الباحث القرآني

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى يُونُسُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى». وَنَسَبُهُ إلَى أَبِيهِ، أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ الْبَارِي تَعَالَى فِي جِهَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى». فَقِيلَ لَهُ: مَا وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ؟ قَالَ: لَا أَقُولُهُ حَتَّى يَأْخُذَ ضَيْفِي هَذَا أَلْفَ دِينَارٍ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ. فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا: هِيَ عَلَيْنَا. فَقَالَ: لَا يَتْبَعُ بِهَا اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ. فَقَالَ وَاحِدٌ: هِيَ عَلَيَّ. فَقَالَ: إنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ، وَصَارَ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَنَادَى: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْرَبَ مِنْ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الرَّفْرَفِ الْأَخْضَرِ، وَارْتَقَى بِهِ، وَصَعِدَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَسْمَعُ مِنْهُ صَرِيرُ الْأَقْلَامِ، وَنَاجَاهُ رَبُّهُ بِمَا نَاجَاهُ، وَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى بِأَقْرَبَ مِنْ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ. قَصَدْت قَبْرَهُ مِرَارًا لَا أُحْصِيهَا بِقَرْيَةِ جُلْجُونَ فِي مَسِيرِي مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ، وَبِتُّ بِهِ، وَتَقَرَّبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَحَبَّتِهِ، وَدَرَسْنَا كَثِيرًا مِنْ الْعِلْمِ عِنْدَهُ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ عَلَى دِجْلَةَ وَمَنْ دَانَاهُمْ، فَكَذَّبُوهُ عَلَى عَادَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ الْعَذَابَ يَأْتِي قَوْمَك يَوْمَ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَئِذٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ: إنَّهُمْ قَدْ حَضَرَهُمْ الْعَذَابُ. قَالَ لَهُ يُونُسُ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَأَلْتَمِسُ حِذَاءً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَغَضِبَ يُونُسُ وَخَرَجَ، وَكَانَتْ الْعَلَامَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ خُرُوجَهُ عَنْهُمْ. فَلَمَّا فَقَدُوهُ خَرَجُوا بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّاةِ وَالسَّخْلَةِ، وَالنَّاقَةِ وَالْهُبَعِ وَالْفَحْلِ، وَكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَعَزَلُوا الْوَالِدَةَ عَنْ وَلَدِهَا وَالْمَرْأَةَ عَنْ خَلِيلِهَا، وَتَابُوا إلَى اللَّهِ، وَصَاحُوا حَتَّى سُمِعَ لَهُمْ عَجِيجٌ، فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَغَضِبَ يُونُسُ، وَرَكِبَ الْبَحْرَ فِي سَفِينَةٍ، حَتَّى إذَا كَانُوا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ رَكَدَتْ السَّفِينَةُ، وَقِيلَ: هَاجَ الْبَحْرُ بِأَمْوَاجِهِ، وَقِيلَ: عَرَضَ لَهُمْ حُوتٌ حَبَسَ جَرْيَتَهَا، فَقَالُوا: إنَّ فِينَا مَشْئُومًا أَوْ مُذْنِبًا، فَلْنَقْتَرِعْ عَلَيْهِ؛ فَاقْتَرَعُوا فَطَارَ السَّهْمُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالُوا: عَلَى مِثْلِ هَذَا يَقَعُ السَّهْمُ، قَدْ أَخْطَأْنَا فَأَعِيدُوهَا، فَأَعَادُوا الْقُرْعَةَ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَقَالُوا مِثْلُهُ، وَأَعَادُوهَا، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ يُونُسُ رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: إنَّا لَمْ نَجْعَلْ يُونُسَ لَك رِزْقًا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا بَطْنَك لَهُ سِجْنًا، فَنَادَى {أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَأَمَرَ الْحُوتَ فَرَمَاهُ عَلَى السَّاحِلِ قَدْ ذَهَبَ شَعْرُهُ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ تَحَاتَّ وَرَقُهَا، فَبَكَى؛ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَتَبْكِي عَلَى شَجَرَةٍ أَنْبَتُّهَا فِي يَوْمٍ وَأَهْلَكْتهَا فِي يَوْمٍ، وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ آمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ. . [مَسْأَلَة وَرَدَتْ الْقُرْعَةُ فِي الشَّرْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] نَصٌّ عَلَى الْقُرْعَةِ. وَكَانَتْ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا جَائِزَةً فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَوَارِدُ أَخْبَارِهَا فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات، وَجَاءَتْ الْقُرْعَةُ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْخُصُوصِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ اقْتَرَعُوا عَلَى مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، وَجَرَتْ سِهَامُهُمْ عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ فِي جَرْيَةِ الْمَاءِ بِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا، وَإِنَّمَا تَجْرِي الْكَفَالَةُ عَلَى مَرَاتِبِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْقُرْعَةُ فِي الشَّرْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: الْأَوَّلُ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ». الثَّانِي: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً». الثَّالِثُ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ، فَقَالَ: اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا، وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاطِنَ، وَهِيَ الْقَسَمُ فِي النِّكَاحِ، وَالْعِتْقُ، وَالْقِسْمَةُ، وَجَرَيَانُ الْقُرْعَةِ فِيهَا لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ وَحَسْمِ دَاءِ التَّشَهِّي. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْغَزْوِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الِاقْتِرَاعُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّفَرَ بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِنُ، وَاخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إيثَارٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقُرْعَةُ. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ فَإِنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ثُلُثٌ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ الْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَتَعْيِينُهُمَا بِالتَّشَهِّي لَا يَجُوزُ شَرْعًا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقُرْعَةُ. وَكَذَلِكَ التَّشَاجُرُ إذَا وَقَعَ فِي أَعْيَانِ الْمَوَارِيثِ لَمْ يُمَيِّزْ الْحَقَّ إلَّا الْقُرْعَةُ، فَصَارَتْ أَصْلًا فِي تَعْيِينِ الْمُسْتَحَقِّ إذَا أَشْكَلَ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ تَجْرِيَ فِي كُلِّ مُشْكِلٍ، فَذَلِكَ أَبْيَنُ لَهَا، وَأَقْوَى لِفَصْلِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَأَجْلَى لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ عَنْهَا؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الطَّلَاقِ كَالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْعِتْقِ؛ وَتَفْصِيلُ الِاقْتِرَاعِ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة الِاقْتِرَاعُ عَلَى إلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الِاقْتِرَاعُ عَلَى إلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ، فَكَيْفَ الْمُسْلِمُ؟ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُونُسَ وَفِي زَمَانِهِ مُقَدِّمَةً لِتَحْقِيقِ بُرْهَانِهِ وَزِيَادَةٍ فِي إيمَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ وَالْبَحْرِ؛ وَإِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا رُمِيَ فِي الْبَحْرِ، لِأَنَّ السَّفِينَةَ وَقَفَتْ وَأَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ حَادِثٍ فِينَا فَانْظُرُوا مَنْ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ، فَسَلَّطُوا عَلَيْهِ مِسْبَارَ الْإِشْكَالِ وَهِيَ الْقُرْعَةُ، فَلَمَّا خَرَجُوا بِالْقُرْعَةِ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَمْيِهِمْ لَهُ، فَرَمَى هُوَ بِنَفْسِهِ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ، وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْرَ إذَا هَالَ عَلَى الْقَوْمِ فَاضْطُرُّوا إلَى تَخْفِيفِ السَّفِينَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ، فَيُطْرَحُ بَعْضُهُمْ تَخْفِيفًا. وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهَا لَا تَخِفُّ بِرَمْيِ بَعْضِ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب