قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن هذا جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، أي: يجعلون لله البناتِ، ثم أخبر أنَّ لهم ما يَشْتَهون. وجوَّز الفراء والحوفيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء أن تكونَ «ما» منصوبةَ المحلِّ عطفاً على «البناتِ» و «لهم» عطفٌ على «الله» ، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون.
قال الشيخ: «وقد ذَهَلُوا عن قاعدةٍ نحوية: وهو أنه لا يتعدَّى فِعْلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميره المتصل إلا في باب ظنَّ وفي عَدَمِ وفَقَد، ولا فرقَ بين أن يتعدَّى الفعلُ بنفسِه أو بحرفِ الجر، فلا يجوز:» زيدٌ ضربه «، أي: ضربَ نفسَه، ولا» زيدٌ مَرَّ به «، أي: مرَّ بنفسه، ويجوز: زيدٌ ظنَّه قائماً» ، و «زيدٌ فَقَده» و «عَدِمه» ، أي: ظنَّ نفسَه قائماً وفَقَد نفسه وعَدِمها. إذ تقرَّر هذا فَجَعْلُ «ما» منصوبةً عطفاً على «البنات» يؤدِّي إلى تعدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصل وهو واو / «يَجْعَلون» إلى ضميرِه المتصل، وهو «هم» في «لهم» . انتهى ملخصاً.
وما ذكره يحتاج إلى إيضاحٍ أكثرَ مِنْ هذا فأقول فيها مختصراً: اعلمْ أنه لا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصلِ ولا فعلِ الظاهرِ إلى ضميرِهما المتصلِ، إلا في بابِ ظَنَّ وأخواتِها من أفعال القلوب، وفي فَقَد وعَدَمِ، فلا يجوز: «زيد ضربه» ولا «ضربه زيد» ، أي: ضربَ نفسه. ويجوز: «زيد ظنَّه قائماً» ، وظنَّه زيدٌ قائماً، و «زيد فَقَده وعَدِمه» ، و «فَقَدَه وعَدِمَه زيد» ، ولا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ظاهره في بابٍ من الأبواب، لا يجوز «زيداً ضرب» ، أي: ضربَ نفسَه.
وفي قولي: «إلى ضميرِهما المتصلِ» قيدان أحدُهما: كونُه ضميراً فلو كان ظاهراً كالنفس لم يمتنع نحو: «زيدٌ ضَرَبَ نفسَه» و «ضَرَبَ نفسَه زيدٌ» . والثاني: كونُه متصلاً، فلو كان منفصلاً جاز نحو: «زيدٌ ما ضربَ إلا إياه» ، و «ما ضرب زيدٌ إلا إياه» ، وعِلَلُ هذه المسألةِ وأدلتُها موضوعُها غيرُ هذا الموضوعِ، وقد أَتْقَنْتُها في «شرح التسهيل» .
وقال مكي: «وهذا لا يجوزُ عند البصريين، كما لا يحوز جعلتُ لي طعاماً، إنما يجوز: جعلتُ لنفسي طعاماً، فلو كان لفظُ القرآن» ولأنفسِهم ما يَشْتَهون «جاز ما قال الفراء عند البصريين. وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليلٍ وبَسْطٍ كثير» .
قلت: ما أشارَ إليه من المَنْعِ قد عَرفْتَه ولله الحمدُ مما قدَّمْتُه لك.
وقال الشيخ بعد ما حكى أنَّ «ما» في موضعِ نصبٍ عن الفراءِ ومَنْ تبعه: «وقال ابو البقاء - وقد حكاه -: وفيه نظرٌ» . قلت: وأبو البقاء لم يجعلِ النظرَ في هذا الوجه، إنما جعله في تضعيفه بكونِه يؤدِّي إلى تَعَدِّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ ما اسْتُثْني فإنه قال: «وضَعَّف قومٌ هذا الوجهَ وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ» فجعل النظرَ في تضعيفِه لا فيه.
وقد يُقال: وَجْهُ النظرِ الممتنعُ تعدَّي ذلك الفعلِ، أي: وقوعُه على ما جُرَّ بالحرف نحو: «زيدٌ مَرَّ به» فإن المرورَ واقعٌ بزيد، وأمَّا ما نحن فيه فليس الجَعْلُ واقعاً بالجاعِلِين، بل بما يَشْتهون، وكان الشيخُ يَعْترض دائماً على القاعدةِ المتقدمةِ بقوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] والجوابُ عنهما ما تقدَّم: وهو أنَّ الهَزَّ والضَّمَّ ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا في مكانٍ آخرَ، وإنما أَعَدْتُه لصعوبتِه وخصوصيةِ هذا بزيادةِ فائدةٍ.
{"ayah":"وَیَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَـٰتِ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَلَهُم مَّا یَشۡتَهُونَ"}