الباحث القرآني

إلَى: {هَرَبًا} [الجن: 12] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ الْجِنِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُمْ أَحَدُ خَلْقِ الْأَرْضِ، أُنْزِلَ أَبُوهُمْ إبْلِيسُ إلَيْهَا، كَمَا أُنْزِلَ أَبُونَا آدَم، هَذَا مَرْضِيٌّ عَنْهُ، وَهَذَا مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجَانَّ مَسْخُ الْجِنِّ، كَمَا مُسِخَتْ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْمُخْتَزِنِ: إنَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْجِنِّ. وَلَسْت أَرْضَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ [مَسْأَلَة هَلْ قَرَأَ رَسُولُ اللَّه عَلَى الْجِنِّ وَرَآهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ، فَقَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا حَدَثٌ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، تَتْبَعُونَ مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ؛ فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدًا إلَى سُوقِ عِكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاَللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. قَالَ: فَهُنَاكَ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ، وَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا؛ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 2] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]؛ قَالَ: لَمَّا رَأَوْهُ وَأَصْحَابَهُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ قَالَ: فَتَعَجَّبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، قَالُوا لِقَوْمِهِمْ: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]. صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا حَدَثٌ، فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَخْلَةَ، وَهُوَ عَامِدٌ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ. فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَمِعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 2]. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]. وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ». وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: «قُلْت لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ قَالَ: مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ؛ وَلَكِنْ افْتَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقُلْنَا: اُغْتِيلَ، اُسْتُطِيرَ، مَا فُعِلَ بِهِ؟ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، حَتَّى إذَا أَصْبَحْنَا أَوْ كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ إذَا نَحْنُ بِهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ. قَالَ: فَذَكَرُوا لَهُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ قَالَ: فَقَالَ: أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَأَتَيْتهمْ فَقَرَأْت عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَانْطَلَقَ فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ.» وَابْنُ مَسْعُودٍ أَعْرَفُ بِالْأَمْرِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ شَاهَدَهُ، وَابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ؛ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. [مَسْأَلَة زَادَ الْجِنّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ الشَّعْبِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: «وَسَأَلُوهُ الزَّادَ، وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ: كُلُّ عَظْمٍ يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِ فَإِنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ». وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ كَفَرَةِ الْأَطِبَّاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْجِنَّ وَقَالُوا إنَّهُمْ بَسَائِطُ وَلَا يَصِحُّ طَعَامُهُمْ؛ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءً [عَلَيْهِ]. وَقَدْ مَهَّدْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَبَيَّنَّا جَوَازَ وُجُودِهِمْ عَقْلًا لِعُمُومِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوبَ وُجُودِهِمْ شَرْعًا بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَهُمْ مِنْ تَيَسُّرِ التَّصَوُّرِ فِي الْهَيْئَاتِ مَا خَلَقَ لَنَا مِنْ تَيَسُّرِ التَّصَوُّرِ فِي الْحَرَكَاتِ؛ فَنَحْنُ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شِئْنَا ذَهَبْنَا، وَهُمْ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءُوا تَيَسَّرَتْ لَهُمْ، وَوُجِدُوا عَلَيْهَا، وَلَا نَرَاهُمْ فِي هَيْئَاتِهِمْ، إنَّمَا يَتَصَوَّرُونَ فِي خَلْقِ الْحَيَوَانَاتِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ بَسَائِطُ، فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَسِيطٌ، بَلْ الْكُلُّ مُرَكَّبٌ مُزْدَوِجٌ، إنَّمَا الْوَاحِدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ وَغَيْرُهُ مُرَكَّبٌ لَيْسَ بِوَاحِدٍ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ حَالُهُ؛ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُوَرِهِمْ، كَمَا يَرَى الْمَلَائِكَةَ؛ وَأَكْثَرُ مَا يَتَصَوَّرُونَ لَنَا فِي صُوَرِ الْحَيَّاتِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ؛ قَالَ: فَوَجَدْته يُصَلِّي، فَجَلَسْت أَنْتَظِرُهُ حَتَّى تُقْضَى صَلَاتُهُ، فَسَمِعْت تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتّ فَإِذَا حَيَّةٌ، فَوَثَبْت لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إلَيَّ أَنْ أَجْلِسَ، فَجَلَسْت، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْصَافِ النَّهَارِ، فَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذْ عَلَيْك سِلَاحَك؛ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك قُرَيْظَةَ. فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً، فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: كُفَّ عَلَيْك رُمْحَك، وَادْخُلْ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ، فَإِذَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ، فَانْتَظَمَهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ فَمَا نَدْرِي أَيَّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا: الْحَيَّةُ أَمْ الْفَتَى. قَالَ: فَجِئْنَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، قُلْنَا: اُدْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا. فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ». وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ». أَوْ قَالَ: «اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ». وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي السَّائِبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ أَسْلَمُوا، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ». وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْحَيَّاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ، فَقَالَ: إذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ فَقُولُوا: نَشَدْتُكُمْ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نُوحٌ نَشَدْتُكُمْ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانُ أَلَّا تُؤْذُونَا، فَإِنْ رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُنَّ.» الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ فِي التَّقْدِيمِ إلَى الْحَيَّاتِ يَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؛ إنْ كُنْت تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُنْت مُسْلِمًا فَلَا تُؤْذِنَا وَلَا تَشْعَفْنَا، وَلَا تُرَوِّعْنَا، وَلَا تَبْدُوَنَّ لَنَا، فَإِنَّك إنْ تَبْدُ بَعْدَ ثَلَاثٍ قَتَلْتُك. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: يُحَرِّجُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَلَّا يَبْدُوَ لَنَا، وَلَا يَخْرُجُ. وَقَالَ أَيْضًا عَنْهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْك بِأَسْمَاءِ اللَّهِ أَلَّا تَبْدُوَ لَنَا. قَالَ الْقَاضِي: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي غَارٍ، وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، حَتَّى خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ غَارٍ، فَبَادَرْنَاهَا، فَدَخَلَتْ جُحْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، وَوُقِيتُمْ شَرَّهَا؛ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنْذَارٍ وَلَا تَحْرِيجٍ» لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ. وَأَمَرَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ وَلَا تَحْرِيجٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْإِنْذَارِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فِي الْحَضَرِ، لَا لِمَنْ يَكُونُ فِي الْقَفْرِ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمَدِينَةِ، لِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا أَسْلَمُوا. وَهَذَا لَفْظٌ مُخْتَصٌّ بِهَا، فَتَخْتَصُّ بِحُكْمِهَا. قُلْنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْبُيُوتِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّلْ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَخْصُوصًا بِهَا، وَإِنَّمَا عَلَّلَ بِالْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي غَيْرِهَا، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ مُخْبِرًا عَنْ الْجِنِّ الَّذِينَ لَقِيَ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: وَنَهَى عَنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ، وَهَذَا عَامٌّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إنْذَارِهِمْ وَالتَّحْرِيجِ [عَلَيْهِمْ]: هَلْ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، أَمْ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَالْقَوْلُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِمُفْرَدٍ فِي نَكِرَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِي الْمُفْرَدَاتِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالنَّفْيِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِيمَا سَبَقَ هَاهُنَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثِ حَالَاتٍ لَكَانَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُنَّ وَتَعْرِيضًا لِمَضَرَّتِهِنَّ، وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ تُنْذَرُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ عَلَيْهَا الْإِنْذَارُ ثَلَاثًا، فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ لَهَا الْإِنْذَارُ، فَإِنْ فَرَّتْ وَغَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ أَوْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ: كَيْفَ يُنْذَرُ بِالْقَوْلِ وَيُحَرَّجُ بِالْعَهْدِ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ الْأَقْوَالَ، وَلَا تَفْهَمُ الْمَقَاصِدَ وَالْأَغْرَاضَ؟ قُلْنَا: الْحَيَّاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ حَيَّةٌ عَلَى أَصْلِهَا، فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا الْعَدَاوَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي مُعَاضَدَةِ إبْلِيسَ عَلَى آدَمَ، وَإِلَى هَذَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ. فَهَذَا الْقِسْمُ يُقْتَلُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ وَلَا إمْهَالٍ وَعَلَامَتُهُ الْبَتْرُ وَالطُّفَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُقْتُلُوا الْأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ»؛ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ حَيَّةً أَصْلِيَّةً، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ جِنِّيًّا [تَصَوَّرَ] بِصُورَتِهَا، فَلَا يَصِحُّ الْإِقْدَامُ بِالْقَتْلِ عَلَى الْمُحْتَمِلِ، لِئَلَّا يُصَادِفَ مَنْهِيًّا عَنْهُ حَسْبَمَا يُرْوَى لِلْعَرُوسِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَتَلَ الْحَيَّةَ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا هُوَ أَمْ الْحَيَّةُ. وَيَكْشِفُ هَذَا الْخَفَاءَ الْإِنْذَارُ، فَإِنْ صَرُمَ كَانَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَّاتِ الْأَصْلِيَّاتِ، إذْ لَمْ يُؤْذَنْ لِلْجِنِّ فِي التَّصَوُّرِ عَلَى الْبَتْرِ وَالطُّفَى، وَلَوْ تَصَوَّرَتْ فِي هَذَا كَتَصَوُّرِهَا فِي غَيْرِهِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِطْلَاقِ بِالْقَتْلِ فِي ذَيْنِ وَالْإِنْذَارِ فِي سِوَاهُمَا مَعْنًى. وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْبَلِيدُ وَالْمُرْتَابُ بِعَدَمِ فَهْمِهِنَّ، فَيُقَالُ: إيهٍ اُنْظُرْ إلَى التَّقْسِيمِ، إنْ كُنْت تُرِيدُ التَّسْلِيمَ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حَيَّةً جِنِّيَّةً أَوْ أَصْلِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ جِنِّيَّةً فَهِيَ أَفْهَمُ مِنْك، وَإِنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً فَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَذِنَ فِي الْخِطَابِ، وَلَوْ كَانَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ لَكَانَ أَمْرًا بِالتَّلَاعُبِ. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. فَإِنْ شَكَّ فِي النُّبُوَّةِ، أَوْ فِي خَلْقِ الْجِنِّ، أَوْ فِي صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلْيَنْظُرْ فِي الْمُقْسِطِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْمُشْكِلَيْنِ يُعَايِنُ الشِّفَاءَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَحْتَاجُ الْإِنْذَارُ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَانِّ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنْ كَفَّ فَهُوَ جِنٌّ مُؤْمِنٌ، وَإِلَّا كَانَ كَافِرًا أَوْ حَيَوَانًا. قُلْنَا: أَمَّا الْحَيَوَانُ فَقَدْ جُعِلَتْ لَهُ عَلَامَةٌ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ خُصَّ بِالْإِنْذَارِ؛ وَالْحَيَوَانُ يَفْهَمُ بِالْإِنْذَارِ كَمَا يَفْهَمُ بِالزَّجْرِ؛ وَلِهَذَا تُؤَدَّبُ الْبَهِيمَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب