنه نَصَبَ الأوْلَيْينِ تثنية «أوْلَى» ، وقرئ: «الأوْلَيْنَ» بسكون الواو وفتح اللام، وو جمع «أوْلَى» كالأعْلَيْنَ في جمعِ «أعْلََى» ، ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع، قال: «هذا موضعٌ من أصْعَبِ ما في القرآن إعراباً» . قال شهاب الدين: ولعَمْرِي، إنَّ القولَ ما قالَتْ حَذَامِ؛ فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسن تَلْخِيصٍ، ولا بدَّ من ذِكْرِ شَيْءٍ من معاني الآية؛ لنستعين به على الإعْراب؛ فإنه خادمٌ لها. فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ، فرفعُ «الأوْلَيَان» فيها أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، وخبره «آخرَانِ» ، تقديره: فالأوْلَيَانِ بأمر الميِّت آخَرَانِ، وتقدَّم شرحُ هذا. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هما الأوْليانِ؛ كأنَّ سائلاً يسأل فقال: «من الآخَرَانِ» ؟ فقيل: هما الأوْلَيَانِ. الثالث: أنه بدلٌ من «آخَرَان» ، وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه؛ نحو: «جَاءَ زَيْدٌ أخُوكَ» وهذا عندهم ضعيفٌ؛ لأنَّ الإبدالَ بالمشتقَّاتِ قليلٌ. الرابع: أنه عطفُ بيان ل «آخَرَانِ» بيَّن الآخَرَيْنِ بالأوْلَيَيْنِ، فإن قلت: شرطُ عطفِ البيانِ: أن يكون التابعُ والمتبوعُ متفقينِ في التعريفِ والتنكيرِ، على أنَّ الجمهور على عدم جريانه في النكرةِ؛ خلافاً لأبي عَليّ، و «آخَرَانِ» نكرةٌ، و «الأوْلَيَانِ» معرفةٌ، قُلْتُ: هذا سؤالٌ صحيحٌ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ، ويلزمُ الزمخشريَّ جوازُه: أمَّا الأخفشُ فإنه يُجيزُ أنْ يكون «الأوْلَيَانِ» صفةً ل «آخَرَانِ» بما سأقرره عنه عند تعرُّضِي لهذا الوجهِ، والنعتُ والمنعوتُ يُشترط فيهما التوافُقُ، فإذا جاز في النعْتِ، جاز فيما هو شبيهٌ به؛ إذْ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت، وأمَّا الزمخشريُّ، فإنه لا يشترطُ ذلك - أعني التوافُقَ - وقد نَصَّ عليه هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى: ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: 97] عطفُ بيان؛ لقوله ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ [آل عمران: 97] ، و «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» نكرةٌ؛ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ، قَرُبَتْ من المعرفة، كما تقدَّم عنه في موضعه، وكذا «آخَرَانِ» قد وُصِفَ بصفَتيْنِ، فقُرْبُه من المعرفة أشدُّ من «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» ؛ من حيثُ وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة. الخامس: أنه بدلٌ من فاعلِ «يَقُومَانِ» . السادس: أنه صفةٌ ل «آخَرَانِ» ، أجازَ ذلك الأخفشُ، وقال أبو عَلِيٍّ: «وأجازَ أبو الحسنِ فيها شيئاً آخَرَ، وهو أن يكُون» الأوْلَيَانِ «صفةً ل» آخَرَانِ «؛ لأنَّه لمَّا وُصِفَ، تخصَّصَ، فَمِنْ أجلِ وصفه وتخصيصه، وُصِفَ بوصف المعارف» ، قال أبو حيان: «وهذا ضعيفٌ؛ لاستلزامِه هَدْم ما كَادُوا أن يُجْمعوا عليه؛ من أنَّ النكرة لا تُوصفُ بالمعرفةِ، ولا العَكْس» ، قلتُ: لا شكَّ أن تَخَالُفَهُمَا في التعريفِ والتنْكيرِ ضعيفٌ، وقد ارتكَبُوا ذلك في مواضعَ، فمنها ما حكاه الخليلُ: «مَرَرْتُ بالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ» في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ، ومنها ﴿غَيْرِ المغضوب﴾ [الفاتحة: 7] على القولِ بأنَّ «غَيْر» صفةُ ﴿الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 7] ، وقوله: [الكامل] 2073 - وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي وقوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ [يس: 73] ، على أنَّ «يَسُبُّنِي» و «نَسْلَخُ» صفتان لما قبلهما؛ فإنَّ الجمل نكراتٌ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه، فإنها تُؤوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفةِ؛ إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ، ويجوز أن يكون ما نحْنُ فيه من هذه المُثُلِ؛ فاعتبار أنَّ «الأوْلَيَيْنِ» لمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان، قَرُبَا من النكرةِ، فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي؛ فصار في ذلك مسوِّغان: قُرْبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ، وقُرْبُ المعرفةِ من النكرة بالإبهام؛ ويدلُّ لِما قلته ما قال أبو البقاء: «والخَامِسُ أن يكون صفة ل «آخَرَانِ» ؛ لأنه وإنْ كان نكرةً، فقد وُصِفَ، والأوْليانِ لم يَقْصِدْ بهما قَصْدَ اثنينِ بأعيانِهما» . السابع: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله ب «اسْتُحِقَّ» ، إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا، قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً، واختلفتْ تقديراتُ المُعْرِبينَ، فقال مكي: «تقديرُه: استُحِقَّ عليهمْ إثْمُ الأوْلَيَيْنِ» ، وكذا أبو البقاء وقد سَبقَهما إلى هذا التقدير ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ، وقدَّره الزَمَخْشَرِيُّ فقال: «مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ علَيْهِمُ انتدَابُ الأوْلَيَيْنِ منْهُمْ للشَّهادَةِ لاطِّلاعِهِمْ عَلَى حقيقةِ الحَالِ» ، ومِمَّن ذهب إلى ارتفاعِ «الأوْلَيَانِ» ب «اسْتُحِقَّ» أبو عليٍّ الفارسِيُّ، ثم منعه؛ قال: «لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنَّمَا يكُونُ الوصيَّة أو شيئاً منها، وأمَّا الأوليَانِ بالمَيِّتِ، فلا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّا، فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما» ، قلتُ: إنما منع أبو عليٍّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ؛ فإنَّ الأوْلَيَيْنِ لَمْ يستحقَّهما أحدٌ كما ذَكَر، ولكن يجوز أن يُسْنَدَ «اسْتُحِقَّ» إليهما؛ بتأويلِ حذف المضافِ المتقدِّم، وهذا [الذي] منعه الفارسيُّ ظاهراً هو الذي حمل النَّاس على إضمار ذلك المُضافِ، وتقديرُ الزمخشريِّ ب «انْتِدَاب الأوْلَيَيْنِ» أحسنُ من تقدير غيره؛ فإنَّ المعنى يُسَاعِدُهُ، وأمَّا إضمارُ «الإثْم» فلا يَظْهر إلا بتأويل بعيدٍ. وأجازَ ابن عطيَّة أن يرتفعَ «الأوْلَيَانِ» ب «استُحِقَّ» أيضاً، ولكن ظاهرُ عبارته؛ أنه لم يُقَدَّر مضافاً؛ فإنه استشعر بإستشكالِ الفارسيِّ المتقدِّم، فاحتالَ في الجواب عنه، وهذا نَصُّه، قال ما ملخَّصُه: إنَّه «حُمِلَ» اسْتُحِقَّ «هنا على الاستعارةِ؛ فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً؛ لقوله:» اسْتَحَقَّا إثْماً «، وإنما معناه أنَّهم غَلَبُوا على المالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعدمه؛ لقرابته أو أهل دينه؛ فجعل تسوُّرَهُمْ عليه استحقاقاً - مجازَاً، والمعنى: من الجماعة التي غابت، وكان منْ حَقِّها أنْ تُحْضِرَ وليَّها، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصِي، استحقَّت هذه الحالَ، وهذان الشاهدانِ من غير أهْل الدِّين والولاية، وأمْرِ الأوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة، فبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعديِّي الفعلِ ب» عَلَى «لمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ، هَيَّأتْهُ الحالُ، ولا يُقال: اسْتَحَقَّ منه أو فيه إلاَّ في الاسْتِحْقَاقِ الحقيقيِّ على وجههِ، وأمَّا» اسْتَحَقَّ عليْهِ «فالبحَمْلِ والغلبةِ والاستحقاقِ المُسْتَعَارِ» . انتهى، فقد أسند «اسْتَحَقَّ» إلى «الأوليان» من غير تقدير مضافٍ متأوِّلاً له بما ذكر، واحتملتُ طول عبارته؛ لتتَّضِحَ. واعلم أنَّ مرفوع «اسْتُحِقَّ» في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غيرَ هذا الوجهِ، وهو إسنادُه إلى «الأوْليانِ» - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أو سياقاً، واختلفت عباراتُهم فيه، فقال الفارسيُّ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء والزمخشريُّ: إنه ضميرُ الإثْمِ، والإثمُ قد تقدَّمَ في قوله: «اسْتَحَقَّا إثْماً» ، وقال الفارسيُّ والحُوفِيُّ أيضاً: «اسْتُحِقَّ هو الإيصاءُ أو الوصيَّةُ» قال شهاب الدين: إضمارُ الوصيَّة مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِدَ الفعلُ إلى ضمير المؤنَّثِ مطلقاً، وَجَبَتِ التاءُ إلاَّ في ضرورة، ويُونُسُ لا يَخُصُّه بها، ولا جائزٌ أن يقال أضْمَرَا لفظ الوصيَّة؛ لأنَّ ذلك حُذِفَ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ، وقال النحَّاس مستحْسِناً لإضمارِ الإيصَاءِ: «وهذا أحسنُ ما قِيلَ فيه؛ لأنَّه لم يُجْعَلْ حرفٌ بدلاً من حرفٍ» ، يعني أنه لا يقُول: إنَّ «عَلَى» بمعنى «فِي» ، ولا بمعنى «مِنْ» كما قيل بهما، وسيأتي ذلك - إن شاء الله تعالى -. وقد جمع الزمخشريُّ غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإعْرَابِ والمعنى بأوجز عبارةٍ، فقال: «ف» آخَرَانِ» ، أي: فشَاهِدَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذينَ اسْتُحِقَّ عليهِم، أي: استُحِقَّ عليْهِمُ الإثمُ، ومعناه: مِنَ الذين جُنِيَ عليهمْ، وهم أهلُ الميِّتِ وعشيرتُهُ والأوليانِ الأحقَّانِ بالشَّهادةِ لقَرَابَتهِمَا ومَعْرِفَتِهِمَا، وارتفاعُهُمَا على: «هُمَا الأوْلَيَانِ» ؛ كأنه قيل: ومَنْ هُمَا؟ فقيل: الأوْلَيَانِ، وقيل: هما بدلٌ من الضَّمير في «يَقُومَانِ» أو من «آخَرَانِ» ، ويجوزُ أنْ يرتفِعَا ب «اسْتُحِقَّ» ، أي: من الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ انتدابُ الأوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ للشهادة؛ لاطِّلاعهم على حقيقة الحَالِ» . وقوله «عَلَيْهِم» : في «عَلَى» ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنها على بابها، قال أبو البقاء: «كقولك: وَجَبَ عليهم الإثْمُ» ، وقد تقدَّم عن النحَّاس؛ أنه لمَّا أضْمَرَ الإيصاءَ، بَقَّاها على بابها، واستحْسَنَ ذلك. والثاني: أنها بمعنى «فِي» أي: استُحِقَّ فيهم الإثمُ، فوقَعَتْ «عَلَى» موقع «فِي» كما تقعُ «فِي» موقعها؛ كقوله تعالى: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: 71] أي: على جُذُوعِ، وكقوله: [الكامل] 2074 - بَطَلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ أي: على سَرْحةٍ، وقدَّره أبو البقاء فقال: «أي: استُحِقَّ فيهم الوصيَّةُ» . والثالث: أنها بمعنى «مِنْ» أي: استُحِقَّ مِنْهُمُ الإثْمُ؛ ومثلُه قولُه تعالى: ﴿إِذَا اكتالوا عَلَى الناس﴾ [المطففين: 2] أي: مِنَ الناس، وقدَّره أبو البقاء فقال: «أي: استُحِقَّ منهم الأوْليَانِ» فحينَ جعلها بمعنى «فِي» قدَّر «اسْتُحِقَّ» مُسْنَداً للوصية؛ وحين جعلها بمعنى « مِنْ» ، قدَّره مُسْنِداً ل «الأوْلَيَانِ» ، وكان لَمَّا ذكر القائمَ مقامَ الفاعلِ، لم يذكر إلا ضميرَ الإثم و «الأوْلَيَانِ» ، وأجاز بعضهم أنْ يُسْنَدَ «اسْتُحِقَّ» إلى ضمير المالِ، أي: اسْتُحِقَّ عليْهِمُ المالُ المَوْرُوثُ، وهو قريبٌ. فقد تقرَّر أنَّ في مرفوعِ «اسْتُحِقَّ» خمسة أوجه: أحدُها: «الأوْلَيَانِ» . والثاني: ضميرُ الإيصاء. والثالث: ضميرُ الوصية، وهو في المعنى كالذي قبله وتقدَّم إشكالُه. والرابع: أنه ضميرُ الإثْمِ. والخامس: أنه ضميرُ المالِ، ولم أرَهُمْ أجازوا أن يكون «عَلَيْهِم» هو القائمَ مقامَ الفاعلِ؛ نحو: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ [الفاتحة: 7] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً. وأمَّا قراءةُ حَفْص ف «الأوْلَيَانِ» مرفوعٌ ب «اسْتَحَقَّ» ومفعولُه محذوفٌ، قدَّره بعضهم «وصِيَّتَهُمَا» ، وقدَّره الزمخشريُّ ب «أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة» ؛ فإنه قال: «معناهُ من الورثةِ الذين استَحَقَّ عليْهِمُ الأوْلَيَانِ من بينهم بالشهادة: أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة، ويُظْهِرُوا بها كذب الكاذبينَ» ، وقال ابنُ عطيَّة: «الأوْلَيَانِ» رفعٌ ب «اسْتَحَقَّ» ، وذلك أن يكون المعنى: مِنَ الَّذِينَ استحَقَّ عليْهِمْ مالَهُمْ وتركَتَهُمْ شَاهِدَا الزُّورِ، فَسُمِّيَا أوْلَيَيْنِ، أي: صَيَّرَهُمَا عَدَمُ الناس أوْلَيَيْنِ بالمَيِّت وتَرِكَتِهِ، فَخَانَا، وجَارَا فيها، أو يكونُ المعنى: من الذينَ حَقَّ عليهم أنْ يكون الأوليانِ منهم، فاستَحَقَّ بمعنى: حَقَّ، كاسْتَعْجَبَ وعَجِبَ، أو يكون استحقَّ بمعنى: سَعَى واستوجب، فالمعنى: من القوم الذين حَضَرَ أوْلَيَانِ مِنْهُمْ، فاستَحَقَّا عليهم، أي: استحقَّا لهُمْ وسعيا فيه، واستوجََبَاهُ بأيْمَانِهِمَا وقُرْبَانِهِمَا» ، قال أبو حيان - بعد أنْ حكَى عن الزمخشريِّ، وأبي محمَّدٍ ما قدَّمْتُه عنهما -: «وقال بعضُهم: المفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: الذين استحقَّ عليهمُ الأوليانِ وصيَّتَهُمَا» ، قال شهاب الدين: وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولي الزمخشريِّ وابن عطيَّة، وقد بَيِّنْتُهما ما هما، فهو عند الزمخشريِّ قوله: «أنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشَّهادة» ، وعند ابن عطيَّة هو قوله: «مالَهُمْ وتَركَتَهُمْ» ، فقوله: «وقال بعضهم: المفعولُ محذوفٌ» يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً، وممن ذهبَ إلى أن» اسْتَحَقَّ «بمعنى» حَقَّ «المجرَّدِ - الواحديُّ فإنه قال:» واسْتَحَقَّ هنا بمعنى حَقَّ، أي: وَجَبَ، والمعنى: فآخَرَانِ مِنَ الذين وجب عليهمُ الإيصَاءُ بتوصيتِهِ بينهم، وهم وَرَثَتُه «وهذا التفسيرُ الذي ذكره الواحديُّ أوضحُ من المعنى الذي ذكره أبو محمَّد على هذا الوجه، وهو ظاهرٌ. وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بَكْرٍ، فمرفوع» استُحِقَّ «ضميرُ الإيصَاءِ، أو الوصيةِ، أو المالِ، أو الإثمِ، حَسْبما تقدَّم، وأمَّا» الأوَّلَيْنِ «فجمعُ» أوَّل «المقابل ل» آخِر» ، وفيه أربعةُ أوجه: أحدها: أنه مجرورٌ صفةً ل «الَّذين» . الثاني: أنه بدلٌ منه، وهو قليلٌ؛ لكونه مشتقًّا. الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ في «عَلَيهم» ، وحسَّنَه هنا، وإن كان مشتقًّا عدمُ صلاحَيةِ ما قبله للوصف، نقل هذَيْن الوجهَيْن الأخيرَيْنِ مكيٌّ. الرابع: أنه منصوبٌ على المَدْح، ذكره الزمخشريُّ، قال: «ومعنى الأوَّلِيَّةِ التقدُّمُ على الأجَانب في الشَّهَادة؛ لكونهم أحَقَّ بها» ، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّةَ بالتقدُّمِ على الأجَانِب؛ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره: أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أنَّهُمَا من الأجانب لا من الكُفَّارِ وقال الواحديُّ: «وتقديرُه من الأوَّلينَ الَّذينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ الإيصَاءُ أو الإثْمُ، وإنما قيل لهم» الأوَّلِينَ» من حيث كانوا أوَّلِينَ في الذِّكْرِ؛ ألا ترى أنه قد تقدَّم: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ وكذلك ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ﴾ ذُكِرَا في اللفظ قبل قوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ ، وكان ابنُ عباسٍ يختارُ هذه القراءة، ويقول: «أرأيتَ إنْ كان الأوْليانِ صغيريْنِ، كيف يَقُومَانِ مقامهما» ؟ أراد: أنهما إذا كانا صغيريْنِ لم يقُومَا في اليمين مقامَ الحانِثَيْنِ، ونحا ابن عطية هذا المنحَى قال: «معناه: من القوْمِ الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهُمْ، أي: غُلِبُوا عليه، ثم وصفَهم بأنهم أوَّلون، أي: في الذكْرِ في هذه الآية» . وأمَّا قراءةُ الحَسَن فالأوَّلانِ مرفُوعَانِ ب «استَحَقَّ» فإنه يقرؤهُ مبنيًّا للفاعل، قال الزمخشريُّ: «ويَحْتَجُّ به مَنْ يَرَى ردَّ اليمينِ على المُدَّعِي» ، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلاَنِ، والمرادُ بهما الاثْنَانِ المتقدِّمَانِ في الذكْرِ؛ وهذه القراءةًُ كقراءةِ حَفْصٍ، فيُقَدَّرُ فيها ما ذُكِرَ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفْعُولِ. وأما قراءة ابن سيرينَ، فانتصابُها على المَدْحِ، ولا يجوزُ فيها الجَرُّ؛ لأنه: إمَّا على البدل، وإمَّا على الوصْف بجَمْعٍ، والأوْلَيَيْنِ في قراءته مثنًّى، فتعذر فيها ذلك، وأمَّا قراءة «الأوْلَيْنَ» كالأعلَيْنَ، فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذَّة لم يَعْزُها، قال: «ويُقْرَأ» الأوْلَيْنَ «جمع الأوْلَى، وإعرابه كإعراب الأوَّلينَ» يعني في قراءة حمزة، وقد تقدَّم أن فيها أربعةُ أوجه، وهي جارية هنا. قوله: «فَيُقْسِمَانِ» نسقٌ على «يَقُومَانِ» والسببيَّةُ ظاهرٌة، و «لشَهَادَتُنَا أحَقُّ» : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله: «فَيُقْسِمَانِ» . * فصل في معنى الآية ومعنى الآية: فإن حصل العُثُور، والوقوف على أنَّهُمَا أتيا بِخِيَانة، استَحَقَّا الإثم بسبَبِ اليَمِينَ الكَاذِبَة، أو خِيَانَة في المَالِ، قام في اليَمِين مقَامَهُما رَجُلانِ من قرَابَة الميت، فَيَحْلِفَان باللَّهِ لقد ظَهَرْنا على خَبرِ الذِّمِّيَّين، وكذبهما وتَبْدِيلهما، وما اعْتَدَيَنْا في ذلك وما كَذبْنَا، وهو المُراد بقوله: ﴿فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم﴾ ، والمُرَادُ به موالِي الميِّتِ، قال ابنُ الخطيب: وقد أكثر النَّاسُ في أنَّهُ لِمَ وصف موالِي الميِّتِ بهذا الوَصْفِ؟ والأصَحُّ عندي فيه وَجْهٌ: وهو أنَّهُمْ إنَّما وُصِفُوا بذلك؛ لأنَّهُ لمَّا أخَذَ منهم مَالَهُمْ، فَقَدْ استَحَقَّ عليهم مَالَهُمْ، فإن أخَذَ مال غيره، فقد حاولَ أن يكون تَعَلُّقُهُ بذلك المَالِ مُسْتَعْلِياً على تَعَلُّق مالكه به، فصحَّ أن يوصف المَالِكُ بأنَّه قد استَحَقَّ عليه ذلك المال، وإنما وَصَفهُمَا بأنَّهُما أولَيَان لِوَجْهَيْن: الأول: معنى الأوليان: الأقْرَبان إلى الميِّت. الثاني: يَجُوزُ أن يكُون المَعْنَى الأوليان باليَمينِ؛ لأن الوصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ الميِّت قد باعَ الإنَاء الفِضَّة، فانْتَقَلَتِ اليَمِينُ إلى موالي الميِّت؛ لأنَّ الوَصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ مُورثَهُمَا باعَ الإنَاء، وهما أنْكَرَا ذلك، فكان اليَمِينُ حقًّا لهما؛ لأنَّ الوَصِيَّ إن أخَذَ شيئاً من مال الميِّت، وقال: إنه أوْصَى لِي به حَلَف لِلْوَارِثِ إذا أنْكَرَ ذلك، وكذا لو ادّعَى رجُلٌ سِلْعَةً في يدِ رجلٍ فاعْتَرَفَ، ثمَّ ادَّعى أنَّهُ اشْتَراها من المدَّعِي، حلف المُدَّعِي أنَّه لم يَبِعْها منه، وهذا كما لو أنَّ إنْسَاناً أقَرَّ لآخر بِدَيْنٍ، ثم ادّعى أنه قَضَاهُ، حُكِمَ بِرَدّ اليمينِ إلى الذي ادّعى الدَّيْن أوَّلاً؛ لأنَّه صارَ مُدَّعىً عليه أنه قد اسْتَوْفَاه. فصل اختلفوا في كَيْفِيَّة ظُهُور الإنَاء، فَرَوَى سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ: أنه وُجِدَ بمَكَّةَ، فقالوا: إنَّا اشْتَرَيْنَاه من تَمِيمٍ وعَدِيٍّ، وقيل: لما طَالَتِ المُدَّةُ أظهرُوهُ، فبلغ ذلك بني سَهْمٍ فَطَلَبُوهُمَا، فقالا: إنَّا كنا قد اشْتَرَيْنَاه منه، فقالُوا: ألم نَقُل لكم هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شيئاً من مَتاعِهِ، فَقُلْتُمَا: لا، قالا: لم يَكُنْ عندنا بيِّنةٌ، فكرهنا أن نُقِرَّ لَكُم بِهِ، فكَتَمْنَا لذلك، فرفَعُوهُمَا إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: ﴿فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا﴾ الآية، فقام عَمْرُو بنُ العَاصِ والمطَّلِبُ بن أبي وَداعة السَّهْمِيَّان، فحلفا باللَّهِ بعد العَصْرِ، فَرَفَع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الإنَاءَ لَهُما، وإلى أوْلِيَاء الميِّتِ، فكان تَمِيمٌ الداري يقول بعدما أسْلَمَ: صدقَ اللَّهُ ورسُولُه أنا أخَذْتُ فأنَا أتُوبُ إلى اللَّه تعالى. وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ بقيت تلك الوَاقِعَةُ مَخْفِيَّةً إلى أن أسْلَمَ تَمِيمٌ الدَّاري، فلما أسْلَمَ أخْبَرَ بذلك، فقال: حَلَفْتُ كاذباً أنا وصَاحِبِي، بعْنَا الإنَاءَ بألفٍ وقَسَّمْنَا الثَّمنَ، ثمَّ دَفَعَ خمسمائة دِرْهَم من نفسه، ونزعَ من صاحبه خمسمائةً أخرى، ودفع الألْفَ إلى مَوَالِي الميِّت، فكذلك قوله: ﴿ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ﴾ ، أي: ذلك الذي حَكَمْنَا به من رَدِّ اليَمينِ، أجدر وأحْرَى أن يَأتِي الوَصِيَّان بالشَّهَادَة على وجهها، وأدْنَى معناه: أقْرَبُ إلى الإتيان بالشَّهَادَة على ما كانت ﴿أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي: أقْرَبُ إلى أن يَخَافُوا رَدَّ اليمينِ بعد يَمينهمْ على المُدَّعِي، فيحلفوا على خِيَانَتِهِم وكذبهم، فَيَفْتَضِحُوا ويغرمُوا، فلا يَحْلِفُون كَاذِبين إذا خَافُوا هذا الحُكْمَ، «واتَّقُوا اللَّهَ» : أنْ تَحْلِفُوا أيْماناً كَاذِبَةً، أو تَخُونُوا أمَانَةً، «واسْمَعُوا» : الموعظة، ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ ، وهذا تَهْديدٌ ووعيدٌ لِمنْ يُخَالِفُ حُكْم اللَّهِ وأوَامِرِهِ. روى الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في «البَسِيطِ» ، عن عُمَر بن الخطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ قال: هذه الآية أعْضَلُ ما في هذه السُّورَةِ من الأحْكَامِ. ولنَرْجِع إلى إعرابِ بقيَّة الآيَة. قوله «ذلك أدْنَى» لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لاستئنافِها، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيله، أي: ما تقدَّم ذكرُه من الأحْكَامِ أقربُ إلى حصولِ إقامةِ الشَّهادة على ما ينبغي، وقيل: المشارُ إليه الحَبْسُ بعد الصلاة، وقيل: تحليفُ الشاهدين، و «أنْ يَأتُوا» أصلُه: «إلى أنْ يأتُوا» ، وقدَّره أبو البقاء ب «مِنْ» أيضاً، أي: أدْنَى من أن يأتُوا، وقدَّره مكيٌّ بالباء، أي: بِأنْ يَأتُوا، قال شهاب الدين: وليْسَا بواضحَيْنِ، ثم حذفَ حرفَ الجر، فَنَشَأ الخلافُ المشهور، و «عَلَى وَجْهِهَا» متعلِّقٌ ب «يَأتُوا» ، وقيل: في محلِّ نَصْبٍ على الحال منها، وقدَّره أبو البقاء ب «محققة وصَحِيحَة» ، وهو تفسيرُ معنًى؛ لما عرفْتَ غير مرة من أنَّ الأكوانَ المقيَّدة لا تُقَدَّر في مثله. قوله: «أوْ يَخَافُوا» في نصبه وجهان: أحدهما: أنه منصوب؛ عطفاً على «يَأتُوا» ، وفي «أوْ» على هذا تأويلان: أحدهما: أنها على بابها من كونها لأحدِ الشيئين، والمعنى: ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي، أو خوفِ رَدِّ الأيمانِ إلى غيرهم، فتسقطُ أيمانهم، والتأويلُ الآخر: [أن] تكون بمعنى الواو، أي: ذلك الحُكْمُ كله أقربُ إلى أنْ يَأتُوا، وأقربُ إلى أن يَخَافُوا، وهذا مفهومٌ من قول ابن عبَّاسٍ. الثاني من وجهي النصب: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» بعد «أوْ» ، ومعناها هنا «إلاَّ» ؛ كقولهم: «لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَني حَقِّي» ، تقديره: إلاَّ أنْ تَقْضِيني، ف «أوْ» حرفُ عطفٍ على بابها، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أنْ» وجوباً، و «أنْ» وما في حيِّزها مُؤوَّلةٌ بمصْدرٍ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعلِ قبله، فمعنى: «لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي» : لَيَكُونَنَّ منِّي لُزُومٌ لك أو قَضَاؤُكَ لِحَقِّي، وكذا المعنى هنا أي: ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادةِ على وجهها؛ وإلاَّ خَافُوا رَدَّ الإيمانِ، كذا قدَّره ابن عطية بواوٍ قبل «إلاَّ» ، وهو خلافُ تقدير النحاة؛ فإنَّهمْ لا يقدِّرون «أوْ» إلا بلفظ «ألاَّ» وحدها دون واو، وكأن «إلاَّ» في عبارته على ما فهمه أبو حيان ليسَتْ «إلاَّ» الاستئنائيةَ، بل أصلُها «إنْ» شرطيةً دخلتْ على «لاَ» النافيةِ فأدْغِمَتْ فيها، فإنه قال: «أو تكون» أو «بمعنى» إلاّ إنْ «، وهي التي عبَّر عنها ابن عطيَّة بتلك العبارةِ من تقديرها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاءٍ» . انتهى، وفيه نظرٌ من وجهَيْن: أحدهما: أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ، أعني كون «أوْ» بمعنى الشرط. والثاني: أنه بعد أنْ حَكَمَ عليْهَا بأنها بمعنى «إلاَّ إنْ» جعلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه. و «أنْ تُرَدَّ» في محلِّ نَصْبٍ على المفعُولِ به، أي: أو يَخَافُوا رَدَّ أيمانهم. و «بَعْدَ أيْمَانِهِمْ» : إمَّا ظرفٌ ل «تُرَدَّ» ، أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ على أنها صفةٌ ل «أيْمَان» ، وجُمِعَ الضميرُ في قوله «يَأتُوا» وما بعده، وإنْ كان عائداً في المعنى على مثنى، وهو الشاهدان، فقيل: هو عائدٌ على صنفي الشاهدين، وقيل: بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كُلِّهِمْ، معناه: ذلك أولى وأجدرُ أنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ، فيَتَحَرَّوْا في شهادتهم؛ خَوْفَ الشناعةِ عليهم والفَضِيحةِ في رَدِّ اليمينِ على المُدَّعِي، وقوله: «واتَّقُوا الله» لم يذكر متعلَّق التقوى: إمَّا للعلْمِ به، أي: واتقوا اللَّهَ في شهادِتكُمْ وفي الموصينَ عليهم بأن لا تَخْتَلِسُوا لهم شيئاً؛ لأن القصَّةَ كانت بهذا السَّببِ، وإمَّا قَصْداً لإيقاع التقوى، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقَى منه، وكذا مفعولُ «اسْمَعُوا» إنْ شئتَ حذفته اقتصاراً أو اختصاراً، أي: اسْمَعُوا أوامِرَهُ من نَوَاهِيه من الأحكام المتقدِّمة، وما أفْصَحَ ما جيء بهاتَيْن الجملتَيْن الأمريتَيْن، فتباركَ اللَّهُ أصْدَقُ القائلِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب