{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ عَقْدُ نِيَابَةٍ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ، إذْ يَعْجَزُ كُلُّ أَحَدٍ عَنْ تَنَاوُلِ أُمُورِهِ إلَّا بِمَعُونَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَرَفَّهُ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يُرِيحُهُ، حَتَّى جَازَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ؛ لُطْفًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَرِفْقًا بِضَعَفَةِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ كَمَا تَرَوْنَ، وَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَسْمَعُونَ، وَهُوَ أَقْوَى آيَةٍ فِي الْغَرَضِ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وَبِقَوْلِهِ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93].
وَآيَةُ الْقَمِيصِ ضَعِيفَةٌ، وَآيَةُ الْعَامِلِينَ حَسَنَةٌ.
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْت لَهُ: إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: ائْتِ وَكِيلِي، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ».
وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَوَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ عَلَى نِكَاحِ مَيْمُونَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَكَّلَ حَكِيمَ بْنُ حِزَامٍ عَلَى شِرَاءِ شَاةٍ، وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، تَحْرِيرُهُ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِثَالًا:
الْأَوَّلُ: الطَّهَارَةُ: وَهِيَ عِبَادَةٌ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا فِي صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى عَرْكِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَضِّئُ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: النَّجَاسَةُ.
الثَّالِثُ: الصَّلَاةُ: وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِحَالٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهَا الْمُكَلَّفُ، وَلَوْ بِأَشْفَارِ عَيْنَيْهِ إشَارَةً، إلَّا فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ.
الرَّابِعُ: الزَّكَاةُ: وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَخْذِهَا وَإِعْطَائِهَا.
الْخَامِسُ: الصِّيَامُ: وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ بِحَالٍ، إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْلَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
السَّادِسُ الِاعْتِكَافُ وَهُوَ مِثْلُهُ.
السَّابِعُ: الْحَجُّ.
الثَّامِنُ: الْبَيْعُ: وَهِيَ الْمُعَاوَضَةُ وَأَنْوَاعُهَا.
التَّاسِعُ: الرَّهْنُ.
الْعَاشِرُ: الْحَجْرُ: يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاكِمُ مَنْ يَحْجُرُ وَيُنَفِّذُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ، وَالضَّمَانُ، وَالشَّرِكَةُ، وَالْإِقْرَارُ، وَالصُّلْحُ، وَالْعَارِيَّةُ؛ فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا.
وَأَمَّا الْغَصْبُ: فَإِنْ وَكَّلَ فِيهِ كَانَ الْغَاصِبُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ فِعْلُهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الشُّفْعَةُ، وَالْقَرْضُ، وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي اللُّقَطَةِ.
وَأَمَّا قَسْمُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَتَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ.
وَالنِّكَاحُ وَأَحْكَامُهُ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، كَالطَّلَاقِ. وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ لَا وَكَالَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا اللِّعَانُ: فَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِيهِ بِحَالٍ.
وَأَمَّا الظِّهَارُ: فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ.
وَالْخِيَانَاتُ: لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ مِنْ أَنَّهَا بَاطِلٌ وَظُلْمٌ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ عَلَى طَلَبِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ، وَلَا وَكَالَةَ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ.
وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ إلَّا فِي الِاسْتِيلَادِ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِثَالًا، تَكُونُ دُسْتُورًا لِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إلَّا يَسِيرُ فَرْعٍ لَهَا.
[مَسْأَلَة الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَأَكْلِهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَأَكْلِهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَعْطَاهُ وَرِقَهُ مُفْرَدًا، فَلَا يَكُونُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ، وَلَا مُعَوِّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا عَلَى حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَأْكُلُونَ تَمْرًا، فَقَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْإِقْرَانِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ».
الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ الْخَبَطِ «وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُمْ وَفَقَدُوا الزَّادَ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَتْ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا».
وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ يُعْطِيهِمْ كَفَافًا مِنْ ذَلِكَ الْقُوتِ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَحَادِيثَ ذَلِكَ وَمَسَائِلَهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ.
[مَسْأَلَة تَوْكِيلِ ذِي الْعُذْرِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِيهَا إنَّمَا كَانَتْ مَعَ التَّقِيَّةِ وَخَوْفِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِمْ أَحَدٌ لَمَّا كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، وَجَوَازُ تَوْكِيلِ ذِي الْعُذْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ. وَكَانَ سَحْنُونٌ قَدْ تَلَقَّفَهُ عَنْ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَحَكَمَ بِهِ أَيَّامَ قَضَائِهِ. وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْجَبَرُوتِ؛ إنْصَافًا مِنْهُمْ، وَإِرْذَالًا بِهِمْ. وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ، وَلَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَجَازَتْ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ؛ أَصْلُهُ دَفْعُ الدَّيْنِ.
وَمُعَوِّلُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ، وَالنَّاسُ فِي الْأَخْلَاقِ يَتَفَاوَتُونَ، فَرُبَّمَا أَضَرَّ الْوَكِيلُ بِالْآخَرِ.
قُلْنَا: وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا فَيَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فِيمَنْ يُقَاوِمُ خَصْمَهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلِلْوَكَالَةِ مَسَائِلُ يَأْتِي فِي أَبْوَابِهَا ذِكْرُ فُرُوعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] قِيلَ: أَرَادَ أَكْثَرَ.
وَقِيلَ: أَرَادَ أَطْهَرَ، يَعْنِي أَزْكَى وَأَحَلَّ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَبْعِدَ طَلَبَهُ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ النَّهَامَةِ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادًا فَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ رِزْقَهُمْ كَانَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَاحْتَاجُوا إلَى وَضْعٍ فِي الْمَطْعُومِ لِيَقُومَ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْ طَلَبِ الطَّهَارَةِ بَيِّنٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
{"ayah":"وَكَذَ ٰلِكَ بَعَثۡنَـٰهُمۡ لِیَتَسَاۤءَلُوا۟ بَیۡنَهُمۡۚ قَالَ قَاۤىِٕلࣱ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُوا۟ لَبِثۡنَا یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۚ قَالُوا۟ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوۤا۟ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَـٰذِهِۦۤ إِلَى ٱلۡمَدِینَةِ فَلۡیَنظُرۡ أَیُّهَاۤ أَزۡكَىٰ طَعَامࣰا فَلۡیَأۡتِكُم بِرِزۡقࣲ مِّنۡهُ وَلۡیَتَلَطَّفۡ وَلَا یُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا"}