الباحث القرآني

قوله: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ﴾ إلى آخر السورة الآيات. أي: يطوف على هؤلاء الذين تقدمت صفتهم غلمان لهم كأنهم اللؤلؤ المكنون في بياضه وصفائه. والمكنون: المصون، أي: يطوفون عليهم في الجنة بكؤوس الشراب الذي تقدمت صفته. قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: والذي نفسي بيده إن فضل الخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ثم قال: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي: أقبل بعض المؤمنين يسأل عن حال بعض. قال ابن عباس: يتساءلون حين بعثوا في النفخة الثانية. قيل: إنهم يقول بعضهم لبعض ما صيرك إلى هذه المنزلة الرفيعة. * * * ثم قال: ﴿قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ أي: قال بعضهم لبعض: إنا كنا من قبل في الدنيا مشفقين خائفين من عذاب الله عز وجل فمنَّ الله علينا بفضله، فغفر الصغائر وترك المحاسبة على النعم المستغرقة للأعمال. قال النبي ﷺ: "لا يدخل أحد الجنة بعمله" قيل: ولا أنت يا رسول الله، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" ثم قال: ﴿وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ﴾ أي: (عذاب النار) وأدخلنا الجنة. وقيل معناه إذا أمر الكفار بالانطلاق إلى ظل ذي ثلاث شعب من دخان النار أمر بالمؤمنين إلى ظل من ظل الله، فتقف كل طائفة في الظل الذي أمرت به إليه حتى يفرغ من الحساب، فعند ذلك يقول المؤمنون: ﴿فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ﴾ وهو الظل ذو ثلاث شعب. * * * ثم قال: ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ هذا كله قول المؤمنين، أي: كنا في الدنيا نعبده، ونخلص العمل له ﴿إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ﴾ أي: اللطيف بعباده، الرحيم بخلقه أن يعذبهم بعد توبتهم. * * * ثم قال: ﴿فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ﴾ أي: فذكر يا محمد من أرسلناك إليهم من قومك وعظهم فلست بفضل ربك عليك بكاهن كما يقول المشركون ولا بمجنون، ولكن رسول الله. * * * ثم قال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ﴾ أي: بل يقول المشركون في محمد ﷺ هو شاعر نتربص به حوادث الدهر تكفيناه بموت أو بحادثة متلفة. قال ابن عباس: إن قريشاً اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي ﷺ، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به الموت حتى يهلك كما هلك قبله من الشعراء، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ﴾ والمنون: الموت، وهو واحد لا جمع له، قاله الأصمعي. وقال الأخفش: المنون: جمع لا واحد له. وقال الفراء: هو الواحد والجمع. والدهر يسمى بالمنون لأنه يذهب بمنة الحيوان، أي: بقوتها. وقال أبو عبيدة: قيل للدهر "منون" لأنه مضعف من قولهم "حبل منين" إذا كان بالياً ضعيفاً. * * * ثم قال: ﴿قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ﴾ أي: قل لهم يا محمد انتظروا وتمهلوا في ريب المنون، فإني متربص معكم حتى يأتي أمر الله تعالى فيكم وفيّ. * * * ثم قال: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ﴾ أي: أم تأمرهم عقولهم وألبابهم بأن يقولوا لمن جاءهم بالحق شاعر ومجنون، بل هم قوم طاغون. وقيل: المعنى: أم تأمرهم عقولهم بأن يعبدوا الأصنام ويتركوا عبادة خالقهم ورازقهم بل هم قوم قد طغوا وبغوا فتجاوزوا أمر ربهم و "أَمْ" في هذا كله بمعنى "بل". * * * ثم قال: ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ أي: فليأت قائلو ذلك من المشركين بقرآن مثله فيكونوا صادقين في قولهم أن محمداً تقَوَّلَهُ. * * * ثم قال: ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ﴾ "أم" في موضع الألف، والتقدير: أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء وأمهات، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يفقهون لله حجة، ولا يتَّعظون بموعظة. وقيل المعنى: أخلقوا من غير صانع صنعهم ودبرهم، فهم لا يقبلون من أحد، أم هم الخالقون للأشياء، فلذلك لا يأتمرون لأمر الله سبحانه. وقيل المعنى: أم هم الخالقون لأنفسهم. وقيل معنى الآية: أم خلقوا لغير شيء؛ أي: أَخلقوا عبثاً لا يؤمرون ولا ينهون. * * * ثم قال: ﴿أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ﴾ أي: أفعلوا ذلك فيكونوا هم الخالقون. ومعناه لم يخلقوا ذلك [بل] لا يوقنون؛ أي: لا يعلمون ما يلزمهم. وقيل المعنى: لم يتركوا قبول أمر ربهم لأنهم خلقوا السماوات والأرض ولكنهم تركوه لأنهم لا يوقنون بوعيد الله سبحانه، وما أعد من العذاب لمن عصى أمره، فهم يكفرون ويعصون؛ لأنهم لا يوقنون بالعقاب والمجازات. * * * ثم قال: ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُونَ﴾ أي: أعندهم عطاء ربك فيستغنوا عنه، فيعرضوا عن أمره ونهيه أم هم المصيطرون. قال ابن عباس: المصيطرون: المسلطون، وعنه: المتولون. وقال أبو عبيدة: أم هم الأرباب، يقال: تسيطرت علي، أي: أتَّخذتني خولاً لَكَ. وقيل المعنى: أم هم الجبارون. * * * ثم قال: ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي: ألهم سلم (يرتقون) فيه إلى السماء يستمعون الوحي فيكونوا قد سمعوا صواب ما هم عليه من الكفر فيستمسكوا به، فإن كانوا يدعون ذلك، فليأتِ من يزعم أنه استمع بحجة تبين أنها حق. ثم قال: ﴿أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ﴾ أي: ألِربكم أيها المشركون البنات ولكم البنون كما تزعمون، هذه قسمة ضيزى. * * * ثم قال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ أي: أتسألهم يا محمد جعلاً على دعائك إياهم فتثقل عليهم إجابتك لذلك. قال قتادة: معناه هل سألت يا محمد هؤلاء القوم أجراً فجهدتهم فلا يستطيعون الإسلام. * * * ثم قال: ﴿أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ أي: هم لا يعلمون الغيب فكيف يقولون لا نؤمن برسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويقولون شاعر نتربص به ريب المنون، فهم يكتبون؛ أي: يكتبون للناس ما أرادوا ويخبرونهم به. * * * ثم قال: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً﴾ أي: أراد هؤلاء المشركون بدين الله وبرسوله كيداً، أي: مكراً وخديعة. ﴿فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ﴾ أي: هم الممكور بهم المهلكون دون محمد ودينه ومن آمن به. * * * ثم قال: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي: ألهم معبود يرزقهم ويخلقهم وينفعهم ويضرهم غير الله، سبحان الله عما يشركون. * * * ثم قال: ﴿وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ﴾ أي: وإن ير هؤلاء المشركون قطعاً من السماء ساقطاً يقولوا هذا سحاب بعضه فوق بعض وهذا إنما عني به قول المشركين للنبي ﷺ: لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وكذا وتسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، فقال جل ذكره لنبيه عليه السلام وإن ير هؤلاء المشركون (ما سألوا من الآيات) لم ينتقلوا عمّا هم عليه من التكذيب، ولقالوا: إنما هو سحاب مركوم؛ أي: سحاب بعضه فوق بعض. * * * ثم قال: ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ أي: فدع يا محمد هؤلاء الكفار حتى يلاقوا يوم موتهم، والصعق: الموت وذلك عند النفخة الأولى. ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ أي: لا يغني عنهم مكرهم شيئاً، ولا ناصر لهم من عذاب الله عز وجل. * * * ثم قال: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ﴾ قال ابن عباس وغيره: هو عذاب القبر. وقال مجاهد: هو الجوع. وقال ابن زيد: هو مصائب الدنيا للمؤمن أجرٌ وللكافر تعجيل عذاب. فالمعنى: لهؤلاء المشركين عذاب آخر (قبل يوم القيامة) وهو ما ذكرنا فلا يستعجلون به. ﴿وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ذلك أي: لا يؤمنون به فيعلمون أنه حال بهم. قال ابن الماجشون: سمعت محمد بن المنكدر يقول: بلغني أن الله تبارك وتعالى يسلط على الكافر في قبره دابة عمياء في يدها سوط من حديد في رأسه جمرة مثل غرب الجمل يضربه إلى يوم القيامة لا تراه ولا تسمع صوته فترحمه. ومعنى غرب الجمل: هو الدلو الذي يسقى به الجمل. * * * ثم قال: ﴿وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أي: امض يا محمد لأمر ربك وتبليغ ما أرسلت به فإنك بمرأى منا [ونحن نحوطك] ونحفظك. ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ أي: حين تقوم من نومك قال: سبحان الله وبحمده، قاله سفيان. وقيل المعنى: (إذا قمت إلى الصلاة) المفروضة فقل سبحان الله وبحمده. وقيل: تقول سبحانك اللهم وبحمدك. وقيل التسبيح هنا تكبيرة الإحرام. * * * ثم قال: ﴿وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ﴾ يريد به صلاة العشاء الآخرة، وركعتا الفجر. وعن ابن عباس أنه التسبيح في أدبار الصلوات، وأكثرهم على أن ﴿وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ﴾: وركعتا الفجر. وعن النبي ﷺ أنه قال: "هما خير من الدنيا جميعاً وقال الضحاك وابن زيد ﴿وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ﴾: صلاة الصبح بعينها وهو اختيار الطبري.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب