الباحث القرآني

قوله ﴿يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ﴾ الآية. هذه الآية نزلت في أبي لبابة قال: "لبني قريظة - حين حاصرهم النبي ﷺ -: إنما هو الذبح فلا تنزِلوا على حكم سعد". وقيل: (إنّه) إنما أشار إليهم بيده إلى حلقه يريد أنه الذبح إن نزَلتم على حكم سعد. وقيل: "إنها" نزلت في عبد الله بن صوريا ارتد بعد إسلامه، وأُمِر النبي ألاّ يَحزن عليه: وقال أبو هريرة: إن أحبار اليهود اجتمعوا في أمر رجل (زنى بامرأة) وهما محصنان، فقالوا: امضوا بنا إلى محمد فَسَلوه كيف الحكم فيهما: فإنْ حَكَم بعملكم من التحميم - وهو الجَلد بحبل من ليف مطلي بِقارٍ - ثم يُسَوَّد وجهه ثم يُحمل على حمار ويُحوَّل وجهه ما يلي دُبُر الحمار، وكذلك يُفعل بالمرأة، فاتَّبِعوه وصدِّقوه، فإنه ملك، وإن (هو) حكَم بالرجم فاحْذَروه على ما في أيديكم. فأتوا النبي، فمشى النبي عليه السلام حتى أتى أحبارهم (فقال لهم): أَخرِجوا إليَّ أعلمَكم، فأخرَجوا ابنَ صوريا الأعور - وكان أحدثَهم سنّاً - فخلا به النبي ﷺ وقال: يا ابن صوريا أُذكِّرك أيادِيَ الله عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه في التوراة بالرجم؟، فقال: اللّهم نعم، أما واللهِ يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك! فخرج (رسول الله) فأمر بهما في جماعة - عند باب مسجده - فرُجما، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ﴾ الآية. وقال البراء: مُرَّ (على) النبي بيهودي مُحمَّمٍ مجلودٍ، فدعا النبي رجلاً من علمائهم فقال: [هكذا] تجدون حد الزاني فيكم؟ قال: نعم، قال: فأُنشِدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني ما حَدّثتك، ولكن كثر الزنى في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع فنضع شيئاً مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي ﷺ: (اللهم) أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه!، فأمر به فرجم، فأنزل الله ﴿لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ﴾ الآية. وذكر ابن حبيب أن اليهود أنكرت أن يكون الرجم في التوراة فرضاً عليهم، فقال لهم النبي ﷺ: مَن أعلَمُكم يا معشر يهود؟ قالوا: ابن صوريا - وهو غلام منهم أمرد أبيض أعور - فدعاه (رسول الله)، [فقال "له"]: أنت أعلم يهود؟، قال: كذلك يزعمون، قال له رسول الله: فماذا تجدون (في الرجم) في كتاب الله الذي أنزله على موسى؟ قال: يا محمد إنهم يفضحون الشريف ويرجمون الدني، وجعل [يَرُوغ] عما في كتابهم، فنزل جبريل عليه السلام على (رسول الله) ﷺ فقال له: اِسْتَحْلِفْه بما آمرك به، فإن حلف وكذب، احترق بين يديك وأنت تنظر، فقال له رسول الله - وهو الذي أمره به جبريل -: أُنشِدك الله الذي لا إله إلا هو القوي، إلَه بني إسرائيل الذي [أخرجكم] من مصر وفرق لكم البحر - وأحلفه بأشياء كثيرة - هل تجد في التوراة آية الرجم (على) المحصن؟، قال: نعم، والله يا محمد لو قلتُ غير هذا لاحترقتُ بين يديك وأنت تنظر. وقال ابن جريج ومجاهد: "هم" ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ - آخَرِينَ﴾ - هم اليهود -. والمعنى: لا يحزنك تسرع (من تسرع منهم إلى الكفر، لأنهم آمنوا بألسنتهم ولم (يؤمنوا بقلوبهم). ﴿وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ﴾ أي: ولا يحزنك تسرع) الذين هادوا إلى جحود نبوتك، ثم وصفهم فقال: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ أي: هم سماعون للكذب، وهو قَبولهم ما قال لهم أحبارُهم من الكذب: أن حكم الزاني المحصن - في التوراة - التحميم - والجلد، وهو صفة لليهود خاصة، ثم أخبر أنهم سماعون لقوم آخرين لم يأتوا النبي، وهم أهل الزاني والزانية، بعثوا إلى النبي يسألونه عن الحكم ولم يأتوا النبي. وقيل: إن السماعين يهود فَدَكٍ، و "القوم الآخرين" - الذين لم يأتوا النبي - يهود المدينة. وقيل: المعنى سماعون من أجل الكذب، أي: يستمعون منك يا محمد ليكذبوا عليك. ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ أي: يستمعون منك ليُبَلغوا ما سمعوا قوماً آخرين، فهُمْ عليك عُيون لأولئك الغيب. ﴿يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ﴾: أي يغيرون حكم الله الذي أنزله في التوراة في حكم المحصنين من الزناة، ومعنى: ﴿يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ﴾ أي: حكم الكلم، ﴿مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أي: من بعد وَضعِ الله ذلك مواضِعَه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، مثل ﴿وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧]. ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ﴾ أي: (إن حكم) بهذا الحكم المحرف (فاقبلوه، يقول ذلك أحبار اليهود لهم في أمر الزانيين، [يقولون]: إن حكم محمد بينكم بهذا الحكم المحرف) - وهو التحميم والجلد - فخذوه، ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ﴾ أي: وإن لم يحكم بينكم به فاحذروه ولا تؤمنوا به. وقال السدي: يهود فدك يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا فخذوه - وهو الجلد - وإن لم تؤتوه فاحذروا - وهو الرجم -. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما حكَّموا النبي ﷺ في اللَّذَيْن زنيا، دعا رسول الله بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها - وقد وضع يده على آية الرجم - فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر ثم قال: هذه - يا نبي الله - آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك، فقال لهم النبي عليه السلام: يا معشر يهود، ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم؟ فقالوا: أما إنه قد كان فيما نعمل به حتى زنى منا رجل بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل بعده فقالوا: لا والله لا نرجمه حتى يرجم فلان، (فلما فعلوا ذلك، اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التحميم وأماتوا ذكر الرجم)، فقال النبي: فأنا أول من أحيا أمر الله، ثم أمر بهما ورجما عند باب المسجد، قال ابن عمر: فكنت ممن رجمهما. وقال قتادة: الآية نزلت في قتيل من بني قريظة، قتله بنو النضير، وكانت بنو النضير إذا قتلت قتيلاً وَدَت الدية - لا غير - لفضلهم، وإذا قُتل لهم قتيل لم يرضوا إلا بالقَود تَعزُّراً، فأرادت النضير أن ترفع أمر القتيل - الذي قتلوه - إلى النبي، فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيلُ عمد، متى رفعتموه إلى محمد خَشِيتُ عليكم القَوَد، فإن قُبلت منكم الدّية فأعطوها، وإلا فكونوا منه على حذر. * * * وقوله: ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً﴾: هو تسلية للنبي عليه السلام ألا يحزن على مسارعة من سارع إلى الكفر من المنافقين واليهود، وفتنته: ضلالته. ﴿فَلَن تَمْلِكَ (لَه(ُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً﴾: لا اهتداء له أبداً. ﴿أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ أي: بالإسلام "في الدنيا". * * * ﴿لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ أي: ذل وصغار وأداء الجزية عن يد، ﴿لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. وزعمت المعتزلة والقدرية أن الله لم يرد كفر أحد من خلقه، وأراد أن يكون جميع الخلق مؤمنين، فكان ما لم يرد ولم يكن ما أراد - تعالى عن ذلك -، وقد قال (الله): ﴿لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ﴾ [الأنعام: ٣٥] وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: ٢٥٣]، وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ [رَبُّكَ] مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١١٢] وقال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي [لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ]﴾ [السجدة: ١٣]. وقال: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠]، وقال: ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً﴾ ، وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ [مَن] فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ [يونس: ٩٩]، وقال: ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً﴾ [الرعد: ٣١]، وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [النحل: ٩٣]، وفي كتاب الله من هذا ما لا يحصى، يخبر تعالى في جميعه أنه أراد جميع ما كان وما يكون، وأن جميع الحوادث كانت عن إرادته ومشيئته، وأنه لو شاء لأحدثها على خلاف ما حدثت فيجعل الناس كلَّهم مؤمنين. فعَندت المعتزلة عليها لعنة الله عن ذلك وخالفته، وقالت: حدث كفر الكافر على غير إرادة من الله، وعلى إرادة من الشيطان، وقد أجمع المسلمون على قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقالت المعتزلة: يكون ما لا يشاء الله، وهو كفر الكافر، معاندةً لإجماع الأمة، وقد حصلت المعتزلة في قولها على أنه ليس لله - تعالى ذكره - على إبليس مزيَةٌ، لأن إبليس شاء [ألا] يؤمن أحد فآمن المؤمنون، فكان خلاف ما شاء، وشاء الله - عندهم - ألا يكفر أحد فكفر الكافرون، فكان خلاف ما شاء، فلا فرق بينهما على قولهم الملاعين، تعالى ربنا عما قالت المعتزلة علواً كبيراً، بل كان عن مشيئته، كان يفعل (ما) يشاء: يوفق من يشاء فيؤمن، ويخذل من يشاء فيكفر، لا معقب لحكمه ولا رادّ لمشيئته، وخلق من شاء للسعادة فوفقه لعملها، وخلق من شاء للشقاء وخذله عن العمل بغير عمل أهل الشقاء، "كل مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ"، هذا هو الصراط المستقيم، أعاذنا الله من الزيغ عن الحق.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب