الباحث القرآني

فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا مِنْ أَوْكَدِ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ، إذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا فَقَدْ وَكَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّ بِأَبْلَغَ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ؛ تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَتَقْوِيَةً لِفَرْضِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْحَجُّ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْل الْإِسْلَام] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ مَشْرُوعًا لَدَيْهِمْ، فَخُوطِبُوا بِمَا عَلِمُوا وَأُلْزِمُوا مَا عَرَفُوا، وَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ؛ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ شَرْعِ إبْرَاهِيمَ مَا غَيَّرُوا حَيْثُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ وَنَحْنُ الْحُمْسُ. [مَسْأَلَةٌ رُكْنَ الْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْحَجِّ الْقَصْدُ إلَى الْبَيْتِ. وَلِلْحَجِّ رُكْنَانِ: أَحَدُهُمَا: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ. وَالثَّانِي: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا وَرَاءَهُ نَازِلٌ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ الْإِحْرَامُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: هُوَ النِّيَّةُ الَّتِي تَلْزَمُ كُلَّ عِبَادَةٍ، وَتَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ طَاعَةٍ، وَكُلُّ عَمَلٍ خِلَافُهَا لَمْ يَكُنْ بِهِ اعْتِدَادٌ؛ فَهِيَ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ. [مَسْأَلَةٌ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ، هَلْ يَكْفِي فِيهِ فِعْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى التَّكْرَارِ؟ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ دَلِيلًا وَمَذْهَبًا. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ». رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ؛ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَوَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ». وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ». فَقَالَ مُحْصِنٌ الْأَسَدِيُّ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَا إنِّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ثُمَّ لَوْ تُرِكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ؟ اُسْكُتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ، إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِامْتِثَالِ الْخِطَابِ إلَّا فَعْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ هِيَ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ هِيَ مُسْتَرْسِلَةٌ عَلَى الزَّمَانِ إلَى خَوْفِ الْفَوْتِ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إلَى حَمْلِهَا عَلَى الْفَوْرِ. وَيَضْعُفُ عِنْدِي. وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي مُطْلَقَاتِ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِفَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ كَمَا تَرَاهُ؛ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى عَلَى النَّاسِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَلَى النَّاسِ} [آل عمران: 97] عَامٌّ فِي جَمِيعِهِمْ، مُسْتَرْسَلٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ الْعُمُومَاتِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، خَلَا الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أُصُولِ التَّكْلِيفِ، فَلَا يُقَالُ فِيهِ: إنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ فِيهِ، وَكَذَا الْعَبْدُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ مُطْلَقِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْنَعُهُ بِشُغْلِهِ بِحُقُوقِهِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ؛ وَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّ السَّيِّدِ عَلَى حَقِّهِ رِفْقًا بِالْعِبَادِ وَمَصْلَحَةً لَهُمْ. وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا نَهْرِفُ بِمَا لَا نَعْرِفُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إلَّا الْإِجْمَاعُ. تَوْجِيهٌ وَتَعْلِيمٌ تَسَاهَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ: إنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَجُّ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَكُنْ حَجُّ الْكَافِرِ مُعْتَدًّا بِهِ، فَلَمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِ الرِّقُّ ضَرْبًا مُؤَبَّدًا لَمْ يُخَاطَبْ بِالْحَجِّ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَاعْلَمُوهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَنَا مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْحَابِ. الثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ فَوَجَبَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ تَلْزَمُهُ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ مَعَ كَوْنِهِ رَقِيقًا، وَلَوْ فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مِثْلَهُ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقَدُّمِ حُقُوقِ السَّيِّدِ. [مَسْأَلَةٌ السَّبِيلُ فِي الْحَجّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: السَّبِيلُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَرَفَعُوا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَهُوَ أَيْضًا يَبْعُدُ مَعْنًى فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: الِاسْتِطَالَةُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَكَانَ أَوْلَى فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الطَّرِيقُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ مَا يَكْسِبُ سُلُوكَهَا، وَهِيَ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَوُجُودُ الْقُوتِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فَالرُّكُوبُ زِيَادَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْبَدَنِ وَوُجُودِ الْقُوتِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: " النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاقَتِهِمْ وَيُسْرِهِمْ وَجَلَدِهِمْ ". قَالَ أَشْهَبُ: أَهُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا قَدْرُ طَاقَةِ النَّاسِ، وَقَدْ يَجِدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السَّيْرِ، وَآخَرُ يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَلَا صِفَةَ فِي ذَلِكَ أَبَيْنُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَهَذَا بَالِغٌ فِي الْبَيَانِ مِنْهُ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ صَحَّ حَدِيثُ الْخُوزِيِّ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ، وَالْغَالِبُ مِنْهُمْ فِي الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ، وَخُرُوجُ مُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِطَاعَةُ فِي الْحَجّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا وُجِدَتْ الِاسْتِطَاعَةُ تَوَجَّهَ فَرْضُ الْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ إلَّا أَنْ تَعْرِضَ لَهُ آفَةٌ، وَالْآفَاتُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْغَرِيمُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْخُرُوجِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ، أَوْ مَنْ كَانَ لَهَا مِنْ النِّسَاءِ زَوْجٌ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ كَاخْتِلَافِهِمْ. وَالصَّحِيحُ فِي الزَّوْجِ أَنَّهُ يَمْنَعُهَا لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَحَقُّ الزَّوْجِ مُقَدَّمٌ، وَأَمَّا الْأَبَوَانِ فَإِنْ كَانَا مَنَعَاهُ لِأَجْلِ الشَّوْقِ وَالْوَحْشَةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَوْفَ الضَّيْعَةِ وَعَدَمِ الْعِوَضِ فِي التَّلَطُّفِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْحَجِّ؛ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةٌ حَجّ الْمَرِيض والْمَغْصُوب] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَغْصُوبًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ إلَى الْحَجِّ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ إنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ إجْمَاعًا؛ وَالْمَرِيضُ وَالْمَغْصُوبُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُمَا؛ فَإِنْ رَوَوْا أَنَّ الصَّحِيحَ قَدْ تَضَمَّنَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى». وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَبَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُمْ فِيهِ أَعْدَلُ قَضِيَّةً؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ دِينًا وَدُنْيَا، وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمَا جِبِلَّةً وَشَرْعًا فَإِنَّهُ رَأَى مِنْ الْمَرْأَةِ انْفِعَالًا بَيِّنًا، وَطَوَاعِيَةً ظَاهِرَةً، وَرَغْبَةً صَادِقَةً فِي بِرِّ أَبِيهَا، وَتَأَسَّفَتْ أَنْ تَفُوتَهُ بَرَكَةُ الْحَجِّ، وَيَكُونَ عَنْ ثَوَابِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِمَعْزِلٍ، وَطَاعَتْ بِأَنْ تَحُجَّ عَنْهُ؛ فَأَذِنَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ. وَكَأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنْ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ، وَالْبَدَنُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَإِنَّ الْمَالَ يَحْتَمِلُهَا فُرُوعِي فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ جِهَةُ الْمَالِ، وَجَازَتْ فِيهِ النِّيَابَةُ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهَا دَيْنُ عَبْدٍ لَسَعَتْ فِي قَضَائِهِ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، إنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهَا تَخْلِيصُهُ مِنْ مَأْثَمِ الدَّيْنِ وَعَارِ الِاقْتِضَاءِ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ؛ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَقْوَى مَا فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ دَيْنًا، وَلَكِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا الشَّخْصَ الْمَخْصُوصَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ دَيْنَ اللَّهِ إذَا وَجَبَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، وَالتَّطَوُّعُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَا صَرَّحَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلِهَا: " إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ " وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَمَنْعِ الْفَرِيضَةِ، وَلَا يَجُوزُ مَا انْتَفَى فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَطْعًا أَنْ يَثْبُتَ فِي آخِرِهِ ظَنًّا. يُحَقِّقُهُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِإِجْمَاعٍ؛ فَإِنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ، وَبِهِ يُبْدَأُ إجْمَاعًا لِفَقْرِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ اللَّه تَعَالَى، فَيَتَعَيَّنُ الْغَرَضُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ مَا ثَبَتَ فِي النَّفْسِ مِنْ الْبِرِّ حَيَاةً وَمَوْتًا وَقُدْرَةً وَعَجْزًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَهَبَ أَبَاهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا مَالًا لِلْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ قُوتٌ يَتَزَوَّدُهُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إجْمَاعًا، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ وَهَبَ أَبَاهُ مَالًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يُجَازِي الْوَالِدَ عَنْ نِعَمِهِ لَا يَبْتَدِئُهُ بِعَطِيَّةٍ. قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْوَلَدِ لَوْ كَانَتْ جَزَاءً لَقُضِيَ بِهَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا، ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مِنَّةٌ فَفِيهِ سُقُوطُ الْحُرْمَةِ وَحَقِّ الْأُبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ قَدْ جَزَاهُ وَقَدْ وَفَاهُ. [مَسْأَلَةٌ حَجّ الْأَعْمَى] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ عَنْ الْأَعْمَى لِإِمْكَانِ وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ مَحْمُولًا؛ فَيَحْصُلُ لَهُ وَصْفُ الِاسْتِطَاعَةِ، كَمَا يَحْصُلُ لَهُ فَرْضُ الْجُمُعَةِ بِوُجُودِ قَائِدٍ إلَيْهَا، وَيَلْزَمُ السَّعْيُ لِقَضَائِهَا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب