الباحث القرآني

الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا: وَهِيَ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْخَلْقِ بُشْرَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ الْمُبَشِّرَاتِ إلَّا الرُّؤْيَا»، وَحَكَمَ بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا؛ فَأَنْكَرَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي حَقِيقَتِهَا؛ فَقَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: إنَّهَا أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ وَاعْتِقَادَاتٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هِيَ إدْرَاكٌ حَقِيقَةً، وَحَمَلَ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ ذَلِكَ عَلَى رُؤْيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَطِيرُ وَهُوَ قَائِمٌ، وَفِي الْمَشْرِقِ وَهُوَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إدْرَاكًا حَقِيقَةً. وَعَوَّلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ فِي أَجْزَاءٍ لَمْ تَحِلَّهَا الْآفَةُ، وَمِنْ بَعْدِ عَهْدِهِ بِالنَّوْمِ اسْتَغْرَقَتْ الْآفَةُ أَجْزَاءَهُ، وَتَقِلُّ الْآفَةُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ. وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ لَهُ عِلْمًا نَاشِئًا، وَيَخْلُقُ لَهُ الَّذِي يَرَاهُ لِيَصِحَّ الْإِدْرَاكُ، فَإِذَا رَأَى شَخْصًا وَهُوَ فِي طَرَفِ الْعَالَمِ فَالْمَوْجُودُ كَأَنَّهُ عِنْدَهُ، وَلَا يَرَى فِي الْمَنَامِ إلَّا مَا يَصِحُّ إدْرَاكُهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَلِذَلِكَ لَا نَرَى شَخْصًا قَائِمًا قَاعِدًا فِي الْمَنَامِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يَرَى الْجَائِزَاتِ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَاتِ، أَوْ الْأَشْيَاءَ الْمُعْتَادَاتِ، وَإِذَا رَأَى نَفْسَهُ يَطِيرُ أَوْ يَقْطَعُ يَدَهُ أَوْ رَأْسَهُ فَإِنَّمَا رَأَى غَيْرَهُ عَلَى مِثَالِهِ، وَظَنِّهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرٍ: إنَّهَا أَوْهَامٌ، وَيَتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ [- عَلَيْهِ السَّلَامُ -]: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي»؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الذَّاتَ النَّبَوِيَّةَ وَلَا الْعَيْنَ الْمُرْسَلَةَ إلَى الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالًا صَادِقًا فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَالْخَبَرِ بِهِ؛ إذْ قَدْ يَرَاهُ شَيْخًا أَشْمَطَ، وَيَرَاهُ شَابًّا أَمْرَدَ، وَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا زَائِدًا، فَقَالَ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» أَيْ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيلًا وَلَا تَلْبِيسًا وَلَا شَيْطَانًا؛ وَلَكِنَّ الْمَلِكَ يَضْرِبُ الْأَمْثِلَةَ عَلَى أَنْوَاعٍ، بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنْ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْمِثَالِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ؛ إذْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّائِمِ إلَّا بِالرَّمْزِ وَالْإِيمَاءِ فِي الْغَالِبِ، وَرُبَّمَا خَاطَبَهُ بِالصَّرِيحِ الْبَيِّنِ، وَذَلِكَ نَادِرٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأَيْت سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ تَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُهَا الْحُمَّى، وَرَأَيْت سَيْفِي قَدْ انْقَطَعَ صَدْرُهُ وَبَقَرًا تُنْحَرُ، فَأَوَّلْتُهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي يُقْتَلُ، وَالْبَقَرُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ وَرَأَيْت أَنِّي أَدْخَلْت يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، وَرَأَيْت فِي يَدِي سِوَارَيْنِ فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي»، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ضُرِبَتْ لَهُ بِهِ الْأَمْثَالُ. وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ أَوَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ [مَعْنَاهُ] إلَّا بَعْدَ الْفِكْرِ. وَقَدْ رَأَى النَّائِمُ فِي زَمَانِ يُوسُفَ بَقَرًا فَأَوَّلَهَا يُوسُفُ السِّنِينَ، وَرَأَى أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَأَوَّلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَبَوَيْهِ، وَأَوَّلَ الْكَوَاكِبَ الْأَحَدَ عَشَرَ إخْوَتَهُ الْأَحَدَ عَشَرَ، وَفَهِمَ يَعْقُوبُ مَزِيَّةَ حَالِهِ، وَظُهُورَ خِلَالِهِ؛ فَخَافَ عَلَيْهِ حَسَدَ الْإِخْوَةِ الَّذِي ابْتَدَأَهُ ابْنَا آدَمَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْكِتْمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ يُوسُفُ فِي وَقْتِ رُؤْيَاهُ صَغِيرًا، وَالصَّغِيرُ لَا حُكْمَ لِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِرُؤْيَاهُ حُكْمٌ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّغِيرَ يَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُ بِالْقَصْدِ، فَيُنْسَبُ إلَى التَّقْصِيرِ، الرُّؤْيَا لَا قَصْدَ فِيهَا، فَلَا يُنْسَبُ تَقْصِيرٌ إلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ حَقِيقَةً كَمَا بَيَّنَّاهُ، فَيَكُونُ مِنْ الصَّغِيرِ كَمَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْيَقِظَةِ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى صُدِّقَ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى فِي الْمَنَامِ تَأَوَّلَ. الثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَهُ يُقْبَلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، مِنْهَا الِاسْتِئْذَانُ فَكَذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] حُكْمٌ بِالْعَادَةِ مِنْ الْحَسَادَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْقَرَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْحُكْمُ بِالْعَادَةِ أَصْلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدُ. وَقِيلَ: إنَّ يَعْقُوبَ قَدْ كَانَ فَهِمَ مِنْ إخْوَةِ يُوسُفَ حَسَدًا لَهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ شَغَفِ أَبِيهِ بِهِ؛ فَلِذَلِكَ حَذَّرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا؟؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ لِابْنِهِ عَنْ ذِكْرِهَا، وَخَوْفَهُ عَلَى إخْوَتِهِ مِنْ الْكَيْدِ لَهُ مِنْ أَجْلِهَا عُلِمَ بِأَنَّهَا تَقْتَضِي ظُهُورَهُ عَلَيْهِمْ وَتَقَدُّمَهُ فِيهِمْ، وَلَمْ يُبَالِ بِذَلِكَ يَعْقُوبُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَوَدُّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَالْأَخَ لَا يَوَدُّ ذَلِكَ لِأَخِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب