الباحث القرآني

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ أُنَاسٌ مِنْ خَلْفِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [الأعراف: 204]؛ فَسَكَتَ النَّاسُ خَلْفَهُ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جُهِرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي آنِفًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ، نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: إنِّي أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَا صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَأَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا». وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّبْحَ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنِّي لَا أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ. قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إي وَاَللَّهِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا». وَقَدْ رَوَى النَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، أَعْظَمُهُمْ فِي ذَلِكَ اهْتِبَالًا الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَدْ جَمَعَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا، وَكَانَ رَأْيُهُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَهِيَ إحْدَى رِوَايَاتِ مَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ. فَقُلْت: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؛ إنِّي أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، فَغَمَزَ ذِرَاعِي، وَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا يَا فَارِسِيُّ فِي نَفْسِك، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اقْرَءُوا، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». وَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فَقَرَأَ قَوْمٌ خَلْفَهُ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ لَا تَعْقِلُونَ؟ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ فَتًى كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا قَرَأَ فِيهِ النَّبِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ؛ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهَا قَلِيلٌ، وَالْإِنْصَاتُ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَرَأَ بِهَا، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا. وَأَصَحُّ مِنْهُ قَوْلُ جَابِرٍ: لَا يُقْرَأُ بِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا»؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَطْعَنَ فِيهِ، يُعَضِّدُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَقَدْ غَمَزَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ قَدْ أَشَرْنَا إلَى بَعْضِهَا، وَذَكَرْنَا نُبَذًا مِنْهَا، وَالتَّرْجِيحُ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِيهَا. وَاَلَّذِي نُرَجِّحُهُ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ فِي الْإِسْرَارِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ. وَأَمَّا الْجَهْرُ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقِرَاءَةِ فِيهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ حُكْمُ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. وَقَدْ عَضَّدَتْهُ السُّنَّةُ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا». الثَّانِي: قَوْلُهُ: " وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ". الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّرْجِيحِ: إنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا سَبِيلَ إلَيْهَا فَمَتَى يَقْرَأُ؟ فَإِنْ قِيلَ: يَقْرَأُ فِي سَكْتَةِ الْإِمَامِ. قُلْنَا: السُّكُوتُ لَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ فَكَيْفَ يُرَكَّبُ فَرْضٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَجَدْنَا وَجْهًا لِلْقِرَاءَةِ مَعَ الْجَهْرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْقَلْبِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا نِظَامُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَحِفْظُ الْعِبَادَةِ، وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ، وَعَمَلٌ بِالتَّرْجِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]. وَهِيَ: الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ فَقَوْلُهُ: {فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205] يَعْنِي صَلَاةَ الْجَهْرِ. وَقَوْلُهُ: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] يَعْنِي صَلَاةَ السِّرِّ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِيهِ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه قَلِيلًا بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّمَا خَرَجَتْ الْآيَةُ عَلَى سَبَبٍ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يُكْثِرُونَ اللَّغَطَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَيَمْنَعُونَ مِنْ اسْتِمَاعِ الْأَحْدَاثِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِنْصَاتِ حَالَةَ أَدَاءِ الْوَحْيِ، لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْكُفَّارِ. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ؛ فَلَا يَنْفَعُ مُعْتَمَدُهُ. الثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّعَلُّقِ بِظَاهِرِهِ إذَا كَانَ عَامًّا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ وَلَا لِلشَّافِعِيَّةِ كَلَامٌ يَنْفَعُ بَعْدَمَا رَجَّحْنَا بِهِ وَاحْتَجَجْنَا بِمَنْصُوصِهِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَمْهِيدًا يُسَكِّنُ كُلَّ جَأْشٍ نَافِرٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب