الباحث القرآني

قوله: ﴿قالوا أَرْجِهْ﴾ في هذه الكلمة هنا وفي «الشُّعراءِ» [36] ست قراءات في المشهور المتواتر، ولا التفات إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمن أنكر على روايها. وضبط ذلك أنْ يقال: ثلاث مع الهَمْزِ وثلاث مع عدمه. فأمّا الثَّلاثُ التي مع الهمزة فأولُها قراءة ابن كثير، وهشام عن ابن عامر: أرجِئْهو بهمزة ساكنة، وهاء متصلة بواو. والثانية: قراءة أبي عَمْرو: أرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنَّه لم يصلها بواو. الثالثة: قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر: أرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صفة. وأمّا الثَّلاثُ التي بلا همة فأوَّلهَا: قراءة الأخوين: «أرْجِهْ» بكسر الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً. الثانية: قراءة الكسائيِّ، وورشٍ عن نافعٍ: «أرْجِهِي» بهاء متصلة بياء. الثالثة: قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء. فأمّا ضمُّ الهاء وكسرها فقد عُرف مما تقدَّم. وأمَّا الهمزُ وعدمه فلغتان مشهورتان يقال: أرْجَأته وأرْجَيْتُه أي: أخَّرته، وقد قرئ قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَن تَشَآءُ﴾ [الأحزاب: 51] بالهَمْزِ وعدمه، وهذا كقولم: تَوَضَّأتُ وتَوَضَّيْتُ، وهل هما مادتان أصليتان أم المبدل فرع الهمز؟ احتمالان. وقد طعن قَوْمٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسي: «ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز [غيره] ، ورواية ابن ذُكْوَان عن ابن عامر غلطٌ» . وقال ابنُ مُجَاهدٍ: «وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الهَاءَ لا تكسَرُ إلاَّ بعد كسرة أو ياء ساكنة» . وقال الحُوفِيُّ: «ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهَمْزِ وليس بجيِّد» . وقال أبو البقاءِ: «ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف؛ لأنَّ الهمزة حرف صحيحٌ ساكنٌ، فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر» . وقد اعتذر النَّاس عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين: أحدهما: أن الهَمْزَة ساكنةٌ والسَّاكن حاجزٌ غير حصين، وله شواهدٌ [مذكورة في موضعها] ، فكأنَّ الهاء وليست الجيم المكسورة فلذلك كُسِرت. [الثاني: أن الهمزة كثيراً ما يطرأ عيلها التغيير وهي هنا في معرض أن تبدل ياء ساكنة لسكونها بعد كسره فكأنها وليت ياء ساكنة فلذلك كسرت] . وقد اعترض أبُو شَامَةَ على هذين الجوابين بثلاثةِ أوجه: الأولُ: أنَّ الهمز حاجز معتدٌّ به بإجماع في ﴿أَنبِئْهُم﴾ [البقرة: 33] ، ﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾ [القمر: 28] والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكَسْرِ والضمّ. الثالث: أنَّ الهمز لو قلب يَاءٌ لكان الوَجْه المختارُ ضمّ الهاء مع صريح الياءِ نظراً إلى أنَّ أصلها همزة، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاء مع صريح الهَمزةِ، وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام، فضمُّ الهَاء مع الهمزةِ هو الوَجْهُ. وقد استضعف أبُو البقاءِ قراءة ابن كثير وهشام فإنَّهُ قال: «وَأرْجِئْهُ» يقرأ بالهمزة وضمِّ الهاء من غير إشابع وهو الجيِّد، وبالإشباع وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الهاء خفيَّة، فكأنَّ الواو التي بعدها تتلو الهمزة، وهو قريبٌ من الجمع بين السَّاكنين ومن هاهنا ضَعْف قولهم: «عليهمي مال» بالإشْبَاع. قال شهابُ الدِّينِ: «وهذا التَّضْعيف ليس بشيء؛ لأنَّهَا لغة ثابتة عن العَرَبِ، أعني إشباع حركة الهاء بعد ساكن مطلقاً، وقد تقدَّم أنَّ هذا أصل لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللَّفْظَةِ، بل قاعدته كلُّ هاء كناية بعد ساكن أنْ تُشْبع حركتها حتى تتولَّد منها حرف مدِّ نحو:» منهو، وعنهو، وأرجِئْهو» إلاَّ قبل ساكن فإن المدَّ يُحذفُ لالتقاء الساكنين إلاَّ في موضع واحد رواه عنه البَزِّيُّ وهو ﴿عَنْهُ تلهى﴾ [عبس: 10] بتشديد التَّاءِ، ولذلك استضعف الزَّجَّاج قراءة الأخوين قال بعد ما أنشد قول الشَّاعر: [الرجز] 2539 - لَمَّا رَأى أنْ لا دَعُهُ وَلاَ شِبَعْ ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقْفٍ فَالطَجَعْ «هذا شعرٌ لا يعرف قائله ولا هو بِشَيءٍ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له: أخطأت؛ لأنَّ الشَّاعر يجوز أن يخطئ مذهب لا يُعَرَّج عليه» . قال شهابُ الدِّين: «وقد تقدَّم أنَّ تسكين هاء الكناية لغة ثابتة، وتقدَّم شواهدها، فلا حاجةَ إلى الإعادة» . قوله: «وَأخَاهُ» الأحسنُ أن يكون نسقاً على الهاء في «أرْجِهْ» ويضعف نصله على المعيَّة لإمكان النَّسق من غير ضعف لَفْظي ولا معنوي. قال عطاءٌ: «معنى أرْجِهْ أي أخّره» . وقيل: احبسه وأخاه، وهو قول قتادة والكَلْبِي، وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أنَّ الإرجاء في اللُّغَةِ هو التَّأخير لا الحبس. والثاني: أنَّ فرعونَ ما كان قادراً على حبس موسى بعد أنْ شاهد العصا فأشاروا عليه بتأخير أمره وترك التَّعَرُّضِ إليه بالقتل. قوله: ﴿وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ﴾ . » فِي المَدَائِنِ «متعلق ب» أرْسِلُ» ، و «حَاشِرينَ» مفعول به، ومفعول» حَاشِرِين «محذوفة أي: حاشرين السَّحَرة، بدليل ما بعده. و» المَدائِنُ» جمع مَدينَةٍ، وفيها ثلاثُة أقوال: أصحها: أنَّ وزنها فعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة مشتقة من مَدُنَ يَمْدُنُ مدوناً أي قام، واستدلَّ لهذا القول بإطْبَاقِ القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة، وإذا كانت من نفس الكلمةِ لم تهمز نحو: معايش ومعيشة، [ولو كانت مفعلة لم تهمز نحو: مَعِيشَةِ ومعايش ولأنَّهُم جمعوها أيضاً على مُدنٍ كقولهم سفينةٍ وسُفُنٍ وصُحُفٍ] . قال أبُو حيَّان: «ويقطعُ بأنَّها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا: مدن كما قالوا صُحْفٌ في صحيفة» . قال شهابُ الدِّين: «قد قال الزجاجي: المدن في الحقيقةِ جمع المدين، لأنَّ المدينة لا تُجْمَععْ على مُدُن ولكن على مدائن ومثل هذا سفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سفن» ولا أدري ما حمله على جعل مدن جمع مدين، ومدين جمع مدينة مع اطَّراد فُعُل على فَعِيلَةٍ لا بمعنى مفعولة، اللهم إلا أن يكون قد لحظ في مدينة أنَّهَا فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنَّ معنى المدينةِ أن يمدن فيها أي يقام، ويُؤيِّدُ هذا ما سيأتي أنَّ مدينة وزنها في الأصْلِ مديونة عند بعضهم. القول الثاني: أن وزنها مفعلة من دَانَهُ يَدِينُهُ أي ساسه يَسُوسُهُ، فمعنى مدينة أي مَمْلُوكَة ومسوسة أي مَسُوسٌ أهلها من دانهم ملكهم إذا سَاسَهُم، وكان ينبغي أن يجمع على مداين بصريح الياء كمعايشَ في مشهور لُغَةِ العَرَبِ. الثالث: أن وزنها مفعولة، وهو مَذْهَبُ المبرِّد قال: «هي من دَانَهُ يَدينُهُ إذا ملكه وَقَهَرَهُ، وإذا كان أصلها مديونة فاستثقَلُوا حركة الضَّمَّة على الياء فسكنوها، ونقلوا حركتها إلى ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الواو والمزيدة الَّتي هي واو المفعول، والياء التي هي من نفس الكلمة، فحذفت الواو؛ لأنَّها زائدة، وحذف الزَّائد أولى من حذف الحرف الأصلي، ثم كَسَرُوا الدَّال لتسليم الياء، فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها، فتختلط ذوات الواو بذوات الياءِ، وهكذا تقولُ في المبيع والمخيط والمكيل فلاَ ينقلب واواً لانضمام ما قبلها ذوات الواو، والخلاف جارٍ في المحذوف، هل هو الياء الأصليّة؟ أو الواو الزائدة؟ الأوَّلُ قول الأخْفَشِ، والثَّاني قول المَازني، وهو مذهب جماهير النُّحَاةِ. * فصل في تعريف «المدينة» المدينةُ معروفةٌ، وهي البُقعةُ المسورة المستولي عليها ملك وأرادَ مدائن صعيدِ مِصْرَِ، أي: أرسل إلى هذه المدائن رجالاً يحشرون إليك من فيها من السَّحرةِ، وكان رؤساء السَّحرةِ بأقْصَى مدائن الصَّعيدِ. ونقل القاضي عن ابن عباس أنَّهُم كانوا سَبْعِينَ سَاحِراً سوى رئيسهم، وكان الذي يعلمهم رجلي مَجُوسِيِّيْنِ من أهْلِ» نينوى «بلدة يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وهي قرية بالموصل. قال ابن الخطيب:» وهذا النَّفْلُ مشكل؛ لأنَّ المَجُوسَ أتباع زرادشت، وزرادشت إنَّما جاء بعد مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب