الباحث القرآني

قوله: * * * ﴿ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾. الذين جحدوا بآيات الله ورسوله وعبدوا غيره، وصدوا من أراد أن يؤمن برسوله عن الإيمان، أضلّ أعمالهم، أي: أتلفها وأبطلها وأحبطها فلا ينتفعون بها في أخراهم. وهي ما كان من صدقاتهم وصلتهم الرحم. ونحوه من أبواب البر أحبطها الله؛ لأنها كانت على غير استقامة لم يرد بها وجه الله. قال ابن عباس [هم] أهل مكة. * * * وقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ﴾. يريد به الأنصار، فالآيتان عنده مخصوصتان، وغيره يقول إنهما عامتان. ويجوز أن [تكونا مخصوصتين] في وقت النزول ثم هما عامتان بعد ذلك لكل من فعل فعلهما. وأصل الصد: المنع، يقال: صد في نفسه وصد غيره، وحكي أصد غيره، والمصدر في نفسه الصدود، وصد غيره صداً قال الله جل ذكره ﴿يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾ [النساء: ٦١] فهذا غير متعد والمعنى: والذين صدقوا محمداً وما جاء به وعملوا بطاعة الله واتبعوا كتابه. ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي: غطاها وسترها، فلا يؤاخذهم بها في الآخرة، فشتان ما بين الفريقين قوم أخذوا بسيئاتهم وأبطلت حسناتهم، وقوم غفرت سيئاتهم وتقبلت حسناتهم. * * * وقوله: ﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾. قال ابن عباس: بالهم: أمرهم. وقال مجاهد: شأنهم. وقال قتادة وابن زيد: حالهم. والبال كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر فيقولون: بالات. وقال المبرد: قد يكون للبال موضع آخر يكون فيه بمعنى القلب. (وقال النقاش: وأصلح بالهم: نياتهم)، يقال: ما يخطر هذا على بالي؛ أي: على قلبي، والمعنى عند الطبري: وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه في الآخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود في جناته، والآية نزلت في أهل المدينة، ثم هي عامة فيمن كان مثلهم. * * * ثم قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ﴾ أي: الأمر ذلك، وقيل المعنى: ذلك الضلال والهدى المتقدم ذكرهما، من أجل أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وهو الشيطان وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من عند ربهم، وهو كتاب الله ورسوله. والتقدير عند الطبري: هذا الذي فعلنا بهذين الفريقين من إضلال أعمال الكفار وإبطالها والتكفير لسيئات الذين آمنوا، جزاء منا لكل فريق على فعله، لأن الكفار اتبعوا الشيطان وأطاعوه والمؤمنون اتبعوا كتاب الله وصدقوا رسوله. قال مجاهد: الباطل هنا: الشيطان. * * * ثم قال: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ أي: كما بيّنت لكم أيها الناس سبب تفريقي بين الفريقين، كذلك أمثل لكم الآيات وأشبه لكم الأشباه. قال الزجاج: معناه كذلك يبيّن الله للناس أمثال المؤمنين وسيئات الكفار كالبيان الذي ذكر. ومعنى قول القائل: "ضربت له مثلاً: بينت له ضرباً من الأمثال"، أي: صنفاً منها. * * * ثم قال: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ﴾. أي: فاضربوا رقابهم حتى يؤمنوا. والتقدير: فاضربوا الرّقاب ضرباً، وهذا المصدر الذي يقوم مقام الفعل يجوز أن ينون وأن يقدم عليه مفعوله ولا صلة له، وإنما تكون له صلة إذا كان بمعنى "إن فعل" و "إن يفعل". * * * ثم قال: ﴿حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ﴾. أي: حتى إذا غلبتموهم وقهرتموهم بالقتل، وبقيت منهم بقية أسرى في أيديكم لم يلحقهم قتل، فشدوهم في الوثاق كيلا يهربون. * * * ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾. أي: فإذا أسرتموهم بعد الإثخان بالقتل، فإما أن تمنوا عليهم مناً، فتحرروهم بغير عوض ولا فدية، وإما أن تفادوهم، فتأخذوا منهم عوضاً وتطلقوهم. قال الزجاج: "أثخنتموهم: أكثرتم فيهم القتل، ومنه قول: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]. وقال ابن جريج: هذه الآية منسوخة، لأن أهل الأوثان لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم، والناسخ لها عنده ﴿فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] وهي محكمة في أهل الكتاب يجوز أن يمن عليهم وأن يفادوا فكأنه ينحو إلى أنها مخصوصة، فسمى التخصيص نسخاً، وهو قول السدي وجماعة من الكوفيين. وقال بعض العلماء: هي في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله: ﴿فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] قالوا: وإذا أسر المشرك فلا يجوز أن يمن عليه ولا أن يفادى من أهل الكتاب كان أو من أهل الأوثان. قالوا: فإن أسر المسلمون المرأة جاز أن يفادى بها؛ لأنها لا تقتل، وكذلك الصبيان ومن تؤخذ منه الجزية فإنه لا يقتل لأنه في عهد. قال قتادة: هي منسوخة نسخها ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧]. وقال مجاهد نسختها ﴿فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]. وقال الضحاك: الآية ناسخة لقوله: ﴿فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] وقال: لا يقتل المشرك إذا أسر ولكن يمن عليه أو يفادى. كما قال جل ذكره، فالآية أيضاً عنده ناسخة لقوله: ﴿فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]. وكان الحسن يكره قتل الأسير، ويختار أن يمن عليه أو يفادى. وقال ابن جبير: الآية محكمة، [ولا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، واستدل بآية الأنفال. وقال ابن عباس: الآية محكمة] جعل الله للنبي والمؤمنين الخيار في الأسارى، إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا استعبدوا، وإن شاءوا فادوهم، فالآيتان عنده محكمتان ومعمول بهما، وهذا القول هو قول أهل المدينة والشافعي وأبو عبيد. فأما قوله: ﴿حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾. فالمعنى والله أعلم: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم وافعلوا بأسراهم ما بيّنت لكم حتى يتوب المشركون عن شركهم، فتكون الحرب ألجأتهم إلى الإيمان فتسقط عنهم آثامهم. وقال مجاهد معناه: "افعلوا هذا الذي أمرتم به (حتى يضع المحارب آلة حربه) بنزول عيسى فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة الذئب ولا تقرض فأرة جراباً وتذهب العداوة من الأشياء كلها، وذلك عند ظهور الإسلام على الدين كله. وقال قتادة: معناه حتى لا يكون شرك. قال الزجاج معناه: فاقتلوهم واسروهم حتى يؤمنوا، وما دام الكفر فالجهاد قائم أبداً. وقيل المعنى: فاقتلوهم واسروهم حتى تأمنوا فيضعوا السلاح. والحرب مؤنثة وتصغيرها حريب وكذلك قوس ودود يصغران بغير هاءٍ وهما ثلاثيان مؤنثان سماعاً من العرب. * * * ثم قال: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ﴾. أي: هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون هو الحق، ولو يشاء ربكم لانتصر منهم بعقوبة ينزلها بهم، وذلك عليه هين يسير، ولكن أراد أن يختبركم ويعلم أهل الطاعة منكم والمجاهدين في سبيل الله ليجازيهم على طاعتهم ويعذب أعداءه بذنبهم. * * * ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ هذه الآية نزلت في قتلى أُحد. وقرأ الحسن "قُتِّلُوْا" بالتشديد، على معنى: قتلوا المشركين قتل بعضهم بعض. وقرأ الجحدري "قَتَلُوْا" بالفتح، على معنى: قتلوا المشركين في الله وفي سبيل الله. ﴿فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: لن يجعل الله أعمالهم التي عملوها باطلاً كما أبطل أعمال الكفار. وقال قتادة: نزلت هذه الآية يوم أُحد والنبي ﷺ في الشِّعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون أعلى هُبَل ونادى المسلمون [الله] أعلى وأجل، فنادى المشركون يوم بيوم [بدر] أن الحرب سِجَال، أن لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبي ﷺ: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، إن القتلى مختلفون أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب