الباحث القرآني

قوله تعالى ذكره: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ﴾، إلى قوله ﴿إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾، هذا يدل على أن موسى دعاه إلى طاعة رب العالمين. قال فرعون: ﴿وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ﴾، فهذا حذف، واختصار يدل عليه جواب فرعون. وهذا من إعجاز القرآن، وإِيتان اللفظ القليل بالمعاني الكثيرة. ومثل هذا لا يوجد في كلام الناس: أي: قال فرعون: وأي: شيء رب العالمين. قال موسى ﴿قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ﴾ أي: مالكهن ﴿وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾، فأجابه موسى بصفات الله التي يعجز عنها المخلوقون، ولم يكن عنده رد على موسى غير أن قال لمن حوله: ﴿أَلاَ تَسْتَمِعُونَ﴾، أي: ألا تستمعون جواب موسى، لأن فرعون سأل موسى عن الأجناس أي: من أي: جنس رب العالمين فلما لم يكن الله جلّ ذكره جنساً من الأجناس المعلومات ترك جوابه، وأجابه بدلالة أفعال الله، ومحدثاته من السماوات والأرض، ولم يخبره أنه جنس إذ لا يجوز، فعجّب فرعون قومه من جواب موسى له فقال لمن حوله من القبط: ألا تستمعون إلى قول موسى، فزادهم موسى من البيان ما هو أقرب عليهم من الأول وأقرب إلى أفهامهم، فقال لهم ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ﴾، أي الذي دعوته إليه وإلى عبادته: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ﴾، أي: خالقكم، وخالق آبائكم الأولين فدل عليه بأفعاله، وترك ظاهر جواب فرعون، لأنه سأل عن الجنس، والأجناس كلها محدثة، فلم يجبه موسى عن ذلك إذ سؤاله ممتنع، وأجابه بأفعاله الدالة على قدرته، وتوحيده، فأتى بدليل يقرب من أفهامهم فلم يحتجّ فرعون عليه فيما قال بأكثر من أن نسبه إلى الجنون، لأنه قد قرر عند قومه أنه لا رب لهم غيره. فقال: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾، أي: لمغلوب على عقله، لأنه يقول قولاً لا نعرفه ولا نفهمه؛ يُلبس بذلك على قومه. يريد فرعون أن موسى مجنون إذ أجابني بغير ما سألته عنه، فلم يجبهم موسى إلا بما يجوز أن يوصف به رب العالمين. فقال موسى عند ذلك محتجّاً على فرعون وزائداً له في البيان ﴿رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ﴾، أي: مشرق الشمس، ومغربها وما بينهما من شيء. ﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ما يقال لكم فأخبرهم أن ملك الله جلّ ذكره ليس كملك فرعون الذي لا يملك إلا بلداً واحداً، فلما علم فرعون صحة ما يقول موسى وتبين له ولقومه ذلك توعد موسى استكباراً وتجبراً فقال ﴿لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ﴾، أي: لئن أقررت بمعبود غيري لأسجننك مع من في السجن من أهله، فرفق به موسى، وقال له ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ﴾، أي: بآية ظاهرة تدلك على صدق ما نقول، وما ندعوك إليه إن قبلت، قال له فرعون: فأت بها إن كنت صادقاً، فإني لا أسجنك بعد ذلك ﴿فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾، أي: تحولت ثعباناً ذكراً، وهي الحية. ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾، أي: أخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء تلمع للناظرين من غير برص. قيل: كان بياضهما يغلب على ضوء الشمس. وقيل: نزعها من قميصه. وقال المنهال: ارتفعت الحية في السماء قدر ميل، ثم سفلت حتى صار رأس فرعون بين نابيها فجعلت تقول: يا موسى: مرني بما شئت، فجعل فرعون يقول: يا موسى أسألك بالذي أرسلك قال: فأخذه بطنه، ثم قال فرعون للملا حوله أي للأشراف من قومه ﴿إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾، قال ذلك بعدما أراه الآيتين، وأزال عنه ما خاف منه من الثعبان أن يبتلعه فلم يمكنه إنكار ما رأى فقال لقومه، ما قال عند ذلك: ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾، أي: يريد أن يخرج بني إسرائيل من أرضكم إلى الشام بقهره إياكم بالسحر، فالخطاب منه لأشراف قومه من القبط والمراد بنو إسرائيل لأن القبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل. فالمعنى: يريد أن يخرج خدمكم من أرض مصر إلى الشام، ويبين هذا قوله في طه: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ﴾ [طه: ٤٧] وقوله: ﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ١٧]، ثم قال فرعون لأشراف قومه من القبط: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ يشاورهم في أمر موسى فهذان كلامان اتصلا باللفظ، وهما من آيتين ومثله: اتصال كلام يوسف بكلام امرأة العزيز في قولها ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٥١] انقضى كلام امرأة العزيز فقال يوسف ﴿ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ﴾ [يوسف: ٥٢] ومثله اتصال كلام بلقيس بكلام الله جلّ ذكره في قولها: ﴿وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً﴾ [النمل: ٣٤] تم كلامها فقال الله جل ذكره: ﴿وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤] وقد قيل: إنه من كلام سليمان عليه السلام، ولهذا نظائر كثيرة ﴿قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾، أي: أخرهما ﴿وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ﴾، يجمعون إليك، كل ساحر علم بالسحر. * * * ثم قال تعالى: ﴿فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾، أي: فجمع الحاشرون السحرة لوقت معلوم، تواعد فرعون وموسى بالاجتماع فيه وذلك يوم الزينة. ﴿وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى﴾ [طه: ٥٩]، ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ﴾، لتنظروا لمن الغلبة ألموسى أم للسحرة؟ وقيل: المعنى: وقال بعض الناس لبعض: هل أنتم مجتمعون لننظر لمن الغلبة لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين موسى. وروى: أن الاجتماع كان بالاسكندرية قاله ابن زيد. فبلغ ذنب الحية يومئذ من وراء البحيرة وهربوا وأسلموا فرعون فهمّت به فقال: خذها يا موسى، وكان مما يلي الناس به منه أنه لا يضع على الأرض شيئاً فأحدث يومئذٍ تحته، وكان إرساله الحية في القبة الخضراء. فكل ذلك قاله ابن زيد. وقال ابن لهيعة: كان فرعون لحيته خضراء، وكانت تضرب ساقه إذا رهب، وكانت له جمة خضراء مثل ذلك من خلفه، وكان إذا ركب غطى شعره، من خلفه الظهر، ومن بين يديه لحيته. * * * ثم قال: ﴿فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً﴾، أي: لما جاء السحرة فرعون لموسى قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً قبلك على سحرنا إن كنا نحن الغالبين موسى. قال لهم فرعون: نعم لكم الأجر قبلي إن غلبتهم وإنكم إذا غلبتهم لمن المقربين مني، فقالوا عند ذلك لموسى ﴿إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ﴾ [الأعراف: ١٥]، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه وقد نصه تعالى في غير هذا الموضع ولم يحذفه للإفهام وحذفه هنا للاختصار والإيجاز، ودلالة الكلام عليه. فقال لهم موسى ﴿أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾، يعني من حبالهم وعصيهم، فألقوا ذلك. ﴿وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ﴾، أي: أقسموا بعزة فرعون وسلطانه ﴿إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ﴾، موسى ﴿فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ﴾، حين ألقت السحرة حبالها وعصيها ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾، أي: تزدري ما يأتون به من القرية والسحر الذي لا حقيقة له. روي: أن حبالهم وعصيهم كانت حمل ثلاث مائة بعير، فابتلعت العصا جميع ذلك، ثم دنا موسى فقبض عليها بيده فصارت عصا، كما كانت أولاً وليس لتلك الحبال والعصي أثر، فألقي السحرة عند ذلك ساجدين مذعنين أي تبين لهم كذب ما أتوا به وصدق ما جاء به موسى وإنه لا يقدر على ذلك ساحر، وقالوا في سجودهم ﴿آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾، الذي دعا موسى إلى عبادته. ﴿رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ﴾، والتقدير: فألقي الذين كانوا السحرة ساجدين لأنهم لم يسجدوا حتى آمنوا، وزال عنهم ذنب السحر فلا يسموا سحرة إلا على ما كانوا عليه. وذكر ابن وهب عن القاسم بن أبي بزة أنه قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل موسى ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ﴾ [طه: ٦٦] فأوحى الله إليه ﴿أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ [الأعراف: ١١٧] فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبين فاغرٌ فاه يبلع حبالهم وعصيهم، فألقى السحرة عند ذلك ساجدين، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلها، فعند ذلك قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، قال: وكانت امرأة فرعون تسأل: من غلب؟ فيقال غلب موسى وهارون. فتقول: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن هي رجعت عن قولها فهي امرأته فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قولها وانتزع روحها فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح. قوله: قال فرعون ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾، أي: قال فرعون للسحرة آمنتم له أي: بأنّ ما جاء به حق ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾، في ذلك أي: قبل أن آمركم به. قال ابن زيد: خطاياهم: السحر، والكفر اللذان كانوا عليهما. قال ابن زيد: كانوا يومئذ أول من آمن بموسى، وكان قد آمن بموسى ست مائة ألف وسبعون ألفاً من بني إسرائيل، فأول من آمن من عند ظهور الآية السحرة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب