الباحث القرآني

قوله تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً﴾ إلى قوله: ﴿مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾. أي: ولقد أعطينا داود منا فضلاً، وقلنا للجبال ﴿يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ أي: سبحي معه إذا سبح، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد. والتأويب في كلام العرب: الرجوع، ومبيت الرجل في منزله وأهله، وأصله من سرعة رجع أيدي الإبل وأرجلها في السير الحثيث، وهو التأويب. وَقُرِئَتْ "أوبِي" بالتخفيف. من آب يؤوب، بمعنى تصرفي معه. * * * ثم قال: ﴿وَٱلطَّيْرَ﴾ فمن نصب فعلى معنى: سخرنا له الطير، هذا قول أبي عمرو. وقال الكسائي: هو معطوف على "داوود" أي: وآتيناه الطير. ونصبه عند سيبويه على موضع يا جبال. ويجوز أن يكون مفعولاً معه، فيكون المعنى: يا جبال أوبي معه ومع الطير. وقد قرئ بالرفع على العطف على لفظ الجبال أو على المضمر في "أوبي" وحسن ذلك لما فرقت بـ معه. * * * وقوله: ﴿أَنِ ٱعْمَلْ﴾ أن لا موضع لها بمعنى أي، ويجوز أن تكون في موضع نصب على معنى: لأن اعمل. وقيل: التقدير: وعهدنا إليه بأن أعمل، وقاله الطبري. * * * ثم قال: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ﴾. قال قتادة: سخر الله له الحديد بغير نار، فكان يسويه بيده ولا يدخله ناراً ولا يضربه بحديد. وروي أنه كان في يده بمنزلة الطين. وهو أول من سخر له الحديد. وقيل: أعطاه الله قوة يثني بها الحديد. قال الحسن: كان داود يأخذ الحديد فيكون في يده بمنزلة العجين. * * * وقوله: ﴿أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ أي: دروعاً كوامل توام. قال قتادة: كان داود أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ﴾. قال قتادة: كان يجعلها بغير نار ولا حديد، والسرد: المسامير. وقال ابن عباس: السرد حَلَق الحديد. وقاله ابن منبه. والسرد في اللغة كل ما عمل متسقاً متتابعاً يقرب بعضه من بعض ومنه سرد الكلام. ومنه قيل للذي يعمل الدروع زَرَّادٌ وِسِرَّاد. قال وهب بن منبه: كان داود يخرج متنكراً يسأل عن سيرته في الناس فيسمع حسن الثناء عليه، فيزداد تواضعاً لله، وعلى الخير حرصاً، قال: فخرج ذات يوم وبعث الله ملكاً إليه في صورة آدمي، فقال له داود: كيف ترى سيرة هذا العبد داود - ﷺ -، وهو يظن أنه آدمي، فقال له الملك: نِعْمَ العبد داود، ما أنصحه لربه وأقربه من المساكين، لولا خصلة في داود ما كان لله عبد مثل داود، قال له داود: وما تلك الخصلة؟ قال: إنه يأكل من بيت المال وما من عبد أقرب إلى الله جل ذكره من عبد يأكل من كد يمينه، فانصرف داود ودخل محرابه وابتهل إلى ربه وسأله أن يرزقه عملاً بيده يغنيه عن بيت المال، فعلمه الله صنعة الدروع، فكان أول من عمل الدروع وألان الله له الحديد فكان في يده بمنزلة العجين. والمعنى على قول مجاهد: وقدر المسامير في حلق الدرع حتى تكون بمقدار لا يضيق المسمار وتضيق الحلقة فتقسم الحلقة، ولا توسع الحلقة وتصغر المسمار وتدقه فتسلس الحلقة. * * * ثم قال: ﴿وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أيْ اعمل يا داود أنت وأهلك عملاً صالحاً، إني بعملكم بصير. والطير وقف ولا تقف على الحديد أن ما بعده متعلق به. ولا تقف على "بصير" إلاّ على قراءة من رفع. "الريح". فإن نصبته فهو معطوف عند الكسائي، على "وألنا". والتقدير عند الزجاج: سخرنا له الريح. * * * ثم قال: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾ أي: سيرها به إلى انتصاف النهار مسيرة شهر، وسيرها به من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر، قاله قتادة وغيره. قال ابن زيد: كان لسليمان مركب من خشب، وكان له فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت، يركب معه فيه الإنس والجن، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ظل المركب هم والعُصَّارُ - والعصار الريح العاصف - فإذا ارتفع ظله أتت الرُّخاء فسارت به وصاروا معه، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ويمسي عند قوم بينهم وبينه شهر فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلم معه الجيوش والجنود. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ﴾ أي: وأذبنا له عين النحاس كانت بأرض اليمن، قاله قتادة، قال: وإنما ينتفع الناس اليوم مما أخرج الله لسليمان. * * * ثم قال: ﴿وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أي: منهم من يطيعه، يأتمر لأمره فيعمل بين يديه لما يأمره به طاعة لله جل ذكره. فمعنى ﴿[بِإِذْنِ] رَبِّهِ﴾: أمر الله له بذلك، وتسخيره له إياه. فأمن في موضع رفع بالابتداء، والمجرور المتقدم الخبر ويجوز أن تكون "من" في موضع نصب على العطف على ما قبله. والتقدير: وسخرنا له من الجن من يعمل. فتقف على "القطر" في القول الأول، ولا تقف عليه في القول الثاني. * * * ثم قال: ﴿وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ أي: ومن يزل ويعدل من الجن عما أمر به من طاعة سليمان. ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ﴾ في الآخرة وهو عذاب النار المتوقدة. * * * ثم قال تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ﴾ أي: من كل شيء مشرف. والمحراب في اللغة كل شيء مشرف مرتفع، وكل موضع شريف، ومنه قيل للموضع الذي يصلي فيه الإمام محراب لأنه يعظم ويشرف ويرفع. وقيل: المحراب مقدم كل بيت ومسجد ومصلى. قال مجاهد: المحاريب في الآية: بنيان دون القصور. وقال قتادة: "محاريب": قصور ومساجد. قال الضحاك: "محاريب": مساجد. وقال ابن زيد. محاريب مساكن وقراء قوله: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ﴾ [آل عمران: ٣٩]. أي: في مسكنه، وقد تقدم ذكره. * * * ثم قال: ﴿تَمَاثِيلَ﴾ قال مجاهد: تماثيل من نحاس. وقال الضحّاك تماثيل: تماثيل الصور. وهذا عند أكثر العلماء منسوخ بنهي النبي ﷺ عن عمل الصورة، وتوعده لمن عملها أو اتخذها. وكان في ذلك صلاح في الدين أنه بعث على الله عز وجل والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها. وقد قال قوم: عمل الصور جائز بهذه الآية وبما صح عن (المسيح) عليه السلام. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ﴾ أي كالحياض. كانوا ينحتون له ما يشاء من جفان كالحياض، وهو جمع حابيَّة يجبى فيها الماء، أي يجمع. وروي عن مجاهد أن الجوابي جمع جوبة وهي الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها الماء. وقاله أيضاً ابن عباس. وعنه: كالحياض. وهو قول الحسن وقتادة والضحاك. وقيل: إنها كانت تُعمل له كهيئة الطير. * * * ثم قال: ﴿وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾ أي: ثابتات لا تحرك من موضعها لعظمها قال ابن القاسم: قال مالك: "وجفان كالجواب: "كالجوبة من الأرض. قال: "وقدور راسيات" هي قدور لا تحمل ولا تحرك. والجوبة من الأرض: الموضع يستنقع فيه الماء. قال ابن زيد: قدور أمثال الجبال من عظمها يعمل فيها الطعام لا تحرك ولا تنقل، كما قال للجبال راسيات. وعن ابن زيد أيضاً: أنها قدور من نحاس تكون بفارس. وقال الضحاك: هي قدور كانت تعمل من الجبال حجارة. * * * ثم قال تعالى: ﴿ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ أي: اعملوا لله الشكر، أي: من أجل الشكر على نعمه عليكم، فيكون شكراً مفعولاً من أجله. ويجوز أن يكون مصدراً على معنى: اشكروا له شكراً، وقام "اعملوا" مقام اشكروا. وروي أن النبي ﷺ صعد يوماً إلى المنبر قائلاً: "اعملوا آل داود شكراً" فقال: ثلاثة مَنْ أُوتيهن فقد أُوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وَخَشية الله في السر والعلانية وقال مجاهد: لما قال الله جل ذكره: ﴿ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾، قال داود لسليمان: إن الله قد ذكر الشكر، فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا اقدر، قال: فاكفني صلاة الظهر قال: نعم، فكفاه. قال الزهري: اعملوا آل داود شكراً، قولوا: الحمد لله. وروي أن داود عليه السلام كان قد جزأ الصلاة على أهل بيته وولديه ونسائه وأهله، فلم تكن تأتي ساعة من الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داود يصلي فعمتهم هذه الآية ﴿ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾. وروي أن محراب داود صلى الله عليه كان لا يخلو من مصل، فإذا أراد المصلي حاجة لا يخرج حتى يأتي غيره من آل داود يصلي في المحراب. وقال محمد بن كعب: الشكر تقوى الله والعمل بطاعته. وقيل: كل عمل من الخير شكر. وروي أن داود صلى الله عليه قال: إلهي كيف لي أن أشكرك ولا أصل إلى شكرك إلا بمعونتك، فأوحى الله إليه: يا داود، ألسْتَ تَعْلَمُ أن الذي بك من النعم مني؟ قال بلى يا رب، قال: [فإن الرضى بذلك منك، شكر]. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾ أي: قليل منهم الموحدون المخلصون العمل لله. وذكر أبو عبيد في كتاب "مواعظ الأنبياء" أنه لما نزل على داود ﴿ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ قال داود: يا رب كيف أشكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر، فالنعمة منك والشكر منك، فكيف أطيق شكرك؟ قال: يا داود الآن عرفتني حق معرفتي. قال أبو عبد الرحمن الحبلي: الصلاة شكر والصوم شكر، وكل عمل يعمل لله شكر، وأفضل الشكر الحمد. قال محمد بن كعب: كل عمل يبتغى به وجه الله فهو شكر. وأجاز أبو حاتم الوقف على "داوود"، ويبتدئ بـ "شُكْراً"، على معنى: أشكروا شكراً. ولا يجوز عند غيره لأن اعملوا قام مقام اشكروا فلا يفرق بينهما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب