الباحث القرآني

هَذَا خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، وَنَحْنُ نَرَى الْكَافِرِينَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. الثَّانِي: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ وُجُودِ الْحُجَّةِ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَذَلِكَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحُجَّةِ لِلْكَافِرِ مُحَالٌ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْجَعْلُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَأَمَّا نَفْيُ وُجُودِ الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَضَعِيفٌ؛ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ؛ وَإِنْ أَوْهَمَ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ؛ لِقَوْلِهِ: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 141] فَأَخَّرَ الْحُكْمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدُّنْيَا دُولَةً تَغْلِبُ الْكُفَّارُ تَارَةً وَتُغْلَبُ أُخْرَى بِمَا رَأَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَسَبَقَ مِنْ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141]. فَتَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يَمْحُو بِهِ دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبُ آثَارَهُمْ، وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: وَدَعَوْت رَبِّي أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا مِنْهُ إلَّا أَنْ تَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ، وَلَا تَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَتَتَقَاعَدُوا عَنْ التَّوْبَةِ؛ فَيَكُونُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ وَهَذَا نَفِيسٌ جِدًّا. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لَلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا بِالشَّرْعِ؛ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ، وَنَزَعَ بِهَذَا عُلَمَاؤُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ؛ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَفَى السَّبِيلَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِ، وَالْمِلْكُ بِالشِّرَاءِ سَبِيلٌ فَلَا يُشْرَعُ وَلَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ مَعْنَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] فِي دَوَامِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّا نَجِدُ ابْتِدَاءَهُ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِالْإِرْثِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدٌ كَافِرٌ فِي يَدَيْ كَافِرٍ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ، فَقَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْعِهِ مَاتَ، فَيَرِثُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَارِثُ الْكَافِرِ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ قَدْ ثَبَتَتْ ابْتِدَاءً، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ. وَرَأَى مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحُكْمَ بِمِلْكِ الْمِيرَاثِ ثَابِتٌ قَهْرًا لَا قَصْد فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: مِلْكُ الشِّرَاءِ ثَبَتَ بِقَصْدِ الْيَدِ، فَقَدْ أَرَادَ الْكَافِرُ تَمَلُّكَهُ بِاخْتِيَارِهِ. قُلْنَا: فَإِنَّ الْحُكْمَ بِعَقْدِ بَيْعِهِ وَثُبُوتِ مِلْكِهِ؛ فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ قَصْدُهُ وَجَعَلَ لَهُ سَبِيلُ الْيَدِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَة عَظِيمَةٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَحَكَمْنَا بِالْحَقِّ فِيهَا فِي كِتَابِ " الْإِنْصَافِ لِتَكْمِلَةِ الْإِشْرَافِ "، فَلْيُنْظَرْ هُنَا لَك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب