الباحث القرآني

قوله: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ﴾ إلى قوله: ﴿تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ الآيات. طائفتان عند البصريين رفع بفعلهم، والتقدير: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. وهما رفع بالابتداء عند الكوفيين، والخبر: اقتتلوا، وله نظائر (كثيرة في القرآن) وقد تقدم ذكرها، وسيأتي نظائرها فيما بعد إن شاء الله والمعنى: أصلحوا بينهما أيها المؤمنون بالدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله. * * * ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ﴾. أي: فإن أبت إحداهما الرضا بحكم الله عز وجل وحكم رسوله فقاتلوا الفئة التي أبت وبغت حتى ترجع إلى أمر الله، فإن رجعت الباغية إلى حكم الله بعد قتالكم إياها، فأصلِحوا بينها وبين الطائفة الأخرى بالإنصاف والعدل بينهما قال ابن زيد لا يقاتل الفئة الباغية إلا الولاة. وروي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلا في أمر تنازعا فيه. وروي عن أنس أنه قال: قيل للنبي عليه السلام لو أتيت عبد الله بن أُبي، قال: فانطلق النبي ﷺ إليه وركب حماراً وانطلق معه المسلمون، فلما أتاه النبي ﷺ قال عبد الله المنافق: إليك عني، فوالله لقد آتاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه فرد عليه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم. وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال: لها أم زيد تحت رجل من غيرهم فكان بينها وبين زوجها خصومة، فبلغ قومها فجاؤوا وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي [وبالنعال]، فبلغ ذلك النبي ﷺ فجاء ليصلح بينهم فنزل القرآن في ذلك. وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما خصومة وكان أحدهما أكثر عشيرة من الآخر فأبى أن يحاكمه إلى النبي ﷺ فتدافعا وتقاتلا بالأيدي والنعال فنزلت الآية فيهما. * * * قوله: ﴿وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ﴾. [أي: أعدلوا في حكمكم بينهم إن الله يحب المقسطين] العادلين في أحكامهم. يقال قسط الرجل: إذا جار، وأقسط إذا عدل. * * * ثم قال: ﴿إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾. أي: إنما المؤمنون إخوة في الدين فأصْلِحوا بينهم إذا اقتتِلوا بأن تحملوهم على حكم كتاب الله عز وجل. ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ أي: وخافوه في حكمكم فلا تحيفوا. ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي: افعلوا ذلك ليرحمكم ربكم. * * * ثم قال: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ﴾. أي: لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين لعل (المستهزئ منه خير من الهازئ)، وكذلك النساء. "وقوم" في كلام العرب يقع للمذكرين خاصة، ويجوز أن يكون فيهم نساء على المجاز. وقال بعض أهل اللغة: إنما قيل لجماعة المذكرين قوم لأنه أريد جمع قائم فهذا أصله ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. فقوم عنده جمع قائم "كَزائِرٍ وزُوَر، وصَائِم وصَوْم، ونَائِم ونَوم". وقيل: سميت الجماعة قوماً لأنهم يقومون مع داعيهم في النوائب والشدائد ومثل ذلك قولهم لقوم الرجل نفره، فهو جمع نافِر؛ لأنهم ينفرون معه إذا استنفرهم، قال مجاهد: لا يسخر قوم من قوم هو سخرية الغني بالفقير لفقره، ولعل الفقير أفضل عند الله من الغني. وقال ابن زيد: معناه لا يسخر من ستر الله على ذنوبه ممن (كشف الله سبحانه) في الدنيا ستره، لعل ما أظهر الله عز وجل على هذا في الدنيا خير له في الآخرة من أن يسترها عليه في الدنيا، فلست أيها الهازئ على يقين أنك أفضل منه بستر الله عز وجل عليك في الدنيا هذا معنى قوله. ويروى أن هذه الآية نزلت في عكرمة بن أبي جهل بن هشام قدم المدينة مسلماً فكان يمر بالمؤمنين فيقولون: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى النبي ﷺ فنهاهم أن يقولوا ذلك ، ونزلت الآية عامة فيه وفي غيره. * * * ثم قال: ﴿وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ﴾ أي: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال: أنفسكم لأن المؤمنين كرجل واحد. قال النبي ﷺ: "إنما المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالحمى والسهر يقال: "لَمَزهُ يَلْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ لُمزاً إِذَا عَابَهُ وَتَنَقَّمَهُ". قال علي بن سليمان: اللمز الطعن على الإنسان بالحضرة، والهمز في الغيبة. قال المبرد: اللمز يكون باللسان، والعين (تعيبه وتجدد) إليه النظر وتشير إليه بالاستنقاص، والهمز لا يكون إلا باللسان في الحضرة والغيبة وأكثر ما يكون في الغيبة، وقال النبز: اللقب الثابت، والمنابزة: الإشاعة والإذاعة. قال الطبري: النبز واللقب واحد. قال الضحاك: نزلت هذه الآية في بني سلمة قدم النبي ﷺ المدينة وما منهم رجل إلا وله إسمان وثلاثة، فكان إذا دعي الرجل بالاسم قالوا إنه يغضب من هذا، فنزلت ﴿وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ﴾. وقيل معناه: قول الرجل للرجل يا فاسق يا زاني، يا كافر يا منافق قاله عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد. وقال ابن عباس: هو تسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسق بعد التوبة. وقال الحسن: هو اليهودي والنصراني يسلمان فنهي أن يقال لهما يا يهودي يا نصراني بعد إسلامه. وقيل: هو دعاء الرجل للرجل بما يكره من إسم أو صفة أو لقب، وهذا قول جامع لما تقدم. * * * ثم قال: ﴿بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ﴾. أي: من فعل هذا الذي نهي عنه فسخر من أخيه المؤمن ونبزه بالألقاب فهو فاسق. وبين الاسم الفسوق بعد الإيمان، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا أن تسموا فساقاً، ففي الكلام حذف وتقديره ما ذكرنا. وقال ابن زيد: معناه بئس أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته. * * * ثم قال: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ﴾. أي: ومن لم يتب عن نبزه أخاه وسخريته منه فهو ظالم نفسه. * * * ثم قال: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ﴾. أي: تجنبوا أن تظنوا بالمؤمنين شراً، فإن الظن غير محق، وإنما قال: "كثيراً" ولم يقل: اجتنبوا الظن كله؛ لأن الظن قد يكون في الخير فتظن بأخيك المؤمن خيراً، وذلك حسن، فلو قال: اجتنبوا الظن كله يمنع أن يظن الإنسان بأخيه خيراً، ولذلك قال: إن بعض الظن إثم، أي: إن ظنك بأخيك المؤمن الشر لا الخير إثم لأن الله عز وجل قد نهاك عنه. روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: "إياكم والظن فإنه أكذب الحديث فلا ينبغي لأحد أن يظن شراً بمن ظاهره حسن، ولا بأس أن نظن شراً بمن ظاهره قبيح قال مجاهد: خذوا ما ظهر واتركوا ما ستره الله عز وجل. * * * ثم قال: ﴿وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً﴾. أي: ولا يتبع بعضكم عورة بعض، فيبحث عن سرائره ليطلع على عيوبه. قال ابن عباس: نهى الله عز وجل المؤمن أن يتبع عورات المؤمن. قال مجاهد: ولا تجسسوا: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستره الله وهو معنى قول قتادة. والتجسس والتحسس (سواء في اللغة). * * * وقوله: ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً﴾. أي: لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره أن يقال له في وجهه، وسأل النبي ﷺ عن الغيبة فقال: "هو أن تقول لأخيك ما فيه، فإن كنت صادقاً فقد اغتبته، وإن كنت كاذباً فقد بهته قال مسروق: إذا ذكرت الرجل بأسوأ ما فيه فقد اغتبته، وإن ذكرته بما ليس فيه فقد بهته. قال الحسن: الغيبة أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله، فإذا ذكرت بما ليس فيه فذلك البهتان. قال ابن سيرين: إن علمت أن أخاك يكره أن تقول ما أشر سواد شعره ثم قلته من ورائه فقد اغتبته. وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت بحضرة النبي ﷺ في امرأة: ما أطول ذراعها، فقال: قد اغتبتها فاستحلي منها. وروى جابر أن النبي ﷺ قال: "الغيبة أشد من الزنا لأن الرجل يزني فيتوب الله عليه، [والرجل يغتاب الرجل فيتوب، فلا يتاب عليه حتى يستحله] ثم قال: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً﴾. أي: أنتم تحبون أن تأكلوا لحم الميتة، وتكرهونه فكذلك يجب أن تكرهوا الغيبة للحي فإن الله حرم غيبة المؤمن حياً كما حرم أكل لحمه ميتاً. قال ابن عباس: معناه كما أنت كاره أكل لحم الميتة المدودة فاكره غيبة أخيك كذلك، فأكل الميتة حرام في الشريعة مكروه في النفوس مستقذر فضرب الله مثلاً للغيبة، فجعل المغتاب كآكل لحم الميتة. والعرب تقول: ألحمتك فلاناً: أي: أمكنتك من عرضه. * * * وقوله: ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾. [أتى] بالماضي على تقدير فقد كرهتموه، ففيه معنى الأمر، ودل على ذلك قوله: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ عطف عليه وهو أمر. وقال الكسائي: فكرهتموه معناه: فينبغي أن تكرهوه. قال المبرد: معناه فكرهتم أن تأكلوه. * * * ثم قال: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾. أي: وخافوا الله أن تقدموا على فعل ما نهاكم عنه من الظن السوء وتتبع عورات المسلم والتجسس على ما خفي عنك باغتياب أخيك المسلم وغير ذلك مما نهاك عنه، إن الله تواب على من تاب إليه: أي: رجع إليه، رحيم به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب