الباحث القرآني

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 29] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي التَّقْوَى وَحَقِيقَتِهَا وَأَنَّهَا فَعْلَى، مِنْ وَقَى يَقِي وِقَايَةً وَوَاقِيَةً، أُبْدِلَتْ الْوَاوُ تَاءً لُغَةً؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ وِقَايَةً وَحِجَابًا، وَلَهَا فِيهِ مَحَالُّ: الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ: الْعَيْنُ: فَإِنَّهَا رَائِدُ الْقَلْبِ وَرَبِيئَتُهُ، فَمَا تَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَرْسَلَتْهُ إلَيْهِ، فَهُوَ يَفْصِلُ مِنْهُ الْجَائِزَ مِمَّا لَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَلَّلْتهَا بِحِجَابِ التَّقْوَى لَمْ تُرْسِلْ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَا يَجُوزُ، فَيَسْتَرِيحُ مِنْ شَغَبِ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ؛ وَرُبَّمَا أَصَابَتْ هَذَا الْمَعْنَى الشُّعَرَاءُ كَقَوْلِهِمْ: وَأَنْتَ إذَا أَرْسَلْتَ طَرَفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِك يَوْمًا أَسْلَمَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ... وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَخَذَ طَرَفًا مِنْ الْمَعْنَى، فَإِنَّ شَيْخَنَا عَطَاءً الْمَقْدِسِيَّ شَيْخَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَوْفَى الْمَعْنَى فِي بَيْتَيْنِ أَنْشَدَنَاهُمَا: إذَا لُمْت عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أَضَرَّتَا ... بِجِسْمِي وَقَلْبِي قَالَتَا لُمْ الْقَلْبَا فَإِنْ لُمْت قَلْبِي قَالَ عَيْنَاك جَرَّتَا ... عَلَيَّ الرَّزَايَا ثُمَّ لِي تَجْعَلُ الذَّنْبَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا. أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ». الْمَحَلُّ الثَّانِي: الْأُذُنُ: وَهِيَ رَائِدٌ عَظِيمٌ فِي قَبِيلِ الْأَصْوَاتِ يُلْقِي إلَى الْقَلْبِ مِنْهَا مَا يُغَبِّيهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْبَوَاطِلُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الْحَقَائِقِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ أَوَّلًا، وَيُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِهِ؛ وَإِذَا سَمِعَ الْقَوْلَ اتَّبَعَ أَحْسَنَهُ، وَوَعَى أَسْلَمَهُ، وَصَانَ عَنْ غَيْرِهِ أُذُنَهُ، أَوْ قَذَفَهُ عَنْ قَلْبِهِ إنْ وَصَلَ إلَيْهِ. الْمَحَلُّ الثَّالِثُ: اللِّسَانُ: وَفِيهِ نَيِّفٌ عَلَى عِشْرِينَ آفَةً وَخُصْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الصِّدْقُ، وَبِهَا يَنْتَفِي عَنْهُ جَمِيعُ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، وَعَنْ بَدَنِهِ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، فَإِذَا حَجَبَهُ بِالصِّدْقِ فَقَدْ كَمُلَتْ لَهُ التَّقْوَى، وَنَالَ الْمَرْتَبَةَ الْقُصْوَى. الْمَحَلُّ الرَّابِعُ: الْيَدُ: وَهِيَ لِلْبَطْشِ وَالتَّنَاوُلِ، وَفِيهَا مَعَاصٍ مِنْهَا: الْغَصْبُ، وَالسَّرِقَةُ، وَمُحَاوَلَةُ الزِّنَا، وَالْإِذَايَةُ لِلْحَيَوَانِ وَالنَّاسِ، وَحِجَابُهَا الْكَفُّ إلَّا عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ. الْمَحَلُّ الْخَامِسُ: الرِّجْلُ: وَهِيَ لِلْمَشْيِ إلَى مَا يَحِلُّ، وَإِلَى مَا يَجِبُ، وَحِجَابُهَا الْكَفُّ عَمَّا لَا يَجُوزُ. الْمَحَلُّ السَّادِسُ: الْقَلْبُ: وَهُوَ الْبَحْرُ الْخِضَمُّ، وَفِي الْقَلْبِ الْفَوَائِدُ الدِّينِيَّةُ، وَالْآفَاتُ الْمُهْلِكَةُ، وَالتَّقْوَى، فِيهِ حِجَابٌ يَسْلُخُ الْآفَاتِ عَنْهُ، وَشَحْنُهُ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ؛ وَشَرْحُهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَخَلْعِ الْكِبْرِ وَالْعَجَبِ بِمَعْرِفَتِهِ بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَالتَّبَرِّي مِنْ الْحَسَدِ، وَالتَّحَفُّظِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ، بِمُرَاعَاةِ غَيْرِ اللَّهِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالرُّكُونِ إلَى الدُّنْيَا بِالْغَفْلَةِ عَنْ الْمَالِ. فَإِذَا انْتَهَى الْعَبْدُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ مَهَّدَ لَهُ قَبُولَهُ مَكَانًا، وَرَزَقَهُ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْخَيْرِ إمْكَانًا، وَجَعَلَ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فُرْقَانًا، وَهِيَ: [مَسْأَلَة يَمْتَثِل مَا أُمِرَ وَيَجْتَنِبَ كَيْفَ اسْتَطَاعَ مَا عَنْهُ نُهِيَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قِسْمِ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ: أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أُمِرَ، وَيَجْتَنِبَ كَيْفَ اسْتَطَاعَ مَا عَنْهُ نُهِيَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ». وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] قَالَ: مَخْرَجًا. ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] إلَى: {فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] قَالَ: يَعْنِي مَخْرَجًا. وَقَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْهَا فَذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: يَجْعَلْ لَكُمْ فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَبْوَابُ الْعَمَلِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبَدَانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب