الباحث القرآني

فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ هَاهُنَا، وَنَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ هَذَا بِآيَاتٍ، فَأَمَّا هَذِهِ الَّتِي أَعْقَبَتْ ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ فَمَعْنَاهَا التَّهْدِيدُ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ هَذَا فَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ، وَتَقْدِيرُهَا: اعْمَلُوا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّفَاقَ مَوْضِعُ تَرْهِيبٍ، وَالْإِيمَانُ مَحَلُّ تَرْغِيبٍ، فَقُوبِلَ أَهْلُ كُلِّ مَحَلٍّ مِنْ الْخِطَابِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، كَمَا قِيلَ لِلْكُفَّارِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّهْدِيدِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94]: الْبَارِي رَاءٍ مَرْئِيٌّ، يَرَى الْخَلْقَ، وَيَرَوْنَهُ، فَأَمَّا رُؤْيَتَهُمْ لَهُ فَفِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، وَمِنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ لِلْخَلْقِ فَدَائِمَةٌ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ وَيَرَى. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ: إنَّهُ يَعْلَمُ وَلَا يَرَى، وَمَتَى أُخْبِرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْعِلْمِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّهُ رَاءٍ بِرُؤْيَةٍ، كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَخَبَرُهُ صَادِقٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَائِيًا لَكَانَ مَئُوفًا؛ لِأَنَّ الْحَيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا كَانَ مَئُوفًا، وَهُوَ الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ، وَهَذِهِ الْعُمْدَةُ الْعَقْلِيَّةُ لِعُلَمَائِنَا؛ فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ صِفَتِهِ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَعْتِهِ، فَلَزِمَنَا اعْتِقَادُهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 94]: ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُسْتَقْبَلَةٌ، وَالْبَارِي يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ، وَيَرَاهُ إذَا عَمِلَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَوْجُودِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، «عَنْ جِبْرِيلَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ؛ فَإِنَّك إنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 94]: مَعْنَاهُ يَجْعَلُهُ فِي الظُّهُورِ مَحَلَّ مَا يَرَى. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: ابْنَ آدَمَ، اعْمَلْ وَأَغْلِقْ عَلَيْك سَبْعِينَ بَابًا، يُخْرِجْ اللَّهُ عَمَلَكَ إلَى النَّاسِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْإِمَامُ مَالِكٌ، إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ النَّاسِ، فَأَمَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَسَّرَهُ، كَمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُظْهِرهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْثِرُ الْحُجُبَ فِي رُؤْيَتِهِ، وَلَا تَمْنَعُ الْأَجْسَامَ عَنْ إدْرَاكِهِ. وَفِي الْأَثَرِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَبَدَ اللَّهَ فِي صَخْرَةٍ لَا بَابَ لَهَا، وَلَا كُوَّةَ لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَمَلَهُ إلَى النَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَاَللَّهُ يُطْلِعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِ إخْوَانِهِمْ مِنْ خَيْرٍ فَيُحِبُّونَهُ، أَوْ شَرٍّ فَيَبْغَضُونَهُ». وَقَالَ اللَّهُ: «إذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي آتَيْته أُهَرْوِلُ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ». وَفِي الصَّحِيحِ: «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ؛ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ: يَا مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ؛ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ؛ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَرَاهُ فِي الْبُغْضِ إلَّا مِثْلَ ذَلِكَ». إيضَاحٌ مُشْكِلٍ: قَوْلُهُ: " إذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا مَثَلٌ؛ لِأَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ بِالْمِسَاحَةِ؛ وَإِنَّمَا قُرْبُهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ لِلْجَمِيعِ، وَبِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ لِمَنْ أَرَادَ ثَوَابَهُ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا: أَتَيْته أُهَرْوِلُ مِثْلُهُ فِي التَّمْثِيلِ، وَالْإِشَارَةُ بِهِ إلَى أَنَّ الثَّوَابَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الْعَمَلِ، فَضَرَبَ زِيَادَةَ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْمُجَازَاةِ عَلَى الْبَعْضِ مَثَلًا فِي زِيَادَةِ ثَوَابِهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ، إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْعَمَلِ تُوجِبُ مُوَاظَبَةَ الثَّوَابِ، وَتُطَهِّرُ الْمُوَاظَبَةُ الْأَعْضَاءَ عَنْ الْمَعَاصِي؛ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْجَوَارِحُ لِلَّهِ خَالِصَةً؛ فَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ تَعَالَى عَنْهَا تَشْرِيفًا لَهَا حِينَ خَلَصَتْ مِنْ الْمَعَاصِي. وَمِثْلُهُ النُّزُولُ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إفَاضَةِ الْخَيْرِ وَنَشْرِ الرَّحْمَةِ. . [مَسْأَلَة الْمُنَافِقِينَ يَعْتَقِدُونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ أَعْمَالَ الْإِيمَانِ كَأَنَّهَا أَعْمَالُ بِرٍّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فِي الْمُنَافِقِينَ فَهِيَ عَلَى رَسْمِ التَّهْدِيدِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَعْتَقِدُونَ الْكُفْرَ، وَيُظْهِرُونَ أَعْمَالَ الْإِيمَانِ كَأَنَّهَا أَعْمَالُ بِرٍّ، وَهِيَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ وَلَا نِيَّةٍ، فَاَللَّهُ يَرَاهَا كَذَلِكَ، وَيُطْلِعُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا اطِّلَاعُ رَسُولِهِ فَبِعَيْنَيْهِ، وَأَمَّا اطِّلَاعُ الْمُؤْمِنِينَ فَبِالْعَلَامَاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ: مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَإِنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَعْلَمُهُ، فَيَعْلَمُهُ رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَنَرُدُّ الْعِلْمَيْنِ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَنَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَمَوَاقِعِهَا. أَمَّا الْمُنَافِقُ فَنَقْدَمُ إلَى عَمَلِهِ فَنَجْعَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الَّذِي خَلَطَ فِي أَعْمَالِهِ طَاعَةً بِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّهُ يُوَازِنُ بِهَا فِي الْكِفَّتَيْنِ، فَمَا رَجَحَ مِنْهَا عَلَى مِقْدَارِ عَمَلِهِ فِيهَا أَظْهَرَهُ عَلَيْهَا، وَحَكَمَ بِهِ لَهَا. وَالْمَرْءُ يَكُونُ فِي مَوْطِنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَوْطِنُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ قَبْضِ الرُّوحِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنَّهُ وَقْتُ كَشْفِ الْغِطَاءِ، وَسَلَامَةِ الْبَصَرِ عَنْ الْعَمَى، فَيُقَالُ لَهُ: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]. فَانْظُرْ إلَى مَا كُنْت غَافِلًا عَنْهُ، أَوْ بِهِ مُتَهَاوِنًا. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْوَزْنِ، وَتَطَايُرِ الصُّحُفِ وَالْأَنْبَاءِ، حِينَئِذٍ يَكُونُ بِإِظْهَارِ الْجَزَاءِ، وَشَرْحِ صِفَةِ الْأَنْبَاءِ وَمَوَاطِنِهِ فِي كِتَابِ الذِّكْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب