الباحث القرآني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَلَاثُ آيَاتٍ: النَّفَلُ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالثُّلُثُ. وَرَوَى مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِئْت بِسَيْفٍ؛ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ نَحْوَ هَذَا، هَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ. فَقَالَ: هَذَا لَيْسَ لَك وَلَا لِي فَقُلْت: عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي، فَجَاءَنِي الرَّسُولُ فَقَالَ: إنَّك سَأَلْتنِي وَلَيْسَ لِي، وَلَقَدْ صَارَ لِي وَهُوَ لَك» فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ صَحِيحٌ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ «سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَرَجَا يَتَنَفَّلَانِ نَفْلًا، فَوَجَدَا سَيْفًا مُلْقًى يُقَالُ كَانَ لِأَبِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَخَرَّا عَلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ سَعْدٌ: هُوَ لِي. وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: هُوَ لِي، فَتَنَازَعَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَك، رَأَيْنَاهُ جَمِيعًا وَخَرَرْنَا عَلَيْهِ جَمِيعًا. فَقَالَ: لَا أُسَلِّمُهُ إلَيْك حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا عَرَضَا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ قَالَ: لَيْسَ لَك يَا سَعْدُ وَلَا لِلْأَنْصَارِيِّ، وَلَكِنَّهُ لِي، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] فَاتَّقِ اللَّهَ يَا سَعْدُ وَالْأَنْصَارِيُّ، وَأَصْلِحَا ذَاتَ بَيْنِكُمَا، وَأَطِيعَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ». يَقُولُ أَسْلَمَ السَّيْفَ إلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]. [مَسْأَلَة تَعْرِيف النَّفَلُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النَّفَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، وَمِنْهَا نَفْلُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى فَرْضِهَا، وَوَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ، وَالْغَنِيمَةُ نَافِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِيمَا أُحِلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى غَيْرِهَا، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ». وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ [أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قَالَ: «فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إنَّك مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ، فَجَاءَتْ النَّارُ لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا. فَقَالَ: إنْ فِيكُمْ غُلُولًا قَبَلِيًّا فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُك، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ، وَرَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا» [مَسْأَلَة عِدَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: كَانَتْ بَدْرٌ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ عَامٍ وَنِصْفٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِشَهْرَيْنِ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عِدَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَقَالَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ. وَرَوَى أَيْضًا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِدَّةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: كَمْ يَطْعَمُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَوْمًا عَشْرًا وَيَوْمًا تِسْعَ جَزَائِرَ. فَقَالَ: الْقَوْمُ مَا بَيْنَ الْأَلْفِ إلَى التِّسْعِمِائَةِ» وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشِيرُوا عَلَيَّ. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ، ثُمَّ قَعَدَ. ثُمَّ قَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلَّمَ، ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: كَأَنَّك إيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمْ مُتَّبِعُونَ. لَوْ أَتَيْت الْيَمَنَ لَسَلَلْنَا سُيُوفَنَا وَاتَّبَعْنَاك. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذُوا مَصَافَّكُمْ». الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: الْأَنْفَالُ، الْغَنَائِمُ، الْفَيْءُ. فَالنَّفَلُ: الزِّيَادَةُ كَمَا بَيَّنَّا، وَتَدْخُلُ فِيهِ الْغَنِيمَةُ فَإِنَّهَا زِيَادَةُ الْحَلَالِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالْغَنِيمَةُ: مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِقِتَالٍ. وَالْفَيْءُ: مَا أُخِذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُؤْمِنِ بِهِ. [مَسْأَلَة مَحَلِّ الْأَنْفَالِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي مَحَلِّ الْأَنْفَالِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَحَلُّهَا الْخُمُسُ. الثَّانِي: مَحَلُّهَا مَا عَادَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أُخِذَ بِغَيْرِ حَرْبٍ. الثَّالِثُ: رَأْسُ الْغَنِيمَةِ حَسْبَمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ. قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: لَا آمُرُك وَلَا أَنْهَاك. فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا إلَّا مُحَلِّلًا وَمُحَرِّمًا. قَالَ الْقَاسِمُ: فَسُلِّطَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ النَّفَلِ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ مِنْ النَّفَلِ، وَالسِّلَاحُ مِنْ النَّفَلِ. وَأَعَادَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَغْضَبَهُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَدْرُونَ مَا مِثْلُ هَذَا؟ مِثْلُ صَنِيعِ الَّذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ حَتَّى سَالَتْ الدِّمَاءُ عَلَى عَقِبَيْهِ أَوْ عَلَى رِجْلَيْهِ، س فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْك لِابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ: هِيَ مَا شَذَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخُمُسِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ؛ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: لِمَنْ يُدْفَعُ هَذَا الْخُمُسُ؟ لَمْ يَخْرُجْ مِنَّا. فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ الْخُمُسِ» كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي مِنْهُ مَا شَاءَ مِنْ سَلَبٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. فَأَمَّا هَذَا السُّؤَالُ هَاهُنَا فَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي نَفْلٌ عَلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَنَا مِنْ الْحَلَالِ عَلَى الْأُمَمِ. الْمَعْنَى: يَسْأَلُك أَصْحَابُك يَا مُحَمَّدٌ عَنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي نَفَّلْتُكهَا. قُلْ لَهُمْ: هِيَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَخْتَلِفُوا، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، لِئَلَّا يُرْفَعَ تَحْلِيلُهَا عَنْكُمْ بِاخْتِلَافِكُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. فَتَسَارَعَ إلَى ذَلِكَ الشُّبَّانُ، وَثَبَتَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فُتِحَ عَلَيْهِمْ جَاءُوا يَطْلُبُونَ شَرْطَهُمْ، فَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُوا بِهِ عَلَيْنَا، كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، لَوْ انْهَزَمْتُمْ لَانْحَزْتُمْ إلَيْنَا، فَأَبَى الشُّبَّانُ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَنَا، فَتَنَازَعُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]». وَرُوِيَ «أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ؛ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ لَنَا، حَرَسْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ لَنَا، اتَّبَعْنَا أَعْدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ. وَقَالَتْ أُخْرَى: نَحْنُ أَوْلَى بِهَا، أَخَذْنَاهَا، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]» وَرَوَى «أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَأَلْت عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنْ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ: فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَوَاءٍ؛ أَيْ عَلَى السَّوَاءِ.» الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: «فَسَلَّمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ الْأَمْرَ فِيهَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ». فَلَمْ يُمْكِنْ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّفَلُ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ. وَهُوَ الْخُمُسُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: خَرَجْنَا فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَصَبْنَا إبِلًا، فَقَسَّمْنَاهَا، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلْنَا بَعِيرًا بَعِيرًا. [مَسْأَلَة سَلَبُ الْقَتِيلِ] فَأَمَّا: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَهِيَ سَلَبُ الْقَتِيلِ: فَإِنَّهُ مِنْ الْخُمُسِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ لِغَنَاءٍ فِي الْمُعْطَى: أَوْ مَنْفَعَةٍ تُجْلَبُ، أَوْ ائْتِلَافٍ يُرْغَبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمَالِكِينَ. فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ فَمُتَعَارِضَةٌ، رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِسَلَبِ أَبِي جَهْلٍ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ». وَقَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَأَعْطَى السَّلَبَ لِأَبِي قَتَادَةَ بِمَا أَقَامَ مِنْ الشَّهَادَةِ، وَقَضَى بِالسَّلَبِ أَجْمَعَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ يَوْمَ ذِي قَرَدٍ». قُلْنَا: هَذِهِ الْأَخْبَارُ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ إعْطَاءِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. وَهَلْ إعْطَاءُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ حَقِّ النَّبِيِّ وَهُوَ الْخُمُسُ؟ ذَلِكَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ حَقٍّ عَلَى الْأَخْمَاسِ، فَجَعَلَ خُمُسَهَا لِرَسُولِهِ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا وَقُتِلُوا، فَهُمْ فِيهَا شَرْعٌ سَوَاءٌ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهَا بِهِ؛ وَالِاشْتِرَاكُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُسَبَّبِ، وَيَمْنَعُ مِنْ التَّفَاضُلِ فِي الْمُسَبِّبِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّبَبِ؛ هَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحُكْمُهُ، وَقَضَاءُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَعِلْمُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدٌ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ؛ فَأَخْبَرَ عَوْفٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِخَالِدٍ: مَا مَنَعَك أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟ قَالَ: اسْتَكْثَرْته يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ادْفَعْهُ إلَيْهِ. فَلَقِيَ عَوْفٌ خَالِدًا فَجَرَّهُ بِرِدَائِهِ، وَقَالَ: هَلْ أَنْجَزْت مَا ذَكَرْت لَك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتُغْضِبَ، فَقَالَ: لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدٌ. هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي إمْرَتِي». وَلَوْ كَانَ السَّلَبُ حَقًّا لَهُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ لَمَا رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَا كَانَ النَّاسُ يُنَفِّلُونِ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَفَلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ. وَلَمْ يَصِحَّ. [مَسْأَلَة النَّفَلُ عَلَى قِسْمَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: النَّفَلُ عَلَى قِسْمَيْنِ: جَائِزٌ وَمَكْرُوهٌ، فَالْجَائِزُ بَعْدَ الْقِتَالِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ». وَالْمَكْرُوهُ أَنْ يُقَالَ قَبْلَ الْقَتْلِ: " مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا ". وَإِنَّمَا كُرِهَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْقِتَالُ فِيهِ لِلْغَنِيمَةِ. «وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وَيَحِقُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَإِنْ نَوَى فِي ذَلِكَ الْغَنِيمَةَ؛ وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُهُ الْمَغْنَمَ خَاصَّةً. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] قَوْلُهُ: {لِلَّهِ} [الأنفال: 1] اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ، وَابْتِدَاءٌ بِالْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ مَرْمَى، الْكُلُّ لِلَّهِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: (وَالرَّسُولِ) قِيلَ: أَرَادَ بِهِ مِلْكًا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ وِلَايَةَ قَسَمٍ وَبَيَانَ حُكْمٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» وَلَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمَلِّكَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ تَشْرِيفًا وَتَقْدِيمًا بِالْحَقِيقَةِ، وَيَرُدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفَضُّلًا عَلَى الْخَلِيقَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب