الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ﴾، إلى قوله: ﴿وَلأَنْعَامِكُمْ﴾. هذا عتاب من الله جل ذكره لنبيه ﷺ. قالت عائشة: أتى النبيّ ﷺ ابنُ أمّ مكتوم وعند النبي عظماء قريش، فجعل (ابن) أم مكتوم [يقول]: أرشدني، فجعل النبي ﷺ يُعُرِض عنه [ويُقبِل] على الآخرين يقول لهم: أترون بما أقول بأساً؟ فأنزل الله ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ﴾ في ذلك. قال (ابن عباس): بينما رسول الله ﷺ يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطلب، وكان يتصدّاهم كثيراً رَجاء أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجلٌ أعمى يقال له: ابنُ أمّ مكتومٍ، (يمشي والنبي ﷺ يناجيهم، فَجَعل ابن أم مكتوم) [يستقرئ] النبيّ ﷺ آيةً من القرآن وهو يقول: يا رسول الله، علّمني مما علمك الله. فأَعرضَ عنه [رسول الله ﷺ]، وعَبَس (في) وجهه وتولى عنه وأقبل على الآخرين، فما قضى رسول الله ﷺ نَجْواهُ وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره [وخَفَقَ] برأسه، ثم أنزل الله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ﴾.. [الآيات]. فلما نزل فيه ما [نزل]، أكرمه رسول الله [وكلّمه] وقال له: ما حاجتك؟ هل تريد من شيء ؟. قال قتادة: اسم ابن أم مكتوم: عبد الله بن زائدة، وقيل: اسمه [عمرو بن قيس]، واسم أمه: أم مكتوم عاتكة. قال مجاهد، هو من بني فهر. وذكر قتادة أن النبي ﷺ استخلفه في المدينة على الصلاة في غزوتين من غزواته. وروي أن الذي كان قد اشتغل النبي ﷺ [به] (عن ابن أم مكتوم هو شيبة ابن [ربيعة]، طمع النبي ﷺ) بإسلامه. وقيل: هو أبي بن خلف، كان النبي يُقْبل عليه ويكنيه، ويقول له: أبا فلان، هل ترى بما أقول بأساً؟ طمعاً أن يسلم، فيسلم بإسلامه خلق، فأجابه المشرك فقال له: [والدما]، ما أرى بِما تقول بأساً. فأقسم المشرك للنبي ﷺ بالأصنام وترك أن يقسم بالله. [والدما] جمع دمية، وهي الصورة من [صور الأصنام]. [فعذل] الله نبيه على ذلك. وقال ابن زيد: أقبل ابن أم مكتوم ومعه قائدُه، فلما بصر به النبي ﷺ - وكان مقبلاً على رجل من عظماء قريش قد طمع في إسلامه - أشار إلى قائده (أن كُفَّهُ)، فدفعه ابن أم مكتوم، فعند ذلك عبس النبي في وجهه، فكان النبي عليه السلام يكرمه بعد ذلك. وقال سفيان: كان النبي ﷺ - بعد ذلك - إذا رآه بسط له رداءه، وقال مرحباً [بمن] عاتبني فيه ربي جل وعز قال ابن زيد: كان [يقال]: لو أن رسول الله كتم من الوحي شيئاً لكتم هذا على نفسه. * * * - وقوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ﴾. أي: وما يدريك - يا محمد - لعل هذا الأعمى الذي أعرضت عنه يتطهر من ذنوبه. * * * - ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ﴾. (أي): [أو] يتعظ [فينفعه] الاتعاظ. * * * - ثم قال تعالى: ﴿أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ﴾. (أي): أما من استغنى بماله، فأنت تتعرض له رجاء أن يسلم. قال سفيان: "نزلت في العباس". وقال مجاهد: "نزلت في عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة". * * * - ثم قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ﴾. أي: وأي شيء عليك - يا محمد - ألا يتطهر من ذنوبه وكفره بالإسلام؟! * * * - ثم قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ﴾. أي: وأما الأعمى جاءك يسعى وهو يخشى الله [ويتقيه]. * * * - ﴿فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ﴾. (أي): تُعْرِض وتتشاغل بغيره. * * * - ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾. أي: ليس الأمر كما تفعل يا محمد. وقيل: المعنى: ألاّ إنها تذكرة. والوقف عند نافع ونصير على ﴿كَلاَّ﴾ على التأويل الأول. * * * - وقوله: ﴿(إِنَّهَا) تَذْكِرَةٌ﴾. قال الفراء: المعنى أن السورة تذكرة. وقيل: المعنى (أن) الأنباء والقصص تذكرة. (وقيل: المعنى أن القصة التي عوتبت فيها يا محمد تذكرة) وعظة. * * * - ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾. أي: فمن شاء من عباد الله ذكر تنزيل الله ووحيه فاتعظ به. فالهاء في ﴿إِنَّهَا﴾ للسورة أو للقصة، والهاء في [﴿ذَكَرَهُ﴾] للتنزيل والوحي. * * * - ثم قال تعالى: ﴿فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾. أي: هذه العظة والقصة في صحف قد كتبتها الملائكة في صحف مكرمة، أي: عزيزة. * * * - ﴿مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ﴾. يعني: مرفوعة في اللوح المحفوظ عند الله. * * * - وقوله: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾. يعني: الملائكة. وواحد السفرة: سافر. قال ابن عباس وقتادة: سفرة: "كتبة". وعن قتادة أن السفرة هم القراء. وعن ابن عباس. أيضاً هي "الملائكة". قال ابن زيد: هم "الذين يحصون الأعمال". وسفير القوم: الذي يسعى بينهم بالصلح، فكأن السفرة هم الملائكة الذين يَسفِرون بين الله وبين رسله بالوحي. وهذا (هو) اختيار الطبري. * * * - وقوله: ﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾. قال وهب بن منبه: السفرة الكرامُ البررةُ: أصحابُ محمد ﷺ و ﴿بَرَرَةٍ﴾ جمع بار، ككافر، وساحر وسحرة. والمستعمل في كلام العرب أن يقولوا: "رجل بَرّ"، و "امرأة برّة"، فإذا جمعوا ردوه إلى جمع (بار، فقالوا: رجال بررة. وقال النحاس: الأبرار جمع) بَرٍّ، والبَرَرَة جمع بَارٍّ. * * * - ثم قال تعالى: ﴿قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ﴾. أي: لعن الكافر [و] أهلك، ما الذي أكفره مع ظهور الآيات وبيا(ن الحق)؟! فـ ﴿مَآ﴾: استفهام على طريق التوبيخ والتقرير. وقيل: إنها نزلت في عتبة بن أبي لهب، كان قد آمن، فلما نزلت سورة: (والنجم)، ارتد، فدعا عليه النبي ﷺ فقتله الأسد في قصة طويلة. وقيل: ﴿مَآ﴾: تعجُّب، أي: هو ممن يقال فيه: ما أكفره إذ تمادى على كفره مع ظهور الآيات والحجج!. قال مجاهد: كل شيء في القرآن "قتل الإنسان" أو "فعل الإنسان" فإنما عنى به الكافر، وكل "قُتِل" في القرآن [فمعناه]: لعن. * * * - ثم قال تعالى: ﴿مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ﴾. أي: اعجبوا (له)! من أي شيء خلق الله الكافر حتى يتكبر عن طاعة الله. ثم بين الشيء الذي خلقه منه فقال: * * * - ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾. أي: (من) ماء حقير خلقه فكيف يتكبر مَن أصلُه هذا. * * * - وقوله: ﴿فَقَدَّرَهُ﴾. أي: قدره أحوالاً: نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم، ثم... وقيل: معناه: قدره حسناً أو قبيحاً، ذكراً وأنثى. * * * - وقوله: ﴿ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾. قال ابن عباس: يعني يسره لطريق الخروج من بطن أمه. وهو قول السدي وقتادة وأبي صالح، وهو اختيار الطبري، لأن قبله ذكر خلقَهُ من نطفة وانتقالَه من (حال إلى) حال في الرحم، فوجب أن يُتْبِعه بذكر خروجه من الرحم ليكون الكلام كله في معنى واحد. وقال مجاهد: هو طريق الخير والشر كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٣]. وعنه أيضاً أنه سبيل الشقاء والسعادة. وقال الحسن: سبيل الخير يسره له. وقال ابن زيد: هداه إلى الإسلام ويسره له. * * * - ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾. أي: أماته بعد إحيائه له عند انقضاء أجله وجعل له قبراً ولم يجعله ممن يُلْقى على وجه الأرض، فهذا كله من نعم الله على ابن آدم. يقال: "قَبَرْت الرجل": [إذا] أدخلته في القبر، و "أَقْبَرْتُهُ": إذا جعلت له قبراً. والمعنى: فصيره ذا قبر. * * * - ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ﴾. أي: أحياه بعد موته. يقال: أحيا الله الميت وأنشره بمعنى. ونَشَر الميّتُ: حَيي هو نفسُهُ. * * * - ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ﴾. أي: ليس الأمر ما يقول هذا الإنسان من [أنه قد أدى] حق الله في نفسه وماله، لم (يقض) ذلك، ولا يقدر عليه. قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض الله عليه. * * * - ثم قال تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً﴾. هذا كله تنبيه من الله لعباده على نعمه عليهم. ومن قرأ (أنّا) بالفتح، فقال أبو حاتم: هو بدل من الطعام. وهو قول الفراء و [أبي] عبيد. وتقديره: فلينظر الإنسان إلى صبنا الماء. وهو قول فيه بعد، لأن الثاني [ليس هو الأول] ولا [بعضه] ولا مشتملاً عليه. (وقيل: إنما فتحت على أنها رفع بالابتداء. ولا يُحسّن سيبويه الابتداء "بأنّ" المفتوحة، وأيضاً فإنه لا خبر لها). وقيل: (إن) التقدير: لأنّا صببنا. وقيل: ﴿أَنَّا﴾ في موضع رفع [على] إضمار مبتدأ، والتقدير: إلى طعامه، طعامه: صبّ الماء... . وقيل: ﴿أَنَّا﴾ بدل الاشتمال من طعامه. والمعنى: فليعتبر الإنسان ويعلم قدر نِعَم الله عليه وكيف سبب له [كمال طعامه] الذي به قوامه، [بأن أنزل] الغيث من السماء فصبه على الأرض صباً، ثم شق للغَيْثِ الأرض شقاً فأنبت فيها حباً، يعني الزرع وسائر الحبوب. * * * - ﴿وَعِنَباً﴾. يعني: الكروم، أي: وكُروم عِنَب. * * * - ﴿وَقَضْباً﴾. يعني: القت. وأهل مكة يسمون القت الصغير القضب، كأنه يقطع مرة بعد مرة. يقال: قضبه: إذا قطعه. وحكى أبو عبيدة أنه الرطبة وقاله الضحاك. وقال الحسن: "القضب: العلف". * * * - ﴿وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً﴾. يعني البساتين التي قد حوِّط حولها بالبنيان. والغلب: الغلاظ، يعني: وأشجار حدائق غلاظ. [يقال]: رجل أغلب للغليظ الرقبة. قال ابن عباس: الحدائق الغلب: ما التف من الشجر واجتمع. وقاله مجاهد. وعن ابن عباس أيضاً: الغلب: الطوال. (وقال قتادة: هي النخل، الكرام)، وقاله ابن زيد. * * * - ثم قال تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾. يعني بالفاكهة: ما يأكله الناس، والأب: ما تأكله الأنعام من المرعى. وهو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة. وعن ابن عباس أيضاً أنه "الثمار الرطبة". * * * - ثم قال تعالى: ﴿مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾. (أي: متعة لكم، يعني الفاكهة ما قبلها، ولأنعامكم). يعني: الأبّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب