الباحث القرآني

فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: لَوْ نَوَى تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا مَعَ نِيَّةِ الْحَدَثِ أَوْ مَجَمًّا لِمَعِدَتِهِ مَعَ التَّقَرُّبِ لِلَّهِ أَوْ قَضَاءِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ، لِأَنَّهُ مَزَجَ فِي نِيَّتِهِ التَّقَرُّبِ بِنِيَّةٍ دُنْيَاوِيَّةٍ وَلَيْسَ لِلَّهِ إلَّا الدِّينُ الْخَالِصُ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ التَّبَرُّدَ لِلَّهِ، وَالتَّنْظِيفَ وَإِجْمَامَ الْمَعِدَةِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ مُبَاحٌ فِي مَوْضِعٍ، وَلَا تُنَاقِضُ الْإِبَاحَةُ الشَّرِيعَةَ. [مَسْأَلَة أَحَسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِدَاخِلٍ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَوْ أَحَسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِدَاخِلٍ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَظِرُهُ، وَلَيْسَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِمَنْ عَقَدَ الصَّلَاةَ مَعَهُ؛ وَمُرَاعَاتُهُ أَوْلَى. [مَسْأَلَة بِرُّ الْوَالِدَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِرُّهُمَا يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ فَأَمَّا فِي الْأَقْوَالِ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] فَإِنَّ لَهَا حَقَّ الرَّحِمِ الْمُطْلَقَةِ، وَحَقَّ الْقَرَابَةِ الْخَاصَّةِ؛ إذْ أَنْتَ جُزْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَصْلُكَ الَّذِي أَوْجَدَكَ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِكَ حَالَ ضَعْفِكَ وَعَجْزِكَ عَنْ نَفْسِكَ. وَقَدْ «عَرَضَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ كُنْت تُرِيدُ النِّسَاءَ الْبِيضَ وَالنُّوقَ الْأُدْمَ فَعَلَيْكَ بِبَنِي مُدْلِجٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَعَ مِنِّي سَبْيَ بَنِي مُدْلِجٍ لِصِلَتِهِمْ الرَّحِمَ». وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ: أَنَّ يُوسُفَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَبَوَاهُ فَلَمْ يَقُمْ لَهُمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَا أَخْرَجْت مِنْ صُلْبِكَ نَبِيًّا، فَلَا نَبِيَّ فِيهِمْ مِنْ عَقِبِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ»؛ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ». وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَخَذَ الْوَالِدُ الْهِبَةَ مِنْ الْوَلَدِ أَغْضَبَهُ فَعَقَّهُ، وَمَا أَدَّى إلَى الْمَعْصِيَةِ فَمَعْصِيَةٌ. قُلْنَا: أَمَّا إذَا عَصَى أُخِذَ بِالشَّرْعِ فَلَا لَعًا لَهُ وَلَا عُذْرَ، إنَّمَا يَكُونُ الْعُذْرُ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَوْ عَصَى اللَّهَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ مِنْ بِرِّ الرَّجُلِ بِوَالِدِهِ الْمُشْرِكِ أَلَّا يَقْتُلَهُ؟ قُلْنَا: مِنْ بِرِّهِ بِنَفْسِهِ أَنْ يَتَوَلَّى قَتْلَهُ. «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ مُسْتَأْذِنًا فِي قَتْلِ أَبِيهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ أَذِنْت لِي فِي قَتْلِهِ قَتَلْته»: وَهَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِلرَّحِمِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَمَا جَاءَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بَطَلَ حَقُّ الرَّحِمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ، وَالْخَامِسَةُ: الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ: وَقَدْ تَقَدَّمَتَا. [مَسْأَلَة حُرْمَةُ الْجَارِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]: حُرْمَةُ الْجَارِ عَظِيمَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعْقُولَةٌ مَشْرُوعَةٌ مُرُوءَةً وَدِيَانَةً؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ». وَقَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ». " وَالْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ: الْجَارُ الْمُسْلِمُ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: الْجَارُ الْمُسْلِمُ لَهُ الرَّحِمُ ". وَهُمَا صِنْفَانِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، وَأَبْعَدُهُ فِي قَوْلِ الزُّهْرِيِّ مَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا. وَقِيلَ: الْبَعِيدُ مَنْ يَلِيكَ بِحَائِطٍ، وَالْقَرِيبُ مَنْ يَلِيكَ بِبَابِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ: «إنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أَهْدِي؟ قَالَ: إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا». وَحُقُوقُهُ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا الْإِكْرَامُ، وَكَفُّ الْأَذَى. وَمِنْ الْعَشَرَةِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ». وَقَدْ رَأَى جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَدْبًا لَا فَرْضًا، وَأَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ مَكْرُوهًا لَا مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ. وَالْحَائِطُ يَحْتَاجُهُ صَاحِبُهُ؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ نَقَصَ مَالُهُ، وَإِنْ أَعَارَهُ تَكَلَّفَ حِفْظَهُ بِالْإِشْهَادِ، وَأَضَرَّ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَحْتَمِلَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ أَبَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ وِزْرٌ. [مَسْأَلَةُ الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ: قِيلَ: إنَّهُ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَاَلَّذِي قَالَ هَذَا جَعَلَ قَوْلَهُ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] الْجَارُ الَّذِي لَهُ الرَّحِمُ. وَقِيلَ: إنَّهُ الَّذِي يَجْمَعُكَ مَعَهُ رُفَاقَةُ السَّفَرِ، فَهُوَ ذِمَامٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ يَلُفُّهُ مَعَهُ الْأُنْسُ وَالْأَمْنُ وَالْمَأْكَلُ وَالْمَضْجَعُ، وَبَعْضُهَا يَكْفِي لِلْحُرْمَةِ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ؟. [مَسْأَلَةُ شُفْعَةِ الْجُوَارِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لَيْسَ مِنْ حَقِّ الْجُوَارِ الشُّفْعَةُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَفْرُوضَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ، وَالْمَفْرُوضُ لَهُمْ يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، وَلَمْ يَبْقَ شَرْعٌ وَلَا حَقٌّ إلَّا دَخَلَ فِيهِ؛ فَعَمَّتْ الْوَصِيَّةُ فِيهِ، وَتَفَصَّلَتْ مَنَازِلُهُ بِالْأَدِلَّةِ؛ وَإِنَّمَا قَطَعْنَا شُفْعَةَ الْجِوَارِ بِعِلَّةٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالشَّرِكَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ». فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ». قُلْنَا: أَرَادَ بِهِ الشَّرِيكَ، وَهُوَ أَخَصُّ جُوَارٍ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ابْنُ السَّبِيلِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: ابْنُ السَّبِيلِ: قِيلَ: هُوَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِكَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ». وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَرَى أَنَّ الضِّيَافَةَ حَقٌّ. وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَرَامَةٌ، وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ، وَبِذَلِكَ يُفَسَّرُ أَنَّ الْإِحْسَانَ هَاهُنَا مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ الْفَقِيرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّفْقِ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، مَلَّكَكُمْ اللَّهُ رِقَابَهُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ». وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: «كُنْت أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَسَمِعْت صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ مَرَّتَيْنِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْقَيْت السَّوْطَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب