الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والأرْضَ مَدَدْناها وألْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ ﴿وجَعَلْنا لَكم فِيها مَعايِشَ ومَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ الدَّلائِلَ السَّماوِيَّةَ في تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ أتْبَعَها بِذِكْرِ الدَّلائِلِ الأرْضِيَّةِ، وهي أنْواعٌ: النوع الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والأرْضَ مَدَدْناها﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَسَطْناها عَلى وجْهِ الماءِ، وفِيهِ احْتِمالٌ آخَرُ، وذَلِكَ لِأنَّ الأرْضَ جِسْمٌ، والجِسْمُ هو الَّذِي يَكُونُ مُمْتَدًّا في الجِهاتِ الثَّلاثَةِ، وهي الطُّولُ والعَرْضُ والثُّخْنُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَتَمَدُّدُ جِسْمِ الأرْضِ في هَذِهِ الجِهاتِ الثَّلاثَةِ مُخْتَصٌّ بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ لِما ثَبَتَ أنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَناهِيًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ تَمَدُّدُ جِسْمِ الأرْضِ مُخْتَصًّا بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أنَّ الِازْدِيادَ عَلَيْهِ مَعْقُولٌ، والِانْتِقاصَ عَنْهُ أيْضًا مَعْقُولٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ اخْتِصاصُ ذَلِكَ التَّمَدُّدِ بِذَلِكَ القَدْرِ المُقَدَّرِ مَعَ جَوازِ حُصُولِ الأزْيَدِ والأنْقَصِ اخْتِصاصًا بِأمْرٍ جائِزٍ وذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ، وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى. فَإنْ قِيلَ: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: ﴿والأرْضَ مَدَدْناها﴾ عَلى أنَّها بَسِيطَةٌ ؟ قُلْنا: نَعَمْ لِأنَّ الأرْضَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِها كُرَةً، فَهي كُرَةٌ في غايَةِ العَظَمَةِ، والكُرَةُ العَظِيمَةُ يَكُونُ كُلُّ قِطْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِنها، إذا نُظِرَ إلَيْها فَإنَّها تُرى كالسَّطْحِ المُسْتَوِي، وإذا كانَ كَذَلِكَ زالَ ما ذَكَرُوهُ مِنَ الإشْكالِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والجِبالَ أوْتادًا﴾ [النَّبَأِ: ٧] سَمّاها أوْتادًا مَعَ أنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ عَلَيْها سُطُوحٌ عَظِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ، فَكَذا هَهُنا. النوع الثّانِي: مِنَ الدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وألْقَيْنا فِيها رَواسِيَ﴾ وهي الجِبالُ الثَّوابِتُ، واحِدُها راسِي، والجَمْعُ راسِيَةٌ، وجَمْعُ الجَمْعِ رَواسِي، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النَّحْلِ: ١٥] وفي تَفْسِيرِهِ وجْهانِ: الوجه الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا بَسَطَ اللَّهُ تَعالى الأرْضَ عَلى الماءِ مالَتْ بِأهْلِها كالسَّفِينَةِ فَأرْساها اللَّهُ (p-١٣٦)تَعالى بِالجِبالِ الثِّقالِ؛ لِكَيْلا تَمِيلَ بِأهْلِها. فَإنْ قِيلَ: أتَقُولُونَ إنَّهُ تَعالى خَلَقَ الأرْضَ بِدُونِ الجِبالِ فَمالَتْ بِأهْلِها فَخَلَقَ فِيها الجِبالَ بَعْدَ ذَلِكَ أوْ تَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأرْضَ والجِبالَ مَعًا ؟ . قُلْنا: كِلا الوَجْهَيْنِ مُحْتَمَلٌ. والوجه الثّانِي: في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وألْقَيْنا فِيها رَواسِيَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى خَلَقَها لِتَكُونَ دَلالَةً لِلنّاسِ عَلى طُرُقِ الأرْضِ ونَواحِيها؛ لِأنَّها كالأعْلامِ فَلا تَمِيلُ النّاسُ عَنِ الجادَّةِ المُسْتَقِيمَةِ، ولا يَقَعُونَ في الضَّلالِ وهَذا الوجه ظاهِرُ الِاحْتِمالِ. النوع الثّالِثُ مِنَ الدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البحث الأوَّلُ: أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿وأنْبَتْنا فِيها﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ راجِعًا إلى الأرْضِ، وأنْ يَكُونَ راجِعًا إلى الجِبالِ الرَّواسِي، إلّا أنَّ رُجُوعَهُ إلى الأرْضِ أوْلى؛ لِأنَّ أنْواعَ النَّباتِ المُنْتَفَعِ بِها إنَّما تَتَوَلَّدُ في الأراضِي، فَأمّا الفَواكِهُ الجَبَلِيَّةُ فَقَلِيلَةُ النَّفْعِ، ومِنهم مَن قالَ: رُجُوعُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إلى الجِبالِ أوْلى؛ لِأنَّ المَعادِنَ إنَّما تَتَوَلَّدُ في الجِبالِ، والأشْياءُ المَوْزُونَةُ في العُرْفِ والعادَةِ هي المَعادِنُ لا النَّباتُ. البحث الثّانِي: اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالمَوْزُونِ وفِيهِ وُجُوهٌ: الوجه الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ مُتَقَدِّرٌ بِقَدْرِ الحاجَةِ. قالَ القاضِي: وهَذا الوجه أقْرَبُ؛ لِأنَّهُ تَعالى يَعْلَمُ المِقْدارَ الَّذِي يَحْتاجُ إلَيْهِ النّاسُ، ويَنْتَفِعُونَ بِهِ فَيُنْبِتُ تَعالى في الأرْضِ ذَلِكَ المِقْدارَ، ولِذَلِكَ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا لَكم فِيها مَعايِشَ﴾ لِأنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ الَّذِي يَظْهَرُ بِالنَّباتِ يَكُونُ مَعِيشَةً لَهم مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: بِحَسَبِ الأكْلِ والِانْتِفاعِ بِعَيْنِهِ. والثّانِي: أنْ يَنْتَفِعَ بِالتِّجارَةِ فِيهِ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ قالُوا: الوَزْنُ إنَّما يُرادُ لِمَعْرِفَةِ المِقْدارِ، فَكانَ إطْلاقُ لَفْظِ الوَزْنِ لِإرادَةِ مَعْرِفَةِ المِقْدارِ مِن بابِ إطْلاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلى المُسَبِّبِ قالُوا: ويَتَأكَّدُ ذَلِكَ أيْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ [الرَّعْدِ: ٨] وقَوْلُهُ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحِجْرِ: ٢١] . والوجه الثّانِي: في تَفْسِيرِ هَذا اللَّفْظِ أنَّ هَذا العالَمَ عالَمُ الأسْبابِ واللَّهُ تَعالى إنَّما يَخْلُقُ المَعادِنَ والنَّباتَ والحَيَوانَ بِواسِطَةِ تَرْكِيبِ طَبائِعِ هَذا العالَمِ، فَلا بُدَّ وأنْ يَحْصُلَ مِنَ الأرْضِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ ومِنَ الماءِ والهَواءِ كَذَلِكَ، ومِن تَأْثِيرِ الشَّمْسِ والكَواكِبِ في الحَرِّ والبَرْدِ مِقْدارٌ مَخْصُوصٌ، ولَوْ قَدَّرْنا حُصُولَ الزِّيادَةِ عَلى ذَلِكَ القَدْرِ المَخْصُوصِ، أوِ النُّقْصانِ عَنْهُ لَمْ تَتَوَلَّدِ المَعادِنُ والنَّباتُ والحَيَوانُ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قَدَّرَها عَلى وجْهٍ مَخْصُوصٍ بِقُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ، فَكَأنَّهُ تَعالى وزَنَها بِمِيزانِ الحِكْمَةِ حَتّى حَصَلَتْ هَذِهِ الأنْواعُ. والوجه الثّالِثُ: في تَفْسِيرِ هَذا اللَّفْظِ: أنَّ أهْلَ العُرْفِ يَقُولُونَ: فُلانٌ مَوْزُونُ الحَرَكاتِ أيْ: حَرَكاتُهُ مُتَناسِبَةٌ حَسَنَةٌ مُطابِقَةٌ لِلْحِكْمَةِ، وهَذا الكَلامُ كَلامٌ مَوْزُونٌ إذا كانَ مُتَناسِبًا حَسَنًا بَعِيدًا عَنِ اللَّغْوِ والسُّخْفِ، فَكَأنَّ المُرادَ مِنهُ أنَّهُ مَوْزُونٌ بِمِيزانِ الحِكْمَةِ والعَقْلِ، بِالجُمْلَةِ فَقَدْ جَعَلُوا لَفْظَ المَوْزُونِ كِنايَةً عَنِ الحُسْنِ والتَّناسُبِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ أيْ: مُتَناسِبٍ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ عِنْدَ العُقُولِ السَّلِيمَةِ بِالحُسْنِ (p-١٣٧)واللَّطافَةِ ومُطابَقَةِ المَصْلَحَةِ. والوجه الرّابِعُ في تَفْسِيرِ هَذا اللَّفْظِ: أنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَنْبُتُ مِنَ الأرْضِ نَوْعانِ: المَعادِنُ والنَّباتُ؛ أمّا المَعادِنُ فَهي بِأسْرِها مَوْزُونَةٌ وهي الأجْسادُ السَّبْعَةُ والأحْجارُ والأمْلاحُ والزّاجّاتُ وغَيْرُها. وأمّا النَّباتُ فَيَرْجِعُ عاقِبَتُها إلى الوَزْنِ؛ لِأنَّ الحُبُوبَ تُوزَنُ، وكَذَلِكَ الفَواكِهُ في الأكْثَرِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب