الباحث القرآني

فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} [الإسراء: 33]: الْمَعْنَى لِلْقَرِيبِ مِنْهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَالْقُرْبُ فِي الْمَعَانِي لَيْسَ بِالْمَسَافَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالصِّفَاتِ، وَالصِّفَةُ الَّتِي بِهَا كَانَ قَرِيبًا هِيَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ الْبَعْضِيَّةُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَعْضِيَّةِ فَهُوَ وَلِيٌّ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الْوَارِثُ مُطْلَقًا، فَكُلُّ مَنْ وَرِثَهُ فَهُوَ وَلِيُّهُ. وَعَلَى ذَلِكَ وَرَدَ لَفْظُ الْوِلَايَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ رَدْعًا عَنْ الْإِتْلَافِ، وَحَيَاةً لِلْبَاقِينَ؛ وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَالْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ عَنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا، حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِهَا مُسْتَحِقٌّ، بَيْدَ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْقِصَاصَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَجَعَلَهُ لِلْأَوْلِيَاءِ الْوَارِثِينَ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي نُدِبَ إلَيْهِ فِي بَابِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُجْعَلْ عَفَوَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، لِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ». وَكَانَتْ هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ خَاصِّيَّةً أُعْطِيَتْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، تَفَضُّلًا وَتَفْضِيلًا، وَحِكْمَةً وَتَفْصِيلًا، فَخُصَّ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ، لِيُتَصَوَّرَ الْعَفْوُ، أَوْ الِاسْتِيفَاءُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُزْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ فِي الدَّمِ، فَإِذَا قَالَ بِدُخُولِهِنَّ فِيهِ، فَلِعُمُومِ الْآيَةِ، وَإِذَا قَالَ بِخُرُوجِهِنَّ عَنْهُ فَلِأَنَّ طَلَبَ الْقِصَاصِ مَبْنَاهُ عَلَى النَّصْرِ وَالْحِمَايَةِ، وَلَيْسَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]. فَإِذَا قُلْنَا بِدُخُولِهِنَّ فِيهِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَفِي أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ دُخُولُهُنَّ؟ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: فِي الْقَوَدِ دُونَ الْعَفْوِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْغَرَضَ اسْتِبْقَاؤُهُ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، وَالتَّشَفِّي مِنْ عَدَمِ النَّصِيرِ، وَعَظِيمِ الْحُزْنِ عَلَى الْفَقِيدِ؛ وَالنِّسَاءُ بِذَلِكَ أَخَصُّ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ دُخُولَهُنَّ فِي الْعَفْوِ دُونَ الْقَوَدِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْإِسْقَاطِ الَّذِي يُغَلَّبُ فِي الْحُدُودِ؛ فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ وَجَدْنَا الْإِسْقَاطَ، وَإِنْ ضَعُفَ أَمْضَيْنَاهُ. انْتِصَافٌ ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي أَنَّهُ احْتَجَّ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ بِوُجُوهٍ رَكِيكَةٍ، مِنْهَا: أَنَّ الْوَلِيَّ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَهُوَ وَاحِدٌ؛ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ بِمَعْنَى الْجِنْسِ اسْتَوَى الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يُنْصِفْ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ كَلَامَ إسْمَاعِيلَ، وَاسْتَرَكَّهُ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، فَالرَّكِيكُ هُوَ قَوْلُهُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ؛ وَتَمَامُ قَوْلِ إسْمَاعِيلَ هُوَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْوَلِيَّ هَاهُنَا عَلَى التَّذْكِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فِي مَعْنَى الْجِنْسِ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ وَاحِدًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةً، وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي جُمْلَةِ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ حِينَ قَالَ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]؛ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى الرَّجُلِ سَوَاءٌ؛ إذْ كَانَ الْخَيْرُ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَخُصُّهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَالْوَلِيُّ يَكُونُ وَلِيًّا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ كُلَّهَا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ إسْمَاعِيلُ: الْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقُّ كُلَّ الْقِصَاصِ، والْقِصَاصُ لَا بَعْضَ لَهُ؛ فَلَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ إخْرَاجُ الزَّوْجِ مِنْ الْوِلَايَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: تَبَصَّرْ أَيُّهَا الطَّبَرِيُّ مَا قَالَهُ إسْمَاعِيلُ الْمَالِكِيُّ: إنَّمَا لَا تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْوِلَايَةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ، لَا فِي شَهَادَةٍ وَلَا فِي تَعْصِيبٍ؛ فَكَيْفَ تَضْعُفُ عَنْ الْكَمَالِ فِي أَضْعَفِ الْأَحْكَامِ، وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ لَهَا عَلَى الْكَمَالِ، أَيْنَ يَا طَبَرِيُّ تَحْقِيقُ شَيْخِك إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَمَّا احْتِجَاجُك بِالزَّوْجِ فَهُوَ الرَّكِيكُ مِنْ الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي وِلَايَةِ الدَّمِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ إسْمَاعِيلُ: الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِصَاصِ تَقْلِيلُ الْقَتْلِ، وَالْمَقْصُودُ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَلَّا يَجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إمَّا أَنَّ فَكَّيْك ضَعُفَا عَنْ لَوْكِ مَا قَالَهُ إسْمَاعِيلُ، وَإِمَّا تَعَامَيْت عَمْدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَالِاعْتِدَاءَ إنَّمَا شَأْنُهُ الْغَوَائِلُ وَالشَّحْنَاءُ، وَهِيَ بَيْنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَلَا يَقْتُلُ عَلَى الْغَائِلَةِ امْرَأَةً إلَّا دَنِيءُ الْهِمَّةِ، وَيُعَيَّرُ بِهِ بَقِيَّةَ الدَّهْرِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي الْغَالِبِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَوَقَعَ الْقَوْلُ بِجَزَاءِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ إذْ خُرُوجُ الْكَلَامِ عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ هِيَ الْفَصَاحَةُ الْعَرَبِيَّةُ، وَالْقَوَاعِدُ الدِّينِيَّةُ. وَقَدْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ شَيْخُك إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَجَعَلَهُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَرَدَّ إلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ؛ فَكَيْف ذُهِلْت عَنْهُ، وَأَنْتَ تَحْكِيهِ وَتُعَوِّلُ فِي تَصَانِيفِك عَلَيْهِ، [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى سُلْطَانًا فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: السُّلْطَانُ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السُّلْطَانُ الْحُجَّةُ. الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: السُّلْطَانُ إنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ، وإنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ؛ قَالَهُ أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ. الرَّابِعُ: السُّلْطَانُ طَلَبُهُ حَتَّى يُدْفَعَ إلَيْهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَظْهَرَ مِنْ بَعْضٍ، أَمَّا طَلَبُهُ حَتَّى يُدْفَعَ إلَيْهِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ الْحَقِّ، وَآخِرُهُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ. وَأَمْرُ اللَّهِ هُوَ حُجَّةُ الْخَلْقِ لِعِبَادِهِ، وَعَلَيْهِمْ، وَالِاسْتِيفَاءُ هُوَ الْمُنْتَهَى، وَقَدْ تَدَاخَلَتْ، وَتَقَارَبَتْ، وَأَوْضَحُهَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ إنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ نَصًّا، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: الْقَتْلُ خَاصَّةً. وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ: الْخِيرَةُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالدِّيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَقْتُلُ بَدَلَ وَلِيِّهِ اثْنَيْنِ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ. الثَّالِثُ: لَا يُمَثِّلُ بِالْقَاتِلِ؛ قَالَهُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ، وَكُلُّهُ مُرَادٌ؛ لِأَنَّهُ إسْرَافٌ كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]: يَعْنِي مُعَانًا. فَإِنْ قِيلَ: وَكَمْ مِنْ وَلِيٍّ مَخْذُولٍ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ. قُلْنَا: الْمَعُونَةُ تَكُونُ بِظُهُورِ الْحُجَّةِ تَارَةً، وَبِاسْتِيفَائِهَا أُخْرَى، وَبِمَجْمُوعِهِمَا ثَالِثَةً، فَأَيُّهَا كَانَ فَهُوَ نَصْرٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَحِكْمَتُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ وَفِي إفْرَادِ النَّوْعَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب