الباحث القرآني

قوله (تعالى ذكره): ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ﴾. أي: يطوف عليهم الخدم بكأس من خمر جارية، قاله قتادة وغيره. وحكى أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح. وقال بعضهم: كل إناء فيه شراب فهو كأس، فإذا لم يكن فيه شراب فهو إناء. كذلك الخِوَانُ إذا كان عليه طعام قيل له مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام قيل له خوان. ومثله الهودج يقال له: ظعينه، إذا كانت فيه امرأة، فإذا لم تكن فيه قيل له هودج. قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر. وهو قول السدي. وقال ابن عباس: هو الخمر. وقال مجاهد: هي خمر بيضاء. قال الزجاج: "من معين" أي: تجري كما تجري العيون على وجه الأرض. * * * وقوله: ﴿بَيْضَآءَ﴾: يعني به الكأس، وهو مؤنثة، ﴿لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ أي: ذات لذة، والمعنى: يلتذ بها شاربها. ثم قال (تعالى ذكره): ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ أي: لا تغتال هذه الخمر عقل شاربها كما تفعل خمر الدنيا. وقال ابن عباس: "لا فيها غول" (أي): ليس في الخمر صداع. وعنه: ليس فيها وجع بطن. وكذلك قال مجاهد. وقال ابن زيد: ليس فيها وجع البطون، وشارب الخمر يشتكي بطنه. وقال السدي: لا تغتال عقولهم. وقال ابن جبير: لا فيها أذى ولا مكروه. وقيل معناه: لا فيها إثم. وذكر الليث: أن ابن عباس أشكل عليه تفسير الغَوْل حتى سمع إعرابياً يقول لصاحبه: إني لأجِدُ في بطني غَوْلاً فقال ابن عباس: جاءت والله (الغَوْل): الوجع يجده في بطنه. ثم قال (تعالى): ﴿هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ من فتح الزاي فمعناه لا تذهب عقولهم. قاله ابن عباس ومجاهد والسدي. وقال قتادة: لا تغلبهم على عقولهم. تقول العرب: نُزِفَ الرَّجُلُ فهو مَنْزُوف إذا ذهب عقله، (ونزف دم فلان إذا ذهب). فنفى الله جل ذكره عن خمر الجنة الآفات من الصداع والسكر اللذين يحدثان من خمر الدنيا. فأمّا من قرأ بكسر الزاي، فمعناه: لا يفنى شرابهم. يقال أَنْزَف الرجل إذا نفد شرابه. وحكى الفراء: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وأَنْزَفَ إذا ذهب عقله. فيكون على هذا القول الأخير كقراءة من فتح الزاي. ثم قال (تعالى ذكره): ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ عِينٌ﴾ أي: وعندهم حور قصرن طرفهن على الأزواج فلا يبغين غيرهم، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي. قال عكرمة: "قاصرات الطرف" أي: محبوسات على أزواجهن. وقال ابن زيد: "قاصرات الطرف" (لا ينظرن إلا) إلى أزواجهن، ليس كما يكون نساء أهل الدنيا. * * * وقوله: ﴿عِينٌ﴾: يعني به النُّجْل العيون لعظامها، وهو جمع عَيْناء، والعيناء المرأة الواسعة العين العظيمة العين، (وهي) أحسن ما يكون من العيون. وسألت أم سلمة رضي الله عنها النبي ﷺ فقالت: "يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: "وَعْنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ"، (قال): العِينُ: الضِّخَامُ العُيُونِ (شَفَرُ) الحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ وقال (تعالى): ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾. قال ابن جبير: كأنهن بطن البيض. يريد: أنه شبههن في بياضهن ببطن البيض. وقال السدي: كأنهن البيض حين يقشر قبل أن تمسه الأيدي. وهو قول قتادة. وهو اختيار الطبري، شبهن ببياض البيضة قبل أن تمسه الأيدي، إذ هن لم يمسسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، فَشُبِّهْن في صفاء اللون (وبياضه) (و) في صيانتهن ببياض البيضة في قشره، وبياض البيض عند الطبري هو القشر الرقيق الذي على البيضة من داخل القشر. وروي أن النبي ﷺ قال لأم سلمة، إذ سألته عن ذلك: "رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الجِلْدَةِ التِي رَأيتَهَا فِي دَاخِلِ البَيْضَةِ التِي تَلِي القِشْرَةَ وَهِيَ الغِرْقِىءُ وقال ابن زيد: كأنهن البيض الذي يكنه الريش مثل بيض النعام، فهي إلى الصفرة تبرق. وقال ابن عباس: "كأنهن بيض مكنون" يعني: اللؤلؤ المكنون في الصدف. ثم قال (تعالى): ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي: أقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً، قاله قتادة وابن زيد. ثم قال تعالى عنهم: إنهم قالوا في مساءلتهم: ﴿قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتْنَا [وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ﴾]. [فقوله: "إنا لمدينون" جواب للاستفهامين في قوله: "أ.نَّكَ لمن المصدقين أ إذا متناً"]. أي: قال قائل من أهل الجنة إني كان لي صاحب ينكر البعث بعد الموت ويقول لي: أتُصَدِّقُ بأنك تبعث بعد أن تكون عظاماً ورفاتاً، وتجزى بعملك؟ هذا معنى قول ابن عباس. وقال مجاهد: القرين كان شيطاناً . قال ابن عباس: لما صار المؤمن إلى الجنة ذكر ذلك فرأى صاحبه في سواء الجحيم، أي: في وسطه، قال: ﴿تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ﴾. أي: والله إنك قاربت أن تهلكني لو قبلت منك، ولولا نعمة ربي إذ ثبتني على الإيمان لكنت من المحضرين معك في النار. وروي أنه كان شريكان، وكان أحدهما له حرفة والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر: ليس عندك حرفة ولا أراني، إِلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه. ثم إن الرجل صاحب الحرفة اشترى داراً بألف دينار كانت لِمَلِكٍ مَاتَ، فدعا صاحبه الذي لا حرفة له فأراه الدار، وقال : كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار؟ قال: ما أحسنها. فلما خرج قال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، فَتَصَدَّقَ بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم تزوج امرأة بألف دينار، ثم دعا الذي لا حرفة معه وصنع له (طعاماً) فلما أتاه قال: إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار، (فقال: ما أحسن هذا! فلما انصرف قال: يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار وإني أسألك امرأة من الحور العين، فَتَصَدَّق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه) فأراه ذلك، وقال: إني ابتعت هذين البستانين بألفي دينار، (قال: ما أحسن هذا! فلما خرج قال: يا رب إن صاحبي هذا اشترى بستانين بألفي دينار)، وإني أسألك بستانين من الجنة، فتصَدَّقَ بألفي دينار، ثم إن المَلَك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله داراً مُعْجبة فإذا امرأة تطلع يضيء منها ما تحتها من حُسْنَها ثم أدخله بستانين وشيئاً الله (به) عليم، فقال المتصدق عند ذلك: ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا، قال: فأنت ذلك ولك هذان البستانان والمرأة. قال: فإنه كان لي صاحب يقول: أئنك لمن المصدقين؟ قيل له: فإنه في الجحيم، فقال: هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال عند ذلك: "تَاللهِ إِنْ كِدتَّ لَـتُرْدِينِ، وَلَوْلاَ نَعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مَنَ المُحْضَرِينَ" أي: من المحضرين في النار معك. ذكر هذه الحكاية بن ثعلبة البهراني. وهو تأويل يوجب أن تكون القراءة: من "المُصَّدِقينَ" بالتشديد للصاد من الصدقة. وقراءة الجماعة إنما هي من التصديق بالحساب والبعث والمجازاة بالأعمال. قال ابن عباس: "لمدينون" لمجازون بالعمل. وقال مجاهد: لمحاسبون. قال قتادة: سأل ربه أن يطلعه (فأطلعه) فأطلع فرأى صاحبه في وسط النار. قال مطرف بن عبد الله: لولا أن الله عَرَّفه به ما عرفه لتغير حبره وسبره بعده. وروي أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وروى ابن المبارك عن معمر عن عطاء الخرساني مثل الحكاية بعينها إلا أن فيها اختلاف ألفاظ، قال: كان رجلان شريكان بينهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى داراً بألف دينار وأرضاً بألف دينار، وتزوج امرأة بألف دينار واشترى أثاثاً بألف، فقال الآخر: اللهم إني أشتري منك في الجنة داراً وأرضاً وامرأة وأثاثاً بأربعة آلاف دينار، ثم تصدق بها كلها، ثم احتاج فتعرض لشريكه أن ينيله مما عنده، فقال له: أين مالك؟ فأخبره بما فعل، فقال له: وإنك لمن المصدقين بهذا، اذهب فوالله لا أعطيك شيئاً. وطرده فنزلت فيهما (هذه) الآيات، فتذكر المتصدق أمر شريكه وهو في الجنة فاطلع ليراه في وسط الجحيم. قال قتادة: رأى جماجم (القوم) تغلي. قال ابن المبارك: وبلغنا أنه سأل ربه أن يطلعه عليه. قال أبو محمد مؤلفه (نضر الله وجهه) نقلت معنى الحكاية واختصرت بعض لفظها. ويروى أن الله جل ذكره جعل بين أهل الجنة وأهل النار كِوىً ينظر إليهم أهل الجنة إذا أحبوا ليعلموا قدر ما أنجاهم الله منه وقدر ما أعطاهم، ودل على ذلك قوله (تعالى): ﴿فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ﴾ أي: أطلع من الكوى فرآه في وسط الجحيم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب