الباحث القرآني

قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ﴾ إلى قوله: ﴿أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ﴾ الآيات. رأيت من رؤية العين، ولذلك نصب بها، ولو كانت التي للسؤال والاستفتاء لم تتعدد نحو قوله ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ﴾ [العلق: ١٣] فالمعنى: أفرأيتم أيها المشركون هذه الأصنام التي جعلتموها بنات الله. ﴿أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ﴾ أي: أتجعلون له البنات ولكم الذكور (أي: هذه إذاً). ﴿قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ﴾ أي: قسمة جائرة على الحق، وذلك أن المشركين أخذوا اسم الباري وهو الله، وزادوا فيه التأنيث وسموا به أصنامهم فقالوا اللات، وكذلك أخذوا العزى من العزيز وأخذوا منات من: منى الله الشيء: إذا قدره، وزعموا أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فجعلوا لله ما لا يرضون لأنفسهم. قال أبو عبيدة: هي أصنام كانت في جوف الكعبة يعبدونها. وقرأ مجاهد "اللات" بالتشديد، وكذلك قرأ ابن عباس، وقالا: كان رجلاً يلِت السَّويق أيام الحج فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقيل: كان يقوم على ألهتهم ويلِت السويق لهم، وكان بالطائف قاله أبو صالح والسدي. وقيل: كان يلِت السويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمى الصنم اللات بتشديد التاء. وحكى خلف عن سليم عن حمزة وأبو عبد الرحمن عن (اليزيدي) عن أبي عمرو أنهما وقفا على اللات بالتاء، اتباعاً للمصحف، وكذلك وقف نافع. وروي عن الكسائي أنه وقف بالهاء، والمشهور عن جميعهم الوقف على التاء اتباعاً للمصحف وإبعاداً أن يشبه الوقف على الله. والعُزّى: حجر أبيض كانوا يعبدونه قاله ابن جبير. وقال مجاهد: العُزى شجرة كانوا يعبدونها. وقال ابن زيد: العُزى بيت بالطائف لثقيف كانوا يعبدونه. وقال قتادة: هو نبت كان ببطن نخلة، وأما منات فصنم كان لخزاعة. وقال قتادة: [التقدير] آلهة يعبدونها وهي اللات والعزى ومنات. قال أبو إسحاق: "منات" صخرة لهذيل وخزاعة كانوا يعبدونها من دون الله جل وعز وتعالى عن ذلك. وقيل: الَّلات صنم كان لثقيف، والعزى سمرة عبدوها. * * * وقوله: ﴿تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ﴾ أي: قسمة جائرة ناقصة إذ رضيتم أن تجعلوا لخالقكم ورازقكم ما تكرهونه لأنفسكم وآثرتم أنفسكم بما تحبون. (وضيزى فُعلى) ولكن كسرت، وإنما كان أصلها الضم إذ ليس في الكلام فعلى صفة وفيه (فُعلى وفَعلى) فكسرت الضاد لتصح الياء، كما قالوا بيضٌ وأصله بوض. ومن همزه فهي لغة يقال ضَازَهُ يَضِيزُهُ ويَضُوزُهُ وضَأَزَهُ يَضْأَزَهُ. ويقال: ضِزتَهُ وضَزْته إذا نَقَصتَهُ حَقَّهُ، فيقال على هذا ضِئزَى بالهمز وضُؤْزَى أيضاً. وجواب الاستفهام محذوف، والتقدير: أفرأيتم هذه الأصنام هل لها من هذه القدرة التي تقدم ذكرها شيء. وقال أبو عبيدة: التقدير أَلَكُمْ الذكر وله الأُنثى كيف يكون هذا لأنهم قالوا الملائكة بنات الله جل ذكره. وقيل الجواب: ﴿تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ﴾. * * * ثم قال: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم﴾ أي: ما اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى إلا أسماء أحدثتموها أيها المشركون أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بهذه الأسماء من سلطان أي: من حجة في هذه الأسماء. * * * ثم قال: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ﴾؛ أي: ما يتبع هؤلاء المشركون في هذه [الأسماء] إلا الظن، وهوى أنفسهم فاخترقوا ما لم يؤمروا به من قبل أنفسهم، ومن ما وجدوا عليه آباءهم الكفار بالله عز وجل. * * * ثم قال: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ﴾ أي: جاءهم محمد من عند ربهم عز وجل بالبيان والوحي الحق. * * * ثم قال: ﴿أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ﴾ أي: ليس ذلك فيكون الأمر على ما يشتهون، بل الله عز وجل يعطي من يشاء ما شاء، إذ له الآخرة والأولى. * * * ثم قال: ﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً﴾ أي: وكثير من الملائكة في السماوات لا تنفع شفاعتهم لمن شفعوا إلا من بعد أن يأذن الله عز وجل لهم فتنفع شفاعتهم إذا رضي الله سبحانه بها، وهذا توبيخ لعبدة الأوثان والملائكة من قريش وغيرهم لأنهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فأخبر تعالى ذكره أن الملائكة مع فضلهم وكثرة طاعتهم لا تنفع أحداً شفاعتهم إلا من (بعد إذن الله عز وجل لهم) ورضاه، فكيف تشفع الأصنام لكم. * * * ثم قال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ * [وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ]﴾. أي: أن الذين لا يصدقون بالبعث ليسمون الملائكة تسمية الإناث لأنهم كانوا يقولون هم بنات الله تعالى (الله عن ذلك علواً كبيراً). ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ﴾ أي: ما يقولون [ذلك] إلا ظناً بغير علم، والهاء تعود على الأسماء لأن التسمية والأسماء واحد، ﴿وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً﴾ [أي] يقوم مقام الحق. * * * ثم قال: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا﴾ أي: فدع من أدبر عن الإيمان بما جئته به من القرآن. ﴿وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا﴾ أي: طلب الدنيا ولم يطلب ما عند الله. ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ﴾ أي: ليس لهم علم إلا علم معائشهم وإلا إيثار الدنيا على الآخرة وقولهم الملائكة بنات الله. * * * ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي: هو عالم لهم قد علمهم في سابق علمه أنهم لا يؤمنون، وهو أعلم في سابق علمه بمن يهتدي فيؤمن. * * * ثم قال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ أي: لله ملكهما وما فيهما. ولام ليجزي (متعلقة بقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ ﴿لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ﴾. وقيل المعنى: ولله ما في السماوات وما في الأرض يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهو أعلم بهم ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أطاعوا. وقيل هي متعلقة بقوله: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ... لِيَجْزِيَ﴾. * * * وقوله: ﴿بِٱلْحُسْنَى﴾ يعني بالجنة. قال زيد بن أسلم: ﴿ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ﴾: المشركون، ﴿ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ﴾ المؤمنون. ثم بيَّن المؤمنين ونعتهم فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ﴾ أي: يبعدون عن ارتكاب الكبائر التي نهى الله عنها، وقد تقدم القول فيها في "النساء". ويبعدون عن ارتكاب الفواحش التي نهى الله عنها وهي الزنا وشبهه مما أوجب الله فيه حداً. * * * وقوله: ﴿إِلاَّ ٱللَّمَمَ﴾ قال ابن عباس: إلا ما سلف منهم في الجاهلية قبل الإسلام. وقال زيد بن أسلم: الكبائر: الشرك، والفواحش، والزنا، تركوا ذلك حين أسلموا فغفر الله عز وجل لهم ما كانوا أتوا به وأصابوه من ذلك قبل الإسلام. وقيل: اللمم: الصغائر. وقيل: هي أن تلم بالشيء ولا تفعله. وقيل اللمم كنظر العين والتقبيل والجس. وقال الشعبي: هو ما دون الزنا، وقيل: "إلا" بمعنى الواو، وليس بشيء هذا نقض كلام العرب. وقال أبو هريرة: هو مثل القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة. وعن ابن عباس أن اللمم أن تأتي الذنب ثم تتوب منه ولا تعود. وعن أبي هريرة أيضاً مثله، (وهو قول أهل اللغة قالوا: اللمم بالذنب أن تناول منه ولا تمر عليه، ويقال ألْمَمْتُ أتيت ونزلت عليه). (وعن ابن عباس وابن الزبير) هو ما بين الحدين، حد الدنيا والآخرة وبه قال عكرمة وقتادة والضحاك. وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمر وابن العاص أنه قال: اللَّمم ما دون الشرك. * * * ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ﴾ أي: لمن اجتنب الكبائر. ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ﴾ يعني آدم عليه السلام. ﴿وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ أجنّة: جمع جنين، أي: أعلم بكم في ذلك الوقت وفي كل وقت، وهو أعلم بمن أتقى. وقيل اللمم هو الذنب [بين] الحدين مما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بنار في الآخرة تكفره الصلوات الخمس. والكبائر مثل الزنا وقتل النفس التي حرم الله، وشرب الخمر وعقوق الوالدين، (وأكل مال اليتيم). وقال نفطويه: اللمم هو أن تأتي ذنباً لم يكن لك بعادة، والعرب تقول: ما تَأْتِينَا إلاَّ لِماماً: أي: في الحين بعد الحين. قال: ولا يكون اللمم أن تهم ولا تفعل؛ لأن العرب إذا قالت: ألم بنا فلان معناه فعل الإتيان لا أنه همَّ ولم يفعل، ويدل على أنه فعل الذنب قوله ﴿وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ﴾ فهل تكون المغفرة إلا لمن فعل ذنباً ، وهل يغفر ما لم يفعل. وروى الحسن أنه قال: اللمم هو أن يلم الرجل اللمة من الخمر واللمة من الزنا، واللمة من السرقة ثم لا يعوده. قال عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. * * * وقوله: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١] يدل على أن اللمم: الصغائر يغفرها الله لمن اجتنب الكبائر حتماً. * * * وقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨] هذه المغفرة ليست بحتم إنما هي إلى مشيئة الله يفعلها لمن يشاء، ومغفرة الصغائر لمن أجتنب الكبائر حتم من الله جل ذكره (فعلها). * * * ثم قال: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ﴾ أي: الله عالم بما تعملون حين خلق أباكم آدم من الأرض، وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم يعلم ما تصير إليه أموركم، وما أنتم عاملون، فلا تزكوا أنفسكم فإن الله يعلم المتقي من الفساد. وأجنة جمع جنين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب