الباحث القرآني

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]. فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا عَنْ زِيَادَةِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ لِمَ جُعِلَتْ الْأَهِلَّةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ». وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ. وَفِي الْأَثَرِ أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِمَا مَلَكَيْنِ؛ وَرَتَّبَ لَهُمَا مَطْلَعَيْنِ، وَصَرَّفَهُمَا بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْأُخْرَى دِينِيَّةٌ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَمَرِ؛ وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ جَعَلَ أَهْلُ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا الشَّمْسَ مَلَكًا أَعْجَمِيًّا وَالْقَمَرَ مَلَكًا عَرَبِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189]: يَعْنِي: فِي صَوْمِهِمْ وَإِفْطَارِهِمْ وَآجَالِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمَنَافِعَ كَثِيرَةٍ لَهُمْ. [مَسْأَلَة فَائِدَة تَخْصِيص الْحَجّ آخِرًا مَعَ دُخُوله فِي عُمُوم اللَّفْظ الْأَوَّل فِي قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]: مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَجِّ آخِرًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ؟ وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ بِالْعَدَدِ وَتُبَدِّلُ الشُّهُورَ؛ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالرُّؤْيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِيقَاتٌ فَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، فَإِنْ لَمْ يُرَ فَلْيُرْجَعْ إلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَإِنْ جُهِلَ أَوَّلُ الشَّهْرِ عُوِّلَ عَلَى عَدَدِ الْهِلَالِ قَبْلَهُ، وَإِنْ عُلِمَ أَوَّلُهُ بِالرُّؤْيَةِ بُنِيَ آخِرُهُ عَلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى رُؤْيَتِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ». وَرُوِيَ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا». [مَسْأَلَةٌ إذَا رُئِيَ الْهِلَالُ كَبِيرًا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا رَأَى أَحَدٌ الْهِلَالَ كَبِيرًا: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يُعَوَّلُ عَلَى كِبَرِهِ وَلَا عَلَى صِغَرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَيْلَتِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ مَا تَزُولُ الشَّمْسُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ". وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ: أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ رُئِيَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى أَمْسَى. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: قَدِمْنَا حُجَّاجًا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالصِّفَاحِ رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ كَأَنَّهُ ابْنُ خَمْسِ لَيَالٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ يُصَامُ لِرُؤْيَتِهَا وَيُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ: وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَغَيْرُهُمَا: هُوَ لِلْمَاضِيَةِ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ عَنْ عُمَرَ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ: " أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ". [مَسْأَلَةٌ الْمَنَاسِكَ مِنْ صَوْمٍ وَحَجٍّ تَنْبَنِي عَلَى حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الْمَنَاسِكَ مِنْ صَوْمٍ وَحَجٍّ تَنْبَنِي عَلَى حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ. [مَسْأَلَةٌ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أشهر الْحَجّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فَجَعَلَ جَمِيعَهَا مِيقَاتًا لِلْحَجِّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَفَادَتْ بَيَانَ حِكْمَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا تَخْصِيصُ الْفَوَائِدِ بِالْأَهِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا فَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ لِجَمِيعِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُحَجُّ لِجَمِيعِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَبَيَّنَ أَنَّ أَهِلَّتَهُ مَعْلُومَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأَهِلَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]: كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ: «أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ، فَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِهِ فَرَجَعَ لِحَاجَةٍ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ؛ فَيَقْتَحِمَ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ؛ ثُمَّ يَقُومَ فِي حُجْرَتِهِ فَيَأْمُرَ بِحَاجَتِهِ، فَتَخْرُجَ إلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَثَرِهِ كَانَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أَحْمَسِيٌّ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا يُبَالُونَ ذَلِكَ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَأَنَا أَحْمَسِيٌّ يَعْنِي عَلَى دِينِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ». الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي تَأْوِيلِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بُيُوتُ الْمَنَازِلِ. الثَّانِي: أَنَّهَا النِّسَاءُ أَمَرَنَا بِإِتْيَانِهِنَّ مِنْ الْقُبُلِ لَا مِنْ الدُّبُرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَثَلٌ؛ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا الْقَوْلُ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا النِّسَاءُ: فَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، فَلَمْ يُوجَدْ وَلَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَثَلًا فِي إتْيَانِ الْأُمُورِ مِنْ وُجُوهِهَا: فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ آيَةٍ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَثَلًا مِنْهَا مَا يَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ. وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبُيُوتُ الْمَعْرُوفَةُ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ذَكَرْنَا أَوْعَبَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ، فَحَقَّقَ أَنَّهَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، ثُمَّ رَكَّبَ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَقْرَبُ، وَلَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ. [مَسْأَلَةٌ تَعَلُّقُ النَّذْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَنْدُوبَاتِ خَاصَّةً دُونَ الْمُبَاحِ وَدُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَاقْتِحَامُ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ نَدْبًا فَيُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ الْقُرْبَةِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ النَّذْرُ بِمُبَاحٍ وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَنْدُوبٍ؛ وَهَذَا أَصْلٌ حَسَنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب