الباحث القرآني

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَمْرِ لِيَسْتَشِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ وَيَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْت الدَّابَّةَ أَشُورهَا إذَا رُضْتهَا لِتَسْتَخْرِجَ أَخْلَافَهَا. [مَسْأَلَةٌ فِي مَاذَا تَقَعُ الِاسْتِشَارَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَاذَا تَقَعُ الْإِشَارَةُ؟: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِشَارَةُ فِي الْحَرْبِ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا رَأْيٌ بِقَوْلٍ، وَإِنَّمَا هِيَ بِوَحْيٍ مُطْلَقٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ حِينَ خَطَبَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي، وَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا» يَعْنِي بِقَوْلِهِ " أَبَنُوهُمْ " عَيَّرُوهُمْ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُؤَالًا لَهُمْ عَنْ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ التَّعَصُّبِ لَهُمْ وَإِسْلَامَهُمْ إلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ؛ «فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ الْأَوْسِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فِيهِ بِأَمْرِكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِذَلِكَ الْأَوْسِيِّ: كَذَبْت، لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْأَوْسِيِّ الْمُتَكَلِّمِ أَوَّلًا، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْت، لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ؛ فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا». وَكَانَتْ هَذِهِ فَائِدَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُ لِيَسْتَنَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُشَاوَرَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِيءَ بِالْأَسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسَارَى؟ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً طَوِيلَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَمَا رَأَيْتنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ يَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ. قَالَ: وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]» قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ عَلَى النَّحْوِ الْأَوَّلِ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ فِي قَرَابَتِهِمْ وَحَالِ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُ بِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] جَمِيعُ أَصْحَابِهِ؛ وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَأَحَقُّ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُقْصَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَصْرُهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ. فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ؟ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ؛ انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ» إلَى آخِرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب