قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ قد ذكر أن النجوى مصدر عند قوله: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ [[عند تفسيره الآية (114) من سورة النساء. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 104.]]. ويجوز أن يوصف به كما يقال: قوم نجوى، ومنه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء: 47]، والمعنى هم ذوو نجوى فحذف المضاف وكذلك كل مصدر وصف به.
فأما قوله: ﴿مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ قال أبو علي: يحتمل جر ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ أمرين:
أحدهما: أن يكون مجرورًا بإضافة ﴿نَجْوَى﴾ إليه كأنه ما يكون من سرار ثلاثةٍ، ويجوز أن يكون ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ جرًا على الصفة على قياس قوله: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [[انظر: "الحجة" 6/ 279، و"مثسكل إعراب القرآن" 2/ 723، و"الكشاف" 4/ 74.]] وهذا معنى قول الفراء: ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ إن شئت خفضتها على أنها من نعت النجوى، وإن شئت أضفت النجوى إليها [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 140، و"اللسان" 3/ 593 (نجا).]]، وبيانه أن النجوى إن جعلتها مصدرًا أضفتها إلى ثلاثة، وإن جعلتها بمعنى المتناجين جعلت (ثلاثة) صفة لها.
قال أبو إسحاق: ﴿نَجْوَى﴾ مشتق من النجوة، وهي ما ترتفع وتَنَحَّى [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 137.]]. والمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به.
ومعنى ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ أي ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئًا ويتناجون به [[انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 29.]]. ومعنى قول المفسرين في النجوى أنها إسرار. قال ابن عباس: ما من شيء تناجي به صاحبك [[انظر: "معالم التنزيل" 4/ 307، ولم ينسبه لقائل. ومن عبارة البغوي يتضح السقط هنا، ولعل العبارة: ما من شيء تناجي به صاحبيك إلا هو رابعهم. والله أعلم.]].
وقوله: ﴿إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ أي: إلا هو عالم به، وعلمه معهم لا يخفى عليه ذلك كما قال: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ [التوبة: 78]، وكقوله: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [[من آية (7) من سورة طه. قال ابن كثير -رحمه الله-؛ (ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضًا مع علمه محيط بهم، وبصره نافد فيهم، فهو -عَزَّ وَجَلَّ- مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء)، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 322.]] والمعنى: أن نجواهم معلومة عنده، كما تكون معلومة عند الرابع الذي يكون معهم.
{"ayah":"أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ مَا یَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَاۤ أَدۡنَىٰ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَیۡنَ مَا كَانُوا۟ۖ ثُمَّ یُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا۟ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ"}