الباحث القرآني

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ الْفِرَاقَ لِلْأَزْوَاجِ وَالِانْتِقَالَ بِالنِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ إلَى امْرَأَةٍ أَخْبَرَ عَنْ دِينِهِ الْقَوِيمِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِنَّ إلَيْهِنَّ عِنْدَ فِرَاقِهِنَّ؛ فَوَطْأَةٌ وَاحِدَةٌ حَلَالًا تُقَاوِمُ مَالَ الدُّنْيَا كُلِّهِ، نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ أَنْ يَعْتَرِضُوهُنَّ فِي صَدَقَاتِهِنَّ، إذْ قَدْ وَجَبَ ذَلِكَ لَهُنَّ وَصَارَ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] فِيهِ جَوَازُ كَثْرَةِ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يُقَلِّلُونَهُ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ: " أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مَا أَصْدَقَ قَطُّ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً " فَقَامَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَحْرُمُنَا أَنْتَ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فَقَالَ عُمَرُ: " امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ ". وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ مِثْلُهُ إلَى قَوْلِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، زَادَ: فَإِنَّ الرَّجُلَ يُغَلِّي بِالْمَرْأَةِ فِي صَدَاقِهَا. فَتَكُونُ حَسْرَةٌ فِي صَدْرِهِ فَيَقُولُ: كُلِّفْت إلَيْكَ عِرْقَ الْقِرْبَةِ. قَالَ: فَكُنْت غُلَامًا مَوْلُودًا لَمْ أَدْرِ مَا هَذَا؛ قَالَ: وَأُخْرَى يَقُولُونَ لِمَنْ قُتِلَ فِي مَغَازِيكُمْ هَذِهِ: قُتِلَ فُلَانٌ شَهِيدًا أَوْ مَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ وَأُفْرِدَ دُونَ رَاحِلَتِهِ أَوْ أَعْجَزَهَا بِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مَاتَ فَلَهُ الْجَنَّةُ». وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عُمَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّدْبَ إلَى التَّعْلِيمِ؛ وَقَدْ تَنَاهَى النَّاسُ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى بَلَغَ صَدَاقُ امْرَأَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ، وَهَذَا قَلَّ أَنْ يُوجَدَ مِنْ حَلَالٍ. وَقَدْ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ غَالَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ أَيَرُدُّهُ السُّلْطَانُ؟ قَالَ: لَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ إلَى عَلِيٍّ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتَهُ مِنْ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: إنَّهَا صَغِيرَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ كُلَّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا نَسَبِي وَصِهْرِي»، فَلِذَلِكَ رَغِبْت فِي مِثْلِ هَذَا ". فَقَالَ عَلِيٌّ: إنِّي أُرْسِلُهَا حَتَّى تَنْظُرَ إلَى صِغَرِهَا، فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَتْ، فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي يَقُولُ: هَلْ رَضِيت الْحُلَّةَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ رَضِيتهَا. فَأَنْكَحَهَا عَلِيٌّ فَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «صَدَاقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ حَبِيبَةَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ»، وَرُوِيَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ». «وَقَالَ لِرَجُلٍ: أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ فُلَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلَانًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَزَوَّجَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكْتُبْ لَهَا صَدَاقًا وَلَا أَعْطَاهَا شَيْئًا، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَلَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَنِي فُلَانَةَ، فَلَمْ أُعَيِّنْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا، وَإِنِّي أُعْطِيهَا مِنْ صَدَاقِهَا سَهْمِي بِخَيْبَرَ، فَأَخَذَتْ سَهْمَهُ ذَلِكَ فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ». وَزَوَّجَ عُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَعَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ مُطَرِّفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ أُوقِيَّةٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، يُقَالُ هِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. «وَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ». وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَضِيَتْ عَنْ مَالِكِ بِهَاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا جَازَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَاقِ الرِّطْلُ مِنْ الذَّهَبِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الْحَرَائِرِ مِثْلَ أُجُورِ الْبَغَايَا: الدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، خِلَافُ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَسَيَأْتِي تَقْدِيرُ الْمَهْرِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {قِنْطَارًا} [النساء: 20] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: اُخْتُلِفَ فِي الْقِنْطَارِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَهُوَ الْأَوْلَى لِلصَّوَابِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ دِيَةُ أَحَدِكُمْ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ؛ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ؛ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا. السَّادِسُ: أَنَّهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مِائَةُ رِطْلٍ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. التَّاسِعُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: وَهُوَ مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَحَكُّمٌ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ رُوِيَ بَعْضُهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ. وَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ الْوَزْنِ، هَذَا عُرْفٌ عَرَبِيٌّ، أَمَّا أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ فِي الْقِنْطَارِ عُرْفٌ مُعْتَادٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقِنْطَارَ أَرْبَعَةُ أَرْبَاعٍ، وَالرُّبْعُ ثَلَاثُونَ رِطْلًا، وَالرِّطْلُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَالدِّرْهَمُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ حَبَّةً، وَهِيَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، فَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَبِحَسَبِ اتِّفَاقِهِمْ أَوْ بِحُكْمِ الْوُلَاةِ، وَقَدْ رَدُّوا الدِّرْهَمَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مِنْ سِتَّةِ دَوَانِيقَ، وَرَكَّبُوا الدِّرْهَمَ الْأَكْبَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ دَوَانِيقَ عَلَى الدِّرْهَمِ الْأَصْغَرِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، فَحَمَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ زِيَادَةَ الْأَكْبَرِ عَلَى نُقْصَانِ الْأَصْغَرِ، فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةُ دَوَانِيقَ، وَجَعَلُوا الدِّينَارَ دِرْهَمَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ. وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ «عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ قَالَ: زَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ عَلَى أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا بِوَزْنِ سِتَّةٍ»؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ، إنَّمَا زَوَّجَهُ إيَّاهَا فِي الصَّحِيحِ عَلَى دِرْعِهِ الْحُطَمِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب