الباحث القرآني

{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 53 - 54]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، أَظْهَرُهَا وَمَا فِيهَا ظَاهِرٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قَوْمِهِ، كَثِيرٌ أَهْلُهُ، فَتَمَنَّى يَوْمَئِذٍ أَلَّا يَأْتِيَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] فَقَرَأَ حَتَّى إذَا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 20]. أَلْقَى الشَّيْطَانُ كَلِمَتَيْنِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَتَكَلَّمَ بِهَا، ثُمَّ مَضَى بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ كُلِّهَا، ثُمَّ سَجَدَ فِي آخَرِ السُّورَةِ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ جَمِيعًا مَعَهُ، وَرَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تُرَابًا إلَى جَبْهَتِهِ وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمَّا أَمْسَى أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ: مَا جِئْتُك بِهَاتَيْنِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا} [الإسراء: 73] {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74] {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 75] فَمَا زَالَ مَغْمُومًا مَهْمُومًا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52].» وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ: لَقَدْ تَلَوْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا لَمْ آتِك بِهِ، فَحَزِنَ وَخَافَ خَوْفًا شَدِيدًا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ تَمَنَّى كَمَا تَمَنَّى، وَأَحَبَّ كَمَا أَحَبَّ، إلَّا وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَى فِي أُمْنِيَّتِهِ كَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ». [مَسْأَلَة النَّبِيَّ إذَا أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكُ بِوَحْيِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتكُمْ بِنُورِ هُدَاهُ، وَيَسَّرَ لَكُمْ مَقْصِدَ التَّوْحِيدِ وَمَغْزَاهُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي فَصْلِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ بِمَا نَرْجُو بِهِ عِنْدَ اللَّهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فِي مَقَامِ الزُّلْفَى، وَنَحْنُ الْآنَ نَجْلُو بِتِلْكَ الْفُصُولِ الْغَمَاءَ، وَنُرَقِّيكُمْ بِهَا عَنْ حَضِيضِ الدَّهْمَاءِ، إلَى بِقَاعِ الْعُلَمَاءِ فِي عَشْرِ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ إذَا أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكُ بِوَحْيِهِ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَحَّتْ الرِّسَالَةُ، وَلَا تَبَيَّنَتْ النُّبُوَّةُ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَثَبَتَ الْيَقِينُ، وَاسْتَقَامَ سَبِيلُ الدِّينِ، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ إذَا شَافَهَهُ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ لَا يَدْرِي أَمَلُك هُوَ أَمْ إنْسَانٌ، أَمْ صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَلْقَتْ عَلَيْهِ كَلَامًا، وَبَلَّغَتْ إلَيْهِ قَوْلًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ مُتَيَقَّنَةٌ، وَحَالَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ، لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَنْقُولِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ فِيهَا، وَلَوْ جَازَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِيهَا، أَوْ يَتَشَبَّهَ بِهَا مَا أَمِنَاهُ عَلَى آيَةٍ، وَلَا عَرَفْنَا مِنْهُ بَاطِلًا مِنْ حَقِيقَةٍ؛ فَارْتَفَعَ بِهَذَا الْفَصْلِ اللَّبْسُ، وَصَحَّ الْيَقِينُ فِي النَّفْسِ. . [مَسْأَلَة اللَّهَ قَدْ عَصَمَ رَسُولَهُ مِنْ الْكُفْرِ] الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ رَسُولَهُ مِنْ الْكُفْرِ، وَآمَنَهُ مِنْ الشِّرْكِ، وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِهِمْ فِيهِ، وَإِطْبَاقِهِمْ عَلَيْهِ؛ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ، أَوْ يَشُكَّ فِيهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ؛ بَلْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي فِي الْأَفْعَالِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْكُفْرِ فِي الِاعْتِقَادِ؛ بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ فِعْلًا وَاعْتِقَادًا. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ. [مَسْأَلَة اللَّهَ قَدْ عَرَّفَ رَسُولَهُ بِنَفْسِهِ وَبَصَّرَهُ بِأَدِلَّتِهِ] الْمَقَامُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَرَّفَ رَسُولَهُ بِنَفْسِهِ، وَبَصَّرَهُ بِأَدِلَّتِهِ، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَعَرَّفَهُ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ إخْوَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ، وَنَحْنُ حُثَالَةُ أُمَّتِهِ؛ وَمَنْ خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ، غَيْرَ عَارِفٍ بِنَبِيِّهِ وَلَا بِرَبِّهِ. الْمَقَامُ الرَّابِعُ: تَأَمَّلُوا فَتَحَ اللَّهُ أَغْلَاقَ النَّظَرِ عَنْكُمْ إلَى قَوْلِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ هُمْ بِجَهْلِهِمْ أَعْدَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِعَدَاوَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَلَسَ مَعَ قُرَيْشٍ تَمَنَّى أَلَّا يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَحْيٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثَرَ وَصْلَ قَوْمِهِ عَلَى وَصْلِ رَبِّهِ، وَأَرَادَ أَلَا يَقْطَعَ أُنْسَهُ بِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي كَانَ حَيَاةَ جَسَدِهِ وَقَلْبِهِ، وَأُنْسَ وَحْشَتِهِ، وَغَايَةَ أُمْنِيَّتِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ؛ فَإِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ فَيُؤْثِرُ عَلَى هَذَا مُجَالَسَةَ الْأَعْدَاءِ. [مَسْأَلَة قَوْلَ الشَّيْطَانِ تِلْكَ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا وَإِنْ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى لِلنَّبِيِّ] الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ تِلْكَ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَهُ مِنْهُ؛ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَكِ، وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ بِالْكُفْرِ، حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَأَنَا مِنْ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَةً، وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِمَا وَفَّقَنِي اللَّهُ لَهُ، وَآتَانِي مِنْ عِلْمِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَلَوْ قَالَهُ أَحَدٌ لَكُمْ لَتَبَادَرَ الْكُلُّ إلَيْهِ قَبْلَ التَّفْكِيرِ بِالْإِنْكَارِ وَالرَّدْعِ، وَالتَّثْرِيبِ وَالتَّشْنِيعِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْهَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ الْقَوْلِ، وَيَخْفَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ، وَلَا يَتَفَطَّنُ لِصِفَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَأَنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى. وَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَنْصُرُ وَلَا تَشْفَعُ، بِهَذَا كَانَ يَأْتِيه جِبْرِيلُ الصَّبَاحُ وَالْمَسَاءُ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى التَّوْحِيدُ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ، فَكَيْفَ يَخْفَى هَذَا عَلَى الرَّسُولِ؟ ثُمَّ لَمْ يَكْفِ هَذَا حَتَّى قَالُوا: إنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُعَارِضَهُ فِيمَا أَلْقَى إلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَّرَهَا عَلَيْهِ جَاهِلًا بِهَا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَقَالَ لَهُ: مَا جِئْتُك بِهَذِهِ. فَحَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] ، فَيَا لِلَّهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَالْعَالَمِينَ مِنْ شَيْخٍ فَاسِدٍ وَسُوسٍ هَامِدٍ، لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَافِيَةً لِمَا زَعَمُوا، مُبْطِلَةً لِمَا رَوَوْا وَتَقَوَّلُوا، وَهُوَ: الْمَقَامُ السَّادِسُ: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِيِّ: كَادَ يَكُونُ كَذَا: مَعْنَاهُ قَارَبَ وَلَمْ يَكُنْ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ. وَهُوَ: الْمَقَامُ السَّابِعُ: وَلَمْ يَفْتَرِ، وَلَوْ فَتَنُوك وَافْتَرَيْت لَاتَّخَذُوك خَلِيلًا، فَلَمْ تُفْتَتَنْ وَلَا افْتَرَيْت، وَلَا عَدُّوك خَلِيلًا. وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك وَهُوَ: [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا] الْمَقَامُ الثَّامِنُ: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74]؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ ثَبَّتَهُ، وَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالْمَعْرِفَةَ فِي قَلْبِهِ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ سُرَادِقَ الْعِصْمَةِ، وَآوَاهُ فِي كَنَفِ الْحُرْمَةِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ إلَى نَفْسِهِ، وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ عِصْمَتِهِ لَحْظَةً لَأَلْمَمَت بِمَا رَامُوهُ، وَلَكِنَّا أَمَرْنَا عَلَيْك بِالْمُحَافَظَةِ، وَأَشْرَقْنَا بِنُورِ الْهِدَايَةِ فُؤَادَك، فَاسْتَبْصِرْ وَأَزِحْ عَنْك الْبَاطِلَ، وَادْحَرْ. فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي عِصْمَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، فَكَيْفَ يَتَأَوَّلُهَا أَحَدٌ؟ عَدُّوا عَمَّا نُسِبَ مِنْ الْبَاطِلِ إلَيْهِ. الْمَقَامُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: فَمَا زَالَ مَهْمُومًا حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج: 52] الْآيَةَ. فَأَمَّا غَمُّهُ وَحُزْنُهُ فَبِأَنْ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِمَّا تَمَكَّنَ، مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَنَالَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ. [مَسْأَلَة بَرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ] الْمَقَامُ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي غَرَضِنَا، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا، أَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ وَسِيرَتِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا عَنْ اللَّهِ قَوْلًا زَادَ الشَّيْطَانُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ الْمَعَاصِي، كَمَا تَقُولُ: أَلْقَيْت فِي الدَّارِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْعِكْمِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْكِيسِ كَذَا. فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ زَادَ فِي الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا أَنَّ النَّبِيَّ قَالَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَرَأَ تَلَا قُرْآنًا مُقَطَّعًا، وَسَكَتَ فِي مَقَاطِعِ الْآيِ سُكُوتًا مُحَصَّلًا، وَكَذَلِكَ كَانَ حَدِيثُهُ مُتَرَسِّلًا مُتَأَنِّيًا، فَيَتَّبِعُ الشَّيْطَانُ تِلْكَ السَّكَتَاتِ الَّتِي بَيْنَ قَوْلِهِ: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 20] وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} [النجم: 21]، فَقَالَ يُحَاكِي صَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لِقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ وَفَسَادِ السَّرِيرَةِ فَتَلَوْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَسَبُوهَا بِجَهْلِهِمْ إلَيْهِ، حَتَّى سَجَدُوا مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّهُ مَعَهُمْ، وَعَلِمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَرْفُضُونَ غَيْرَهُ، وَتُجِيبُ قُلُوبُهُمْ إلَى الْحَقِّ، وَتَنْفِرُ عَنْ الْبَاطِلِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَمِحْنَةٌ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا غَايَةُ الْبَيَانِ بِصِيَانَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ عَنْ الشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ. وَقَدْ أَوْعَدْنَا إلَيْكُمْ تَوْصِيَةً أَنْ تَجْعَلُوا الْقُرْآنَ إمَامَكُمْ، وَحُرُوفَهُ أَمَامَكُمْ، فَلَا تَحْمِلُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، وَلَا تَرْبِطُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَمَا هُدِيَ لِهَذَا إلَّا الطَّبَرِيُّ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَصَفَاءِ فِكْرِهِ، وَسَعَةِ بَاعِهِ فِي الْعِلْمِ، وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ وَذِرَاعِهِ فِي النَّظَرِ؛ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَصَوَّبَ عَلَى هَذَا الْمَرْمَى فَقَرْطَسَ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ، لَا أَصْلَ لَهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَمَا رَوَاهَا أَحَدٌ وَلَا سَطَرَهَا، وَلَكِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب