الباحث القرآني

قوله: ﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ [وَلاَ سَآئِبَةٍ﴾ الآية. أي: ما حرم الله ذلك. وقيل: المعنى: ما بحر الله بحيرة]، ولا وصل وصيلة ولا سيب سائبة، ولا حمى حامياً، ولكن الكافرين اخترقوا ذلك. وقد تعلق قوم من الجهلة القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً ﴾ [الزخرف: ٣] أنه بمعنى فعلناه، أي: خلقناه، وهذه الآية تظهر جهلهم، وهو قوله: ﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ﴾، فإن كان "جعلنا" بمعنى "خلقنا" قد نفى عن نفسه هنا الجعل، فمن خلقها؟ (أَثَمَّ) خالق غير الله؟ ويدل على فساد قولهم: قوله تعالى: ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: ٥]، فإن كان "جعل" بمعنى "خلق" فلم يكن القوم إذاً موجودين. وقد أخبر عنهم أنهم استضعفوا في الأرض، وقال: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ [البقرة: ١٢٤]، فيجب على قولهم أن يكون إبراهيم غير مخلوق في ذلك الوقت وقال: ﴿ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ﴾ [الأنفال: ٣٧] فواجب - على قولهم - أن يكون قد ميز الخبيث من الطيب وهو غير موجود، وقال: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ ﴾ [النحل: ٥٧] حكاية عن الكفار، (وتراهم) أيها الجهلة القدرية خلقوهم (هم)، إنما سموهم، ويلزمهم أن يكون القرآن خلق مرتين لقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾ [الحجر: ٩١]، وقوله: ﴿ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ [الزخرف: ٣]، وهذا أكثر من أن يحصى. والجعل يكون بمعنى التعبير والوصف والتسمية، وقد يكون بمعنى الخلق بدلالةٍ تدل عليه، نحو قوله: ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [الأعراف: ١٨٩] أي: وخلق، لكن إذا كانت "جعل" بمعنى "خلق" لم تتعد إلا على مفعول واحد. (و) روى زيد بن أسلم عن النبي ﷺ أنه قال: قد عرفت أول من بحر البحيرة، (و) هو رجل من بني مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرم ألبانهما (وظهورهما وقال: هاتان لله: ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما) وركب ظهورهما، قال: فلقد رَأيتُه في النار، يُؤذي أهل النار (ريحُ قُصبِه) . والبحيرة: "فَعِيلة" بمعنى "مفعولة"، وهي الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة. والسائبة: "فاعلة" بمعنى "مَفعِلة"، كما قيل: راضية بمعنى مَرْضِية، وهي المُخَلاَّة من المواشي، كانت الجاهلية تفعله ببعض المواشي، فيُحرِّم الانتفاع به على نفسه. وأما الوصيلة: فإن الأنثى من نعمهم كانت - في الجاهلية - إذا أتت بذكر وأنثى، قيل: "قد وصلت أخاها"، أي: منعته من الذبح، فسموها وصيلة. وأما الحامي: فهو الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب والانتفاع بسبب تتابع أولاد [تَحدُث] في فِحْلَتِه. وقال قتادة: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، نظر إلى البطن الخامس، فإن كان ذكراً أكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى بحروا أذنها - أي: شقوها - وتركت، فلا يشرب لها لبن ولا [تركب]، وكانوا يسيّبون ما شاءوا من أموالهم، فلا يُمنع من ماء ولا كلأ، ولا ينتفع به. وكانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى البطن السابع، فإن كان ذكراً ذبح، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت ميتة أكله الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت، وإن (كانت ذكراً) وأنثى، قيل: وصلت أخاها فمنعته من الذبح. وكان الحامي هو الفحل إذا ركب من ولده عشرة، قيل: حمى ظهره، فلا يركب ولا ينتفع به ويطلق. ويقال: إن الناقة كانت إذا (تتابعت باثنتي عَشْرَةَ أنثى) ليس فيهن ذكر، سيبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها، فما نتجت - بعد ذلك - من أنثى شقَّ أذنها وخلاّها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها، كما (فعل) بأمها، فهي البحيرة ابنة السائبة. والوصيلة: هي الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، وقالوا: وصلت، فما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء، فيشتركون في أكله: الذكور والإناث منهم. والحامي: هو الفحل إذا نتج (له) عشر إناث متتابعات، ليس بينهن ذكر، حمى ظهره فلم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها ولا ينتفع به لغير ذلك. فنفى الله جل ذكره عن نفسه أن يكون سمى شيئاً من ذلك أو صيّره كذلك، فقال: ﴿وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ﴾ أي: يخترقونه. و ﴿ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: هم اليهود، والذين ﴿لاَ يَعْقِلُونَ﴾: أهل الأوثان. وقيل: المراد بذلك أهل الجاهلية الذين سنّوا ذلك، فهم الكفار، والذين لا يعقلون: أتباعهم، أي: لا يعقلون أنه إنما سن لهم ذلك مَن تقدمهم من غير أمر (من) الله فيه، وأنه باطل كذب، وذِكْرُ أهل الكتاب - في هذا - لا معنى له، إذ ليس لهم في هذا صنع ولا سنة، وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب، فهم الذين عنوا بذلك. وقيل: إنهم لا يعقلون (أن) الشيطان حرمه عليهم وسنَّه لهم. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: قَد عَرَفْتُ أََوَّلَ مَن سَيَّب السُّيَّب، ونصَّب النُّصُب وغَيَّرَ عَهْدَ إِبراهيمَ: عمرو بنُ لُحَيّ، لقد رأيتُه وإِنَّه لَيَجُرَّ قُصَبه في النار يؤذي أهلَ النار بريحه. القُصْبُ: الأمعاء. روى مالك أيضاً عن زيد بن أسلم عن عطاء أن النبي قال: قد عرفت أول من بحر البحائر: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع [آذانهما]، وحرَّم ألبانهما وظهورهما، ثم احتاج فركبهما وشرب ألبانهما، فلقد رأيتُهما وإيّاه في النار، وإنهما لتخبطانه بأخفافهما، وتعضانه بأفواههما. وفي ذلك اختلاف كثير والمعنى متقارب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب