الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ اختلف قول أهل المعاني في هذا: فقال الفرَّاء [[في "معاني القرآن" له: 1/ 229.]] والزجاجُ [[في "معاني القرآن" له: 1/ 456. وقد أورده الزجاج بلفظ (قيل: ..).]]، وغيرُهما [[ممن جوز هذا القول: النحاس، في "إعراب القرآن" 1/ 357.]]: كنتم خير أُمَّةٍ عند الله، في اللَّوْح المحفوظ. وقالا [[قائل هذا القول، هو: الفراء، في المرجع السابق. والعبارات التالية له نقلها == المؤلف بتصرف يسير. أما الزجاج فلم يذكر هذا المعنى في هذا الموضع. وممن قال بهذا: ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 295. وجعله من باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه، قال: (ومنه أن يأتي الفعلُ على بِنْيَةِ الماضي وهو دائمٌ أو مُستَقبَل) وذكره. وقال به الطبري، في "تفسيره" 4/ 45 - 46، وابن فارس، في "الصاحبي" 364، ويرويه أبو العباس عن ابن الأعرابي، كما في "تهذيب اللغة" 4/ 3084 (كون)، وجوزه النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 357.]] أيضًا: معنى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾: أنتم خير أمة؛ كقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: 86]، وقال في موضع آخر: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ﴾ [الأنفال: 26]. وإضمارُ (كان) [[في (ج): (كل).]] وإظهارُها في مثل هذا، سواءٌ، إلّا أنها إذا ذُكِرت كانت للتأكيد، ووقوع الأمرِ لا مَحالة. قال ابن الأنباري [[لم أقف على مصدر قوله.]]: وهذا القول ظاهرُ الاختلال؛ لأن (كان) يُلغى [[في (ب)، (ج): (تلغى).]] مُوسَّطًا ومُؤَخَّرًا، ولا يُلغَى [[في (ب)، (ج): (تلغى).]] مُقدَّما؛ تقول العرب: (عبدُ الله كان قائمٌ) و (عبدُ الله قائمٌ، كان)؛ على أنَّ (كان) مطروحة، ولا يقولون: (كانَ عبدُ الله قائمٌ)، على إلغائها، لأنَّ سبيلهم أن يبدأوا بما [تنصرف الغايةُ إليه، والمُلْغَى غير معني به، على أنَّه لا يجوز] [[ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج).]] إلغاءُ الكَوْنِ في الآية؛ لانتصاب خبره، وإذا (أُعْمِلَ) [[في (أ): (عمل).]] الكَوْنُ في الخَبَرِ، فنصبه، لم يكن مُلغًى. وقال بعضُ النحويين [[لم أقف عليهم.]]: إنما قال: ﴿كُنْتُمْ﴾، ولم يقل: (أنتم)؛ لتَقَدُّمِ [[في (ج): (فتقدم).]] البِشَارَةِ بهذه الأُمَّة، ولِمَا قد [[في (أ)، (ب): (قدم). والمثبت من (ج).]] كان يُسمَعُ مِنَ الخير في هذه الأمَّةِ؛ فكأنَّه [[في (ج): (وكأنه).]] قيل: كنتم خير أُمَّةٍ بُشِّرَت بها. وهذا القول، يُروى معناه عن الحَسَنِ [[قوله في "تفسير الطبري" 4/ 45، "النكت والعيون" 1/ 416.]]. وقال بعضهم [[منهم الطبري، كما سيأتي.]]: الكَوْنُ ههنا بمعنى: الوقوع والحُدُوث، وهي التَّامَّةُ التي لا تحتاج إلى خبر، فمعنى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾: حَدَثْتم خَيْرَ أُمَّةٍ، ووُجِدْتُم وخُلِقْتُم خَيرَ أمَةٍ، فيكون ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ حينئذ بمعنى الحَالِ. وهذا معنى قولِ [ابن] [[ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).]] جَرِير [[في "تفسيره" 7/ 106.]]. وحكى الزجاجُ [[في "معاني القرآن" له 1/ 456. أورد هذا القول وصدَّره بلفظ (قيل ..).]] عن بعضهم: كنتم [منذ] [[في (أ)، (ب)، (ج): (قد). ولم أر لها وجهًا. وأثبتُّها من: "معاني القرآن" للزجاج. وقد تكون (مُذ) فحرِّفت إلى (قد).]] آمنتم خيرَ أُمَّةٍ [[قد يكون القائل ابن الأنباري؛ حيث أورد ابن الجوزي في الزاد نحو هذا القول، وقال: (ذكره ابن الأنباري) ونصه: (مذ كنتم). انظر: "زاد المسير" 1/ 439.]]. فأمَّا المُخاطَبون بهذا: فقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير [[هذه الرواية، في "مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 398 رقم (32349)، و"مسند أحمد" (شرح الشيخ أحمد شاكر): 4/ 153 رقم (2463)، 335 (1928)، 355 (3989)، 5/ 112 (3321)، وصححه الشيخ شاكر، وتفسير النسائي: 1/ 319، "تفسير الطبري" 4/ 45، "تفسير عبد الرزاق" 130، "تفسير ابن أبي حاتم" == 3/ 732، "المعجم الكبير" للطبراني: 12/ 6 رقم (12303)، ومستدرك الحاكم: 2/ 294. وصححه ووافقه الذهبي، "تفسير الثعلبي" 3/ 98 أ، وذكرها ابن حجر في "المطالب العالية" 3/ 315 رقم (3570) وعزاها للحارث بن أبي أسامة في مسنده عن ابن عباس، وذكرها الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 327 وقال: (رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)، وأوردها ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 225 وعزاها لمن سبق وقال عن إسنادها: (جيد)، وأوردها السيوطي في "الدر" 2/ 113، وزاد نسبة إخراجها لعبد بن حميد، والفريابي، وابن المنذر، عن ابن عباس موقوفًا.]]: هم الذين هاجروا مع النبي ﷺ إلى المدينة. وعلى هذا [[في (ج): (ذلك).]]: عِكْرِمة [[قوله في "تفسير الطبري" 4/ 43، "تفسير الثعلبي" 3/ 98 أ، "أسباب النزول" للواحدي: (121)، "تفسير البغوي" 2/ 89، "زاد المسير" 1/ 438، "الدر المنثور" 2/ 113 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.]]، ومقاتل [[قوله في "تفسيره" 1/ 295، والمصادر السابقة ما عدا الطبري. وقد ورد قول مقاتل وعكرمة في معرض بيانهما لسبب نزول الآية، فقد قال مقاتل في تفسيره (وذلك أن مالك بن الصَّيف، ووهب بن يهوذا، قالا لعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة: إن ديننا خيرٌ مِمَّا تدعوننا إليه فأنزل الله عز وجل - فيهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ في زمانكم، كما فضل بني إسرائيل في زمانهم). وانظر المصادر السابقة.]]، والضَّحَّاك [[قوله في "تفسير الطبري" 4/ 44، "تفسير الثعلبي" 3/ 98 أ، ولكنه فيه: (عن الضحاك عن ابن عباس)، "تفسير البغوي" 2/ 89]]: أن هذا خاصة لأصحاب محمد [[في (ب): (النبي).]] ﷺ. يدل على هذا القول: ما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه قال في هذه الآية [[قوله في "تفسير الطبري" 4/ 43، وابن أبي حاتم: 3/ 732، "تفسير الثعلبي" 3/ 98 أ، "تفسير البغوي" 2/ 89.]]: هي لأوَّلِنا، ولا تكون لآخرنا. وقال [[أي: ابن عباس - رضي الله عنه -.]] في رواية عطاء [[لم أقف على مصدر هذه الرواية.]]: يريد: أُمَّةَ محمد ﷺ. فعلى هذا: هم جميع المؤمنين من هذه الأمَّة. قال الزجاج [[في "معاني القرآن" له: 1/ 456، نقله عنه بتصرف يسير جدًّا.]]: هذا الخطاب، أصلُه: أنه خوطب به أصحابُ رسول الله ﷺ، وهو يَعُمُّ سائرَ أُمَّتِهِ. وقوله تعالى: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ يُحتَمَلُ أنْ يكون ﴿للِنَّاسِ﴾، مِنْ صِلَةِ ﴿أُمَّةٍ﴾، أي: كنتم خير أمةٍ للنَّاسِ أُخْرِجَت، يعني: أفهم [[في (ج): (أنتم).]] خير أمَّة للنَّاس، تجيئون بهم في السلاسل، فتُدْخِلُونَهم في الإسلام. وهذا المعنى يُروى عن أبي هريرة [[ورد هذا عنه مرفوعا وموقوفًا، أما المرفوع فقد أخرجه: البخاري في "الصحيح" (3010) في الجهاد، باب الأسارى في السلاسل، ولفظه عنده من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "عجب ربنا من قوم يدخلون الجنة في السلاسل". وأخرجه أحمد مرفوعًا بنحو لفظ البخاري. انظر: "المسند" (شرح الشيخ شاكر): 15/ 168 (8000)، 18/ 48 (9260)، 19/ 33 (9781)، 66 (9890)، وأبو داود في "السنن" (2677) كتاب الجهاد، باب: (في الأسير يوثق). وابن حبان في "صحيحه" "الإحسان" 1/ 343 رقم (134). أما الموقوف، فقد أخرجه: البخاري (4557) في التفسير، سورة آل عمران، باب (7) ولفظه: (﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام). وأخرجه عنه كذلك: النسائي في "تفسيره" 1/ 318، والطبري في "تفسيره" == 4/ 44، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 732، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 98ب، وأورده البغوي في "تفسيره" 2/ 90، والسيوطي في "الدر" 2/ 113 وزاد نسبة إخراجه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم. ولكنيِّ لم أجده في مستدركه. قال ابن حبان في معناه: (والقصد في هذا الخبر: السَّبْيُ الذين يسبيهم المسلمون من دار الشرك مكتَّفِين في السلاسل يُقادون بها إلى دور الإسلام، حتى يُسْلِمُوا، فيدخلوا الجنة). "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 1/ 343 - 344. وقد نقل ابنُ حجر أقوال أهل العلم في شرحه. انظر: "فتح الباري" 6/ 145، 8/ 225.]]. وقال قتادة [[قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 99 أ، "تفسير البغوي" 2/ 89.]]: لم يُؤْمَرْ نَبِيٌّ وأمَّتُهُ بالقتال، إلّا هذه الأمَّة ونَبِيها، يُقاتِلُونَ، فَيَسْبُونَ الرُّومَ والتُّرْكَ والعَجَمَ، فَيُدْخِلونهم في دينهم، فهم خير أمَّة للنَّاس. ويُحتَمَلُ [[من قوله: (ويحتمل ..) إلى- (أخرجت للناس): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" 3/ 99 أ.]] أن يكون ﴿للِنَّاسِ﴾ [[في (ج): (من الناس).]] مِن [[من: ساقطة من (ج).]] صِلَةِ ﴿أُخْرِجَتْ﴾؛ ومعناه: ما أَخرَجَ [[في (ب): (فلا تخرج).]] [اللهُ] [[ما بين المعقوفين: في في (أ)، (ب): إليه. وهي ساقطة من: (ج). وليست في "تفسير الثعلبي". ورجَّحتُ أن أصلها كما أثبتُّه، وقد حُرِّفت إلى (إليه).]] للنَّاسِ أمَّةً، خيرًا [[في (ج): (خير).]] مِنْ أمَّةِ أحمد [[في (ج): (محمد).]]؛ فهم [[(من أمة أحمد فهم): ساقطة من: (ب).]] خير أمَّةٍ أُظْهِرَت [[في (ج): (ظهرت).]] وأُخْرِجَت للنَّاس. وقوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الظاهرُ أنَّ [[في (ج): (من).]] هذا مَدْحٌ لهذه الأمَّة بهذه الخصال، وإخبارٌ عنهم بهذه الجملة، وحُكِي عن مجاهد أنه قال [[قوله في "الطبري" 4/ 44، "الدر المنثور" 2/ 113 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.]]: الخَيْرِيَّةُ في هذه الأمَّةِ على هذه الشَّرِيطَةِ [[في (ب): (الطريقة).]]؛ يعني: كنتم خيرَ أُمَّةٍ، ما أَمَرْتُم بالمعروف، ونَهَيْتُم عن المنكر، وآمنتم بالله، وهذا أيضًا اختيار الزجاج [[في "معاني القرآن" له: 1/ 456.]]. والمَعْرُوفُ: كلُّ حَسَنٍ جميل، يُعرَفُ بجلالته، وعُلُوِّ قَدْرهِ [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 44، "اللسان" 5/ 2899 - 2900 (عرف)، و"التعريفات" للجرجاني: 221، و"التوقيف على مهمات التعاريف" 666.]]. ولا يجوز إطلاق هذه الصفة على القبيح، وإنْ كان يُعرَف، لأنه بمنزلة ما لا يُعْرَف؛ لخُمُولِهِ وسُقُوطِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب