الباحث القرآني

قوله تعالى ذكره: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾. أي: تأتون الرجال في أدبارهم، وتقطعون الطريق على المسافرين. روي أنهم كانوا يفعلون ذلك بمن يمر بهم من المسافرين، ومن يرِدُ ديارهم من الغرباء، قاله ابن زيد. روي أنهم كانوا - مع فسقهم - يقطعون الطريق ويقتلون ويأخذون الأموال حتى انقطعت الطريق فلا يسلكها أحد. * * * وقوله: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ﴾. روي عن عائشة أنه الفراط، يعني أنهم كانوا يتفارطون في مجالسهم. وروت أم هانئ أنها سألت النبي ﷺ عن قوله تعالى ذكره: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ﴾ قال: "كانوا يَخْذِفون أهلَ الطريقِ ويَسْخَرُونَ منهم، فهوَ المنكر الذي كانوا يأتون"، وقاله عكرمة والسدي. وقال مجاهد: المنكر هنا أنهم كانوا يجامع بعضهم بعضاً في المجالس. وهو قول قتادة وابن زيد. والحديث المروي عن النبي ﷺ أولى بالاتباع. وروي ذلك عن ابن شهاب: "إنّ على مَنْ عمِلَ عمَلَ قومِ لوطٍ الرجم أُحْصِنَ أو لم يُحْصَن قال مالك: إذا شهدَ على الفاعل والمفعول به أربعة شهداء عدول رُجما، ولا يرجمان حتى يُرى كما يرى المِرْوَد في المِكحلة أُحْصِنَا أو لم يُحْصَنَا إذا كانا قد بلغا الحُلمَ. وقد روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: "اقتلوا الفاعلَ والمفعولَ بهِ وقال عليّ بن أبي طالب: يحرق الفاعل والمفعول به في النار. وروي أن أبا بكر شاور علياً في هذا فأمر بحرقهما. وفعل ابن الزبير مثل ذلك في أيامه، وفعله هشام ابن عبد الملك. وقيل إنما فعلوا الحرق بعد القتل. وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ "أمر برجمِهما" وأكثر الروايات عن النبي ﷺ في ذلك "القتل لهما جميعاً" وفي بعض الحديث: "ومن وقَعَ على ذاتِ مَحْرَمٍ فاقتلوهُ وروى أنس أن النبي ﷺ قال: "إذا علا الذّكرَ الذّكَرُ اهتزّ العرشُ وقالت السماوات: يا ربّ مُرْنا أن نَحْصِبَهُ، وقالتِ الأرضُ: يا ربِّ مُرْنَا نَبْتَلِعَهُ، فيقولُ: دعوهُ فإنّ ممرَّهُ بي ووقوفَهُ بينَ يديَّ ثم قال تعالى ذكره: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ﴾ أي: ما جاوب لوطاً قومه لما نهاهم عن المنكر، وخوفهم من عذاب الله إلاّ أن قالوا: جئنا بعذاب الله الذي توعدنا به إن كنت صادقاً في قولك. ﴿قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾ أي: قال لوط مستغيثاً لما استعجله قومه بالعذاب: يا ربّ انصرني على القوم المفسدين . * * * ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ﴾ أي: جاءته الملائكة من الله بالبشرى بإسحاق ومن ولده بيعقوب. ﴿قَالُوۤاْ إِنَّا مُهْلِكُوۤ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ﴾ وهي: سدوم قرية قوم لوط. ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ أي: ظالمين أنفسهم بمعصيتهم الله. * * * ثم قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً﴾ أي: قال ذلك إبراهيم عليه السلام. قال ابن عباس: فجادل إبراهيمُ الملائكة في قوم لوط عليه السلام أن يتركوا، فقال أرأيتم إن كان فيها عشرة أبيات من المسلمين أتتركونهم؟ فقالت الملائكة: ليس فيها عشرة أبيات ولا خمسة ولا أربعة ولا ثلاثة ولا اثنان، فقال إبراهيم: إن فيها لوطاً. ﴿فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ﴾ أي: من الباقين في العذاب. وقيل: المعنى كانت من الذين أبقتهم الدهور والأيام وتطاولت أعمارهم، فإنها هالكة مع قوم لوط. وحسن وصفها بلفظ المذكر، فقال من الغابرين ولم يقل من الغابرات لما كانت مع الرجال، فجعل صفتها كصفتهم. وروي أن إبراهيم ﷺ قال للملائكة: إن كان فيهم مائة يكرهون هذا أتهلكونهم؟ قالوا: لا قال: فإن كان فيهم تسعون قالوا: لا، إلى أن بلغ إلى عشرين. قال: إن فيها لوطاً. قالت الملائكة: نحن أعلم بمن فيها. روي أنه كان في المدينة أربع مائة ألف. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ﴾ أي: ساءته الملائكة بمجيئهم إليه، وذلك أنهم تضيفوه فرأى جمالهم وحسنهم فخاف عليهم من قومه، إذ قد علم أنهم كانوا يظلمون مثلهم في حسنهم وجمالهم فساؤوه بذلك. قال قتادة: ساء ظنّه بقومه وضاق بضيفه ذرعاً لما علم من حيث فعل قومه. قال ابن أبي عروبة: كان قوم لوط أربعة آلاف ألف، فلما رأت الرّسل غمّه وخوفه عليهم من قومه، قالت الرسل للوط: لا تخف علينا أن يصل إلينا قومك ولا تحزن مما أخبرناك من أنا مهلكوهم، فإنا ننجيك وأهلك إلاّ امرأتك. * * * ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ﴾ أي: عذاباً بفسقهم. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً﴾ أي: أبقينا فعلتنا بهم عبرة وعظة ظاهرة لقوم يعقلون عن الله حججه وتلك الآية: اندراس آثارهم ومعالمهم. ونتبع الحجارة إياهم حيث كانوا. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ أي: وأرسلنا إلى مديَن أخاهم شعيْباً. فقال لهم يا قوم اعبدوا الله وحده وارجوا بعبادتكم إياه اليوم الآخر، أي: جزاء اليوم الآخر وهو يوم القيامة. ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ أي: لا تكثروا الفساد في الأرض بمعصية الله تعالى وإقامتكم عليها. ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ﴾ أي: فكذب أهل مدين شعيباً فيما جاءهم به عن الله جلّ ذكره، فأخذهم العذاب، فأصبح بعضهم على بعض جثوماً موتاً في ديارهم. قال قتادة: أرسل شعيب مرتين إلى أمتين، إلى أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وكان شعيب من ولد مدين، وأهل مدين من ولده أيضاً، فلذلك قال: أخاهم، ولم يكن بين شعيب وأصحاب الأيكة نسب فلذلك لم يقل أخاهم. قال قتادة: جاثمين: ميتين. وأصله المد والسكون وقطع الحركة. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ﴾ نصب عاد وثمود عند الكسائي على العطف على قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٣] وفتنا عاداً وثموداً. وقال الزجاج: التقدير: وأهلكنا عاداً وثموداً. وقال الطبري: التقدير: واذكر عاداً وثموداً، وقد تبيّن لكم من مساكنهم، يعني خرابها وخلاءها منهم. ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: حسّنها لهم فتمادوا على كفرهم وتكذيبهم. ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ﴾ أي: عن سبيل الله. ﴿وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ﴾ أي: في ضلالتهم، أي: معجبين بها، يحسبون أنهم على هدى وصواب، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة. وقيل: المعنى: كانوا قد عرفوا الحق من الباطل. فهو مثل قوله تعالى ذكره: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤]. قال تعالى: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾. هذا معطوف على عاد على الاختلاف المتقدم. ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ﴾ أي: الآيات الواضحات. ﴿فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ﴾ أي: عن التصديق بالآيات. ﴿وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ﴾ أي: فائتين بأنفسهم، بل القدرة عليهم غالبة من الله. * * * ثم قال تعالى: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾ أي: فأخذنا جميع هذه الأمم المذكورة بذنوبهم وأهلكناهم. ﴿فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً﴾ أي: حجارة من سجيل والعرب تسمي الريح التي تحمل الحصى حاصباً. وهم قوم لوط. ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ﴾ قال ابن عباس: هم ثمود. وقال قتادة هم قوم شعيب. ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ﴾ قال ابن عباس وقتادة: هو قارون. ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾ قال ابن عباس: هم قوم نوح. وقال قتادة هم قوم فرعون. ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أي: وما كان الله ليهلك هذه الأمم بغير ذنب. ﴿وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي: بعبادتهم غير من ينعم عليهم ويرزقهم. * * * ثم قال تعالى: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً﴾ أي مثل من اتخذ من دون الله آلهة في ضعف ما يرجون منها كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة حيلتها اتخذت بيتاً ليُكِنّها، فلم يغن عنها شيئاً عند حاجتها، فكذلك هؤلاء الذين عبدوا الأوثان لتنفعهم عند حاجتهم إليها. قال ابن عباس: هو مثلٌ ضربه الله لمن عبد غيره. ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي: إن أضعف البيوت لبيت العنكبوت لو علموا ذلك يقيناً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب